دخل وقف إطلاق النار فى غزة حيز التنفيذ، بعد عدوان إرهابى شنته قوات الاحتلال الإسرائيلي على القطاع، منذ 15 شهرا وبشكل متواصل، لم ترحم فيه ضعيفا أو تعتبر فيه لأى حقوق، فى ماكينة لا تتوقف ولا ينضب زيتها، قتلت إسرائيل بدم بارد 46 ألف فلسطينى، ثلثاهم من النساء والأطفال، هذا العدد كان لمن تمكن الأهالى من انتشال جثمانه ودفنه، لكن آلافا آخرين لم يتمكنوا من استخراج جثامينهم من تحت الأنقاض أو استرجاعها من حوزة الاحتلال أو الاستدلال على أماكن وجودها، وربما تكون اختفت الملامح بفعل التحلل، لكن الموت لم يقضِ على هؤلاء فقط، إذ عرف الناجون أشكالًا من التعذيب النفسى والجسمانى فى شكل إصابات رأوا أن الموت أرحم منها. ■ العودة وسط الدمار هناك مفهوم يعرف ب«الموت الاجتماعي»، وهو عندما يتم التعامل مع حفنة من الأشخاص على أنهم ميتون فعلا أو غير موجودين بالمرة، وكان هذا بدقة ما كشف عنه جنود يتبعون جيش الاحتلال، وقد أفصحوا لوكالة أسوشيتدبرس الأمريكية عن أنهم تلقوا أوامر بالتعامل مع الفلسطينيين على أنهم أقل من البشر! ووفقًا لتقرير لمجلة التايمز، فقد أدى القصف الإسرائيلى والعمليات البرية إلى تحويل أحياء بأكملها فى العديد من المدن إلى مناطق قاحلة مليئة بالركام، مع هياكل محترقة من المبانى وأكوام من الحطام تمتد فى كل الاتجاهات، لقد تم تجريف الطرق الرئيسية والبنية التحتية الحيوية للمياه والكهرباء فى حالة خراب ومعظم المستشفيات لم يعد يعمل، وليس من الواضح متى - أو حتى ما إذا كان سيتم إعادة بناء الكثير منها. وباستخدام بيانات الأقمار الصناعية، قدرت الأممالمتحدة الشهر الماضى أن 69% من المبانى فى غزة تعرضت للضرر أو الدمار، بما فى ذلك أكثر من 245 ألف منزل، وتُشير تقديرات البنك الدولى إلى أن الأضرار بلغت 18.5 مليار دولار وهو ما يعادل تقريبا الناتج الاقتصادى المشترك للضفة الغربيةوغزة فى عام 2022 نتيجة للأشهر الأربعة الأولى فقط من الحرب، ومع ذلك، بقى الفلسطينيون ليكون البقاء فى ذاته الانتصار، وبذلك يكون أهم داعم لهم فى ذلك البقاء هو مصر، التى رفضت بشدة الضغوط الدولية الشديدة لفتح المعبر وتسهيل التهجير، ووضعت خطا أحمر جليا للجميع بأن التهجير مرفوض رفضا تاما، فالأرض ليست للبيع، ولن تنعم إسرائيل بأراضٍ عربية وأن إرادة وصبر الشعوب هو سلاحها الأول، ربما الوقت لايزال مبكرا لاستخلاص الدروس مما حدث.. لكن، باختصار، أعادت الحرب تعريف مفاهيم النصر والهزيمة من أبعادها السياسية والعسكرية وكذلك الاجتماعية.. وربما سيتم بالبحث والتحليل دراسة ما حدث لعقود قادمة، الكل خسر إلا الشهداء فازوا بالجنة. ■ عواقب إنسانية وخيمة على الفلسطينيين في غزة ◄ اقرأ أيضًا | أكذوبة إسرائيل الكبرى.. حقائق الآثار تبدد أوهام خرائط الصهيونية الملفقة ◄ وقف إطلاق النار قال الرئيس الأمريكى السابق جو بايدن إن الاتفاق الذى تم التوصل إليه بناءً على الصيغة المقترحة فى شهر مايو الماضى، يضمن فعليا وقف إطلاق النار بشكل دائم حتى ولو لم ينص على ذلك صراحة، وفى المؤتمر الصحفى الذى عقده فور الإعلان عن توصل المفاوضون والوسطاء للاتفاق، إن وقف إطلاق النار بصورة دائمة سيستلزم مفاوضات تعقد بعد نهاية المرحلة الأولى من الاتفاق، تلك التى تشمل تبادل بعض من الأسرى الإسرائيليين مقابل العشرات من الفلسطينيين وانسحاب الاحتلال من مناطق واسعة بشكل تدريجى بما يضمن للفلسطينيين حرية الحركة والتنقل مرة أخرى فى القطاع. أضاف بشكل واضح، أنه حتى لو تعثرت مفاوضات وقف إطلاق النار بشكل دائم فستظل الهدنة سارية حتى التوصل لاتفاق لاحق.. وهو ما يعنى عمليا انتهاء الحرب إذا ما تم التوصل لاتفاق يتعلق بترتيبات ما يعرف ب«اليوم التالى» للقطاع، لكن لا يخفى على أحد كما شق هذا الاتفاق الذى أجبر عليه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الصف داخل حكومته.. ووضعه فى مواجهة مباشرة مع أئمة اليمين المنفلت، وقد استقال بالفعل أحدهم وهو وزير الأمن الداخلى إيتمار بن غفير. وأثار موقف نتنياهو فضولًا كبيرًا لمعرفة نوع الضغط الذى مورس عليه للموافقة على هذه الصفقة، وكشفت تقارير أمريكية آخرها ما نشرته صحيفة معاريف عن أن نتنياهو تلقى رسالة غير مباشرة من ترامب عبر مبعوثه للمفاوضات التى أخبرته بأن الرئيس الأمريكى لا يعتبره شخصا مفضلا، وأنه يكن استياءً تجاهه، كما قال محللون لمجلة نيوزويك إن نتنياهو بات يتمنى رضاء ترامب أكثر من رضاء اليمين المتشدد فى حزبه، ويتساءل مراقبون عما إذا كانت هذه الفترة القادمة كافية لأن تبدأ التحقيقات داخل إسرائيل فى الإخفاقات السياسية والعسسكرية منذ ما قبل 7 أكتوبر 2023، فى ضوء حالة الاستياء العارمة من نتنياهو فى الشارع الإسرائيلي. ◄ سياسة ترامب لكن لماذا رغب ترامب فى وقف هذا الإرهاب فى غزة؟.. والواقع أن هذه الموجة الجهنمية من العنف فى الشرق الأوسط، مع استمرارها، تنذر بعواقب خطيرة محتملة، لا تتعلق فقط بانتقال الصراع المسلح لجبهات أخرى، لكنها كذلك قد تسفر عن تداعيات أمنية واقتصادية ليست فى مصلحة الولاياتالمتحدة.. هذا العدوان الذى ربما رآه ترامب حربا عبثية لن تنجح فيها اسرائيل أبدا، قد يصبح الانفلات فيها أسهل من السيطرة، كما قد تستدعى أطرافا أخرى للتدخل فى ساحات إقليمية قد تشهد حروبا عبر الوكالة وقد تجبر الولاياتالمتحدة لاحقا للتدخل لصالح إسرائيل، وترامب كان واضحا منذ فوزه فى التأكيد على أن بلاده لن تنخرط فى حروب خارجية.. الحروب المحتملة كذلك قد تؤدى إلى صعود التيارات المتطرفة، وقد تؤدى إلى اضطراب فى أسعار الطاقة وسلاسل الإمداد. وفى حين قد تسفر عن زيادة فى مشاعر الكراهية تجاه الشعوب الغربية.. قد تؤدى أيضا فى المقابل إلى زيادة معدلات الهجرة من المنطقة إلى الخارج.. إذن، فمن ناحية المصالح الغربية، هذه الحرب عبثية بالكامل ولا أفق فيها لانتصار إسرائيل. ◄ العقيدة! لكن مع ذلك، لا يمكن اعتبار ترامب عدوا لإسرائيل، فالرجل تحدث صراحة وبظلم عن «حق إسرائيل فى توسيع أرضها»، وقد بدا الأمر ليس ضمن حملته الانتخابية من باب استمالة اليهود لكنه موقف مبنى على عقيدة راسخة لديه، وإلى جانب الضغوط، يبدو أنه كانت ثمة محاولات أيضا لوعود لنتنياهو فى مقابل الموافقة على الصفقة، بحسب المحللين. وربما أول هذه الوعود هو إطلاق يده فى الضفة، وقبل دخول وقف إطلاق النار فى غزة حيز التنفيذ بيوم واحد، قررت السلطات الإسرائيلية توسيع نطاق عملياتها فى الضفة دون أى تعليق يذكر من الجانب الأمريكى، وفى وقت سابق، أبدى قادة اليمين الإسرائيلى تفاؤلا بأن عودة ترامب إلى البيت الأبيض ستفسح الطريق أمام ضم الضفة الغربيةالمحتلة، إذ اعتبر سموتريتش أن انتخاب ترامب يمثل «فرصة لبسط السيادة» على الضفة الغربية. وتساءل تحليل نشرته مجلة الإيكونوميست عما إذا كان ترامب ونتنياهو سيستخدمان تهديد ضم الضفة لتأمين تفاهمات إقليمية وترتيبات سياسية معينة، وقال التحليل إنه حتى قبل وقف إطلاق النار فى غزة، كان ترامب قد بدأ فى إعادة تشكيل الشرق الأوسط. كان له تأثير كبير فى دفع إسرائيل إلى التوصل إلى هدنة مع لبنان فى نوفمبر. والاتفاق فى غزة الذى تم التوصل إليه بين إسرائيل وحماس سيعزز من حضور الرئيس المنتخب فى المنطقة ومع دخوله إلى البيت الأبيض، سيواجه هو ومستشاروه قرارات ضخمة بشأن السياسات التى يجب أن يتبعوها فى منطقة تم تحويلها منذ فترته الرئاسية الأولى. وإحدى المعضلات هى مدى الجهد الذى يجب أن يبذله ترامب فى المنطقة، ففى فترته الرئاسية الأولى، دفع باتفاقات أبراهام، التى طبّعت العلاقات بين إسرائيل وعدة دول عربية، وأعد خطة سلام لإسرائيل والفلسطينيين (التى تم تجاهلها بسرعة)، أما فى فترته الثانية كرئيس، فإن الأسئلة تصبح أكثر تعقيدًا، مثل من يجب أن يحكم أنقاض غزة بعد الحرب. أما المعضلة الأخرى فتتمثل فى الاختيار بين الرؤى المتنافسة لمستقبل المنطقة: هل يجب تمكين اليمين المتطرف فى إسرائيل، أم تقييده من أجل التوصل إلى توسيع صفقات التطبيع؟ ويصف مايك والتز، مستشار الأمن القومى القادم، هذه المسألة بأنها «أولوية كبيرة». أما ترامب، فيراها كالتذكرة التى ستقوده إلى جائزة نوبل للسلام. ◄ اليمين الإسرائيلي ولا يزال جدول أعمال الإسرائيليين اليمينيين طموحًا. يحلمون بإعادة بناء المستوطنات فى غزة وضم الضفة الغربيةالمحتلة، وهم متفائلون بشأن التوغلات الأخيرة لإسرائيل فى لبنان وسوريا. وأحد أبرز الشخصيات المتطرفة فى ائتلاف نتنياهو هو بتسلئيل سموتريش، وزير المالية اليمينى المتطرف قضى العامين الماضيين فى محاولة لتحقيق ضم فعلى للضفة الغربية، من خلال الدفع بتغييرات بيروقراطية تسهل توسيع المستوطنات اليهودية هناك. كما عمل على إفلاس السلطة الفلسطينية، التى تحكم أجزاء من الأراضى، جزئيًا عن طريق تجميد الإيرادات الضريبية التى تُجمع نيابة عنها. ومشروع إسرائيل التوسعى له مؤيدون أيضًا داخل مجموعة مستشارى ترامب المتقلبة، من بينهم مايك هكابى، الذى يُتوقع أن يكون السفير المقبل لدى إسرائيل، وهو مسيحى إنجيلى يؤمن أنه «لا وجود للمستوطنات». ومع ذلك، فإن وقف إطلاق النار فى غزة يشير إلى اتجاه مختلف، والعديد من مستشارى ترامب المقربين - بمن فى ذلك صهره، جاريد كوشنر، والمبعوث الأمريكى إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف - لديهم خطط طموحة للدبلوماسية الإقليمية. والسماح لإسرائيل بضم الضفة الغربية قد يعرقل هذه الخطط ويضع الأساس لتجدد الصراع مع الفلسطينيين، وبعض المسئولين فى واشنطن والقدس يتساءلون عما إذا كان بإمكانهم استخدام تهديد الضم كطُعم لتوسيع اتفاقات التطبيع.