من النتائج الإيجابية لمعارض الكتب الناجحة قدرتها على إشاعة مناخ ثقافى خلال الفترة التى تقام فيها بحيث تتحول إلى مناسبة يتجمع فيها كل من يضمه هذا الحقل سواء كانوا من منتجى الثقافة أو ناشريها وموزعيها، يتعدى الأمر هنا الفعل الأساسى للمعرض المتمثل فى بيع الكتب إلى توفير الفرصة للفاعلين الثقافيين للالتقاء والتحاور حول الثقافة وصناعتها، فمع تواجد كل الأطراف على أرض واحدة يحدث أن تتلاقى وتُتبادل وجهات النظر وهو ما يعد بخلق بيئة ثقافية أكثر احترافية يفيد منها أطراف العملية بصورة أكثر عدالة. الملاحظة الأساسية على هذه الدورة لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، ومن أيامها الأولى، ما أشاعه حضور الضيوف من دول أخرى، وبخاصة الضيوف العرب من حيوية، ذلك أنه ليس مجرد تواجد فردى لمبدعين وكتاب ومثقفين يأتى حضورهم استجابة لجمهور ينتظرهم فى قاعات الندوات، كما كان عليه الحال فى معرض مدينة نصر، لم يتغير مكان المعرض فقط بل وعبر السنوات يطرأ عليه تغير فى الاستراتيجيات وفلسفة عمله. الحضور العربى والأجنبى خلال الدورة الحالية يتخذ أشكالًا مغايرة عما مضى ويبدو كأن من بين أولوياته استكشاف آليات العمل الثقافى المصرى وإمكاناتها على المستويات الفردية والمؤسسية معًا، وذلك تلبية لرغبات واقعية فى إعادة بناء تواصل ثقافى مع القاهرة بعد ما طرأ عليه من انقطاعات تأثرًا بالمتغيرات العالمية والإقليمية المتسارعة منذ الربيع العربى، خاصة وأن تأثيرات تلك المتغيرات قد تضاعفت بخروج أجيال ثقافية من المشهد بكامل أفكارها وتوجهاتها وحلول أجيال أخرى مكانها مدعومة بأفكار وآليات تعتمد على الواقع ومتطلباته أكثر مما تهتدى فى عملها بمانفيستو نظرى سابق التجهيز من قِبل آخرين. فعاليات ثقافية عدة أقيمت على هامش معرض الكتاب سواء ما كان منها على مستوى رسمى، أو بتنظيم الفاعلين الثقافيين المستقلين والسمة الغالبة على هذه اللقاءات كانت الرغبة، سواء مضمرة أو معلنة، فى إيجاد أشكال أكثر فاعلية للتعاون الثقافى. من ضمن هذه الأنشطة حفل العشاء الذى نظمته دار النشر الكويتية «كلمات»، والحفل الذى أقامته دار الشروق بمناسبة فوز الناشر الكبير إبراهيم المعلم بجائزة «بطل النشر» الدولية، والاحتفال الذى أقامه اتحاد الناشرين للمناسبة ذاتها، ومن الأنشطة المهمة أيضًا النسخة الثامنة من برنامج معرض الكتاب المهنى «كايرو كولينج» ثم أخيرًا وليس آخرًا التعاون الرسمى بين وزارة الثقافة المصرية ونظيرتها الفنزويلية والذى يقع ضمن جدوله استضافة مصر كضيف شرف فى معرض فنزويلا للكتاب 2025. اعتدنا على هذا النوع من الأنشطة خلال دورات ماضية لكن الملاحظ أنه فى دورة هذا العام يكتسب زخمًا وفاعلية أكبر إلى الحد الذى يبدو به أنه يسحب من رصيد برنامج ندوات معرض الكتاب، وهذه ليست النقطة الأساسية، فالأهم أن نظرة مدققة على هذه الأنشطة والحوارات التى تدور فيها يعطى الانطباع بأن ثمة فرصة مهيأة لتثبيت مكانة القاهرة بوصفها مركزًا إقليميًا لصناعة الثقافة لكن وفق توافقات مختلفة هذه المرة، سيكون من المبكر للغاية توصيف هذا الاختلاف أو تسميته لكن أحدًا لن يغيب عنه أن فلسفة العمل الثقافى قد شملها تغير كامل وأن مفهومها كصناعة أصبح سابقاً على مفاهيم أخرى مثل الرسالة الثقافية المدعومة من قبل الدول، وأنه لا بد من انخراط أطراف العمل الثقافى فى مناقشة جادة وواضحة حول المفهومين لتحديد الاحتياجات الثقافية التى لا بد من الاستمرار فى دعمها. ليس فى التأكيد على قابلية الثقافة المصرية لتنظيم