صرنا نجد لهاثًا خلف «ترندات» لا نفع منها ولا يصمد معظمها سوى ليوم أو اثنين قبل أن يزيحها «ترند» جديد لا يصمد بدوره ولا يُبنَى عليه. الإثنين: أبدأ يومى، شأنى شأن كثيرين، بتصفح سريع لتطبيقات التواصل الاجتماعى مثل «فيسبوك» و«تويتر»، فيقابلنى سيل من