بعد تنصيب ترامب رئيسًا للولايات المتحدة للمرة الثانية، بات الاتحاد الأوروبي يراقب بحذر خططه التجارية، خاصة تهديداته بفرض رسوم جمركية جديدة قد تعيد إشعال توترات اقتصادية عالمية. في لعبة الشطرنج الاقتصادية هذه، تسعى بروكسل إلى تحقيق توازن دقيق بين التصعيد والاحتواء، مستخدمة مزيجًا من الردع الاقتصادي والإغراءات التجارية للحفاظ على استقرار العلاقات عبر الأطلسي، وفي ظل التغيرات الجيوسياسية، مثل الحرب الروسية الأوكرانية والسباق التكنولوجي مع الصين، يدرك القادة الأوروبيون أن أي تصعيد مع واشنطن قد يؤدي إلى اضطرابات اقتصادية واسعة النطاق. يعرف الاتحاد الأوروبي شيئًا واحدًا عن الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، وهو أنه مهووس بالرسوم الجمركية، فقد وصفها ذات مرة بأنها "أجمل كلمة في القاموس"، وهدد بفرضها على حلفاء واشنطن دون استثناء، ومع كل تصريح جديد، تتزايد مخاوف بروكسل من أن تعود سياسات الحمائية التجارية التي قد تهز استقرار الأسواق العالمية، وفقًا لصحيفة «الجارديان» البريطانية. استراتيجية العصا والجزرة الأوروبية خلال حملته الانتخابية لعام 2024، لوّح ترامب بفرض رسوم جمركية تتراوح بين 10% و20% على الواردات العالمية، مع استهداف الصين بنسبة 60%، وبعد فوزه بانتخابات أمريكا 2024، كتب على تويتر مهددًا: "يجب على الاتحاد الأوروبي شراء المزيد من النفط والغاز الأمريكي، وإلا فإن الرسوم الجمركية قادمة!!". وفي خطوة غير مسبوقة، أعلن أنه سيؤسس "خدمة الإيرادات الخارجية" فور تنصيبه. بدأت المفوضية الأوروبية منذ الصيف الماضي في وضع خطط لمواجهة سياسات ترامب التجارية، لكنها تتكتم على تفاصيل ردها على أي رسوم جمركية محتملة، وبينما تترقب بروكسل الخطوات الأولى للرئيس الأمريكي الجديد، يدرك القادة الأوروبيون أنهم أمام معركة اقتصادية مع رئيس لا يمكن التنبؤ بقراراته، خاصة بعد تنصيب ترامب بالفعل وعودته للبيت الأبيض. يطبق الاتحاد الأوروبي نهجًا مزدوجًا لمواجهة تهديدات الرسوم الجمركية، حيث تمثل "العصا" إجراءات انتقامية ضد الولاياتالمتحدة، بينما تتجسد "الجزرة" في تقديم عروض لشراء المزيد من السلع الأمريكية، حتى أن رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، ألمحت إلى إمكانية زيادة استيراد الغاز الأمريكي بديلًا للغاز الروسي، في محاولة لتهدئة التوترات. مخاوف من حرب تجارية شاملة رغم استعدادات بروكسل، يخشى المسؤولون الأوروبيون اندلاع حرب تجارية، خاصة مع بلوغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين 1.54 تريليون يورو في 2023. فيما يرى الاتحاد الأوروبي أن هذه العلاقة متوازنة، حيث يستورد خدمات أمريكية تفوق صادراته، لكن ترامب يركز على العجز في تجارة السلع، ما يزيد احتمال تصعيده للإجراءات الحمائية. فرض رسوم جمركية بنسبة 10% سيكون ضربة قوية للصناعات الأوروبية، خاصة قطاع السيارات الذي يعاني بالفعل، وإذا فرض الرئيس الأمريكي المنتخب تعريفات بنسبة 60% على الصين خاصة بعد تنصيب ترامب، سيواجه الاتحاد الأوروبي ضغوطًا لمحاكاة هذه السياسات، الأمر الذي قد يؤدي إلى إغراق الأسواق الأوروبية بالسلع الصينية الرخيصة، مسببًا أزمة جديدة للمُصنعين الأوروبيين. أكد المسؤول السابق في المفوضية الأوروبية، إجناسيو جارسيا بيرسيرو، على أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يكون جاهزًا لكل السيناريوهات، لكنه يرى أن ترامب، رغم تهديداته، قد يتردد في تنفيذ تعريفات جمركية قاسية بسبب آثارها السلبية على الاقتصاد الأمريكي، حيث قد تؤدي إلى رفع الأسعار وتقليص دخل الأسر وتقويض النمو الاقتصادي، بحسب الصحيفة البريطانية ذاتها. بين التهديد والتنفيذ.. كيف سيتحرك ترامب؟ يرى الخبراء أن تهديدات ترامب بشأن الرسوم الجمركية قد تكون مجرد أوراق ضغط أكثر من كونها قرارات فعلية، وبينما تترقب الأسواق سياساته التجارية، يستعد الاتحاد الأوروبي لمواجهة أي تصعيد بخطة تشمل الرد بالمثل، أو السعي لحلول وسط تضمن استمرار العلاقات التجارية دون تصعيد كارثي. كما يدرك الاتحاد الأوروبي أن الأولوية القصوى هي تجنب الرسوم الجمركية، لكنه يدرك أيضًا ضرورة امتلاك "تهديد موثوق بالانتقام"، ففي 2018، رد على تعريفات ترامب بفرض رسوم على سلع أمريكية رمزية، مثل دراجات هارلي ديفيدسون والبوربون، مستهدفًا ولايات حاسمة انتخابيًا، الأمر الذي زاد الضغط السياسي على واشنطن آنذاك. هذه المرة وبعد تنصيب ترامب، تبدو المواجهة أكثر شمولًا، حيث قد تشمل الرسوم الجمركية جميع السلع الأوروبية، ويقترح بعض الخبراء أن يختار الاتحاد الأوروبي "قائمة سلبية"، بحيث يفرض تعريفات مضادة على المنتجات الأمريكية، باستثناء السلع الأساسية مثل الغاز الطبيعي المسال، لضمان استمرار تدفق الطاقة إلى أوروبا في ظل التوترات العالمية المتزايدة. واستلهم مسؤولو الاتحاد الأوروبي من استراتيجية جان كلود يونكر، الذي نجح في إقناع ترامب بعدم فرض رسوم جمركية على السيارات الأوروبية مقابل وعود بشراء فول الصويا والغاز الطبيعي، ورغم أن المفوضية الأوروبية لا تملك سلطة إلزام الشركات بشراء المنتجات الأمريكية، إلا أن استغلال الاتجاهات السوقية ساعد سابقًا في تخفيف التوترات التجارية. كما يرى بعض المحللين أن الحكومات تسعى إلى استراتيجيات مماثلة، خاصة مع حاجة أوروبا إلى تعزيز دفاعاتها خاصة بعد تنصيب ترامب رسميًا، فمع تصاعد التوترات الأمنية، قد تستخدم بروكسل مشتريات الأسلحة الأمريكية كورقة مساومة لتجنب الرسوم الجمركية، ومع ذلك، يبقى التساؤل.. هل سيكون هذا كافيًا لردع الرئيس الأمريكي الجديد عن تنفيذ تهديداته الاقتصادية؟ ورغم هذه المناورات، من غير الواضح ما إذا كانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين تمتلك النفوذ الكافي لتكرار نجاح يونكر، فعلاقاتها المتوترة مع ترامب قد تجعلها هدفًا لهجماته، في حين أن زعماء مثل رئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني، ورئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، المقربين منه، قد لا يضحون بعلاقاتهم الثنائية من أجل موقف أوروبي موحد ضد الرسوم الجمركية. وعلى ذات الصعيد، يحذر مراقبون من أن ترامب قد يسعى إلى تقسيم الاتحاد الأوروبي عبر منح بعض الدول الأعضاء إعفاءات من الرسوم الجمركية عقب تنصيب ترامب، ومثل هذا السيناريو قد يقوض وحدة الموقف الأوروبي، الأمر الذي يعقد قدرة بروكسل على التفاوض ككتلة واحدة، ويفتح الباب أمام تنازلات غير متكافئة لصالح واشنطن... علاوة على ذلك، قد تتسبب اللوائح الأوروبية في استفزاز أنصار ترامب. فالمفوضية الأوروبية تحقق حاليًا مع شركات التكنولوجيا الكبرى مثل "إكس" و"ميتا"، وكلاهما يسعى إلى كسب ود ترامب، كما أن تصريحات جيه دي فانس، نائب ترامب، التي تربط دعم حلف شمال الأطلسي «الناتو» بمواقف أوروبا تجاه هذه الشركات، تكشف عن تداخل السياسة بالتجارة في معركة الرسوم الجمركية. في ظل هذا الواقع المتقلب، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز التعاون مع دول أخرى تتبنى نهجًا مشابهًا، مثل اليابان والمملكة المتحدة، ومع ذلك، لا تزال لندن مترددة في الانحياز لأي طرف، إذ تؤكد دعمها للتجارة الحرة، لكنها قد تجد نفسها مضطرة لاتخاذ موقف واضح إذا اشتعلت حرب الرسوم الجمركية بين بروكسلوواشنطن.