حوار فاعل مع ثقافات إقليمية، وربما عالمية، تكرار لخطاب ذاتى تمجيدى بل سعى لقراءة الواقع الثقافى المصرى على حقيقته وعلى رأس ذلك سؤال أولى عن توافر الرغبة فى الانفتاح على المراكز الثقافية الأخرى لتأسيس شراكات هدفها المنتج الثقافى والفني، ويعنى هذا بداهة النظر فى البنية الثقافية المصرية، الأسس التى تقوم عليها، الركائز المتبقية والتى يمكن إعادة استغلالها وتلك التى تحتاج إلى بناء، فلسفة وزارة الثقافة نفسها التى يبدو أن العقل المخطط لها لم ينسجم بعد مع جهازها الإدارى العاجز عن التطور. مكونات الثقافة المصرية الغنية تمنح الوعد بإمكانية إقامة حوار بات ضروريًا وملحًا للمنطقة بأسرها، الثقافة فى أى وقت تعبير عن زمنها وسعى إلى فهمه ووضع آليات للتعامل معه، وأسئلة زمننا هذا، المطروحة على المثقف ليجيب عنها معقدة، يكفينا التفكير فى ممارسات: الإلغاء والمحو والإبادة، التى تسعى قوى عالمية لترسيخها كمفاهيم علينا القبول بها اضطرارًا، هذه وغيرها كالوجود الإنسانى المهدد بفعل الآلة والطبيعة أسئلة لن يضع أطر وأساليب التعاطى معها سوى الثقافة. لكن الأمر المعقد فى الثقافة وممارستها أنه بينما تجيب عن الأسئلة الجادة والخطرة مثل هذه فإنه من الضرورى توافر الوعى الأساسى بشروط إنتاجها: الحرية والاختلاف والتنوع، وإدراك أن تحول التفكير إلى أجندة موضوعة سلفًا بغية الوصول إلى نتائج بعينها هو قرار بفشل الحوار الثقافى من قبل أن يبدأ، المثقف فى عملية التفكير والبحث ليس موظفًا يعد تقريرًا عن مآلات الأشياء مصائرها، فالمفردات كلها قابلة للبحث والنقاش وحده سبيل تأكيد أو نفى الإجابات. من الضرورى فى سياق كهذا النظر إلى الإقبال الجماهيرى على معرض القاهرة للكتاب، وفهم أنه يعكس، فى أحد جوانبه الأساسية، الاحتياج الثقافى الذى توقفت المؤسسات عن الوفاء به. لن يفيدنا النظر فى الأسباب والمسببات الآن بقدر التركيز على قراءة الواقع.. معرض الكتاب يكاد، أو هو على الأغلب، المناسبة الوطنية الوحيدة القادرة على جمع وإبراز المكونات المصرية تحت ظلها، وفى الوقت نفسه فهو الفعالية القادرة على توفير المناخ الملائم للحوار مع المراكز الأخرى، ما يعنى أننا فى حاجة إلى معرض القاهرة للكتاب طوال العام بأنشطة رسمية داخل القاعات وأخرى موازية تنتشر فى أنحاء العاصمة وقد تمتد إلى المحافظات وساعتها سنكتشف ما لدينا من مراكز ومكتبات وقصور ثقافة وأوبرا ومتاحف ومسارح وقدرتها على تنظيم واستضافة الفعاليات، والأنشطة الأنسب التى بمقدورها جذب الجمهور إليها لتلبى هذه الأماكن الوظيفة التى تأسست لأجلها. كما سبق فإن أهمية اللقاءات والأنشطة المقامة على هامش معرض الكتاب أنها توفر الفرصة لتبادل الخبرات واستكشاف سبل التواصل بشكل واقعى، وفى هذا الإطار فقد شرفنا بالزيارة لمقر «أخبار الأدب» وفد من سلطنة عمان ضم الكتاب: هدى حمد، هلال البادى، عبد الرحمن المسكرى، دار نقاش ثرى حول الصحافة والثقافة والأدب، تركز فى مجمله على الأوضاع الثقافية فى كلا البلدين، المعوقات والمشاكل بشكل رئيسى باعتبار أن حلها يسمح بانطلاق المشاريع الثقافية، كان مدهشًا لطرفى اللقاء تشابه الأوضاع إلى حد كبير، كما تشابهت الرؤى حول الحلول التى نراها حتمية إن رغبنا فى تحرير الفعل الثقافى. كلام مشابه يقوله الفاعلون الثقافيون من مصر ومن دول عربية ومن مجالات مختلفة، مفاده أن ثمة أموراً عاجلة لا بد من القيام بها على المستوى الثقافى فى ملفات طال تأجيلها.. ومن شأن التعامل معها بجدية وواقعية بداية ممارسة ثقافية حقيقية.