«سيدى رئيس الإدارة الأمريكية المنتخب دونالد ترامب، إذا كنت قلقًا على الفلسطينيين حقًا، وتبحث عن مكان لاستيعاب سكان قطاع غزة، فلماذا لا تنقلهم جميعًا إلى الولاياتالمتحدة؟». دون مواربة أو مراعاة لتوازنات، استهل الكاتب الصحفى الإسرائيلى المخضرم جاكى خورى مقاله المنشور فى صحيفة «هاآرتس» بتلك الفقرة. وفى تعبيره عن شريحة تغاير توجه تيار اليمين المتطرف فى إسرائيل، اعتبر الكاتب أن فكرة ترامب الرامية إلى نقل أكثر من مليونى فلسطينى من القطاع، تعكس مدى جنوح الرئيس الجمهورى لأيدلوجيات أكثرية مستشاريه فى البيت الأبيض، التى تنطلق بالأساس من منظور استعمارى كلاسيكي. «هاآرتس» وكاتبها المحسوبان على تيار اليسار الإسرائيلي، عارضا صياغة قاطن المكتب البيضاوى لمستقبل القطاع المأزوم، وارتابا فعليًا فى تباينها مع تصريحات مبعوث الرئيس الأمريكى ذاته ستيف ويتكوف حين أكد أن «واشنطن تحترم سيادة الدول، ولن تتدخل فى شؤون غيرها». الصحيفة العبرية زادت فى افتتاحية صادرة بتاريخ 27 يناير 2025، أو بالأحرى بعد ساعات من تصريح ترامب المثير، مشيرة إلى أن «رئيس الولاياتالمتحدة المنتخب دونالد ترامب يبحث عن مكان لنقل سكان قطاع غزة، ولا يضع فى حساباته حقيقة تعداد سكان القطاع البالغ 2 مليون نسمة تقريبًا بين رجل وامرأة وطفل، يعتبرون القطاع أرضهم ومنزلهم». وتحت عنوان: «رؤية الرئيس ترامب العقارية فى قطاع غزة قد تهز الترتيبات الاستراتيجية فى المنطقة»، رأى الكاتب الإسرائيلى تسيفى بارئيل أن «أزمة قطاع غزة ومحاولة ترامب حلها عبر تهجير السكان لا تثير امتعاض مصر والأردن فقط، إنما تؤثر على علاقات الدول العربية كافة بواشنطن، وتضع الأنظمة العربية بما فى ذلك الأنظمة التى تعتبر حلفاء استراتيجيين للولايات المتحدة أمام حتمية التعامل مع الضغوطات الشعبية التى يثيرها تطبيق مشروع التهجير القسرى من القطاع، بالإضافة إلى أن هذا المشروع يحبط مبكرًا آمال السلام الشامل والعادل فى المنطقة. ولا ينعزل موقف الأصوات الإسرائيلية الرافضة لمشروع ترامب عن موقف سابق، عزا محاولات تهجير الغزاويين من القطاع إلى أكثر من خطة تهجير، حاول اليمين المتطرف تمريرها على وقع بداية العدوان السافر على القطاع. وحذر الصحفى الإسرائيلى نتانال شلوموفيتش من ما وصفه بتحكم اليمين المتطرف فى قرارات المستوى السياسي، وتنسيقاته غير المحدودة مع تيارات يمينية فى الولاياتالمتحدة، وانعكاس كل ذلك على قرارات البيت الأبيض، لا سيما أفكار ترامب الأخيرة ذات الصلة بقطاع غزة. وألقى شلوموفيتش باللائمة على توغل ما يُعرف ب«منتدى كوهيلت» فى دوائر صنع القرار الإسرائيلي. وفى تعريفه للمنتدى وأنشطته، أكد الكاتب الإسرائيلى أنه منظمة تنتمى فى جذورها إلى اليمين المتطرف داخل وخارج إسرائيل، ذاد نشاطها فى ديسمبر 2022، وهو تاريخ تشكيل الائتلاف الحكومى المتطرف برئاسة بنيامين نتانياهو؛ وعمد نشاط المنتدى والمؤسسات التابعة له إلى إعادة تشكيل توجه اليمين الإسرائيلى إزاء قضايا داخلية وخارجية. ربما تفاعل المنتدى المتطرف مع قضية غزة أكثر من غيرها، فإلى جانب وقوفه وراء صياغة وتمرير مشروعات عنصرية، جاء فى طليعتها قانون يهودية إسرائيل، والتغوُّل على صلاحيات المؤسسات القضائية الإسرائيلية فيما عُرف بقانون الإصلاحات القضائية، لعب دورًا محوريًا فى إعداد أكثر من خطة لتهجير سكان القطاع المأزوم. وإلى جانب آلة الحرب الإسرائيلية، أطلق رئيس ما يعرف بالمعسكر الليبرالى فى حزب «الليكود» أمير وايتمان خطة، روَّج لها معهد «مسجاف» للأمن القومى والاستراتيجية الصهيونية، وهو إحدى المؤسسات التابعة للمنتدى اليميني؛ ونصَّت الخطة على تهجير الغزاويين من القطاع إلى مصر، وتوصية المستوى العسكرى بتسوية مبانى القطاع بالأرض، وتصدير أزمة إنسانية على حدود مصر مع جنوب قطاع غزة، وحشد المجتمع الدولى لتأييد فكرة تهجير الغزاويين بداعى الهروب من جحيم الحرب الدائرة. ورغم ثبات الموقف المصرى الرافض لتفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها، وإصرار الفلسطينيين على الصمود أمام جرائم الحرب، إلا أن صقور اليمين الإسرائيلى تحالفت مع جماعات الضغط الأمريكية ولم تكن بعيدة بحال من الأحوال عن آذان البيت الأبيض وقاطنه الجديد. لكن الكاتبة الإسرائيلية ليئور بن آرى اعتبرت دعوات «تطهير» القطاع من الغزاويين دليل على أن «ترامب فى خدمة اليمين الإسرائيلى المتطرف». وفى مقالها المنشور بصحيفة «يديعوت أحرونوت» أوضحت الكاتبة أن الرئيس الجمهورى أذهل الأكثرية داخل إسرائيل وخارجها حين اقترح إجلاء سكان غزة إلى مصر والأردن»، مستبعدة فرص تطبيق الرؤية، وقالت: «لا أؤيد ذلك. ولا أعرف ما الذى يتحدث عنه ترامب، إنها فكرة غير عملية». وفى محاولة لإبداء الريبة البالغة من المقترح، ألمحت الكاتبة الإسرائيلية إلى أنها وغيرها اعتادوا سماع تلك الدعوات من اليمين الإسرائيلي، لكن الأغرب هو صدورها على لسان رئيس أقوى دولة فى العالم. وبعيدًا عن اعتراض مصر والأردن على المقترح، تمدَّد الاعتراض، حسب الكاتبة الإسرائيلية، إلى أكثر من دولة، وسارعت دول مثل ألبانيا وإندونيسيا وفرنسا فى رفض المقترح؛ وبينما تقاطرت عواصم أخرى لتبنى الموقف المصرى والأردني، اعتبر السيناتور الأمريكى بيرنى ساندرز دعوة التهجير من قطاع غزة «تطهير عرقى وجريمة حرب جديدة فى حق الفلسطينيين». وفيما حمل تلميحًا برغبة الرئيس ترامب تسريع وتيرة «إنجازات إدارته» خلال ال100 يوم الأولى من عمرها، قال المحلل العسكرى الإسرائيلى يارون بن يشاى إنه «رغم الصعوبات التى ينطوى عليها تطبيق مراحل اتفاق وقف إطلاق النار فى قطاع غزة، إلا أن الرئيس الأمريكى المنتخب قفز بسرعة إلى «اليوم التالي» فى القطاع، وأضاف الكاتب فى مقاله المنشور بصحيفة «يديعوت أحرونوت»: «الأمر الأكثر إلحاحًا حاليًا هو تمرير صفقة عودة الرهائن، ولابد من التركيز على تجاوز الأزمة الراهنة أولًا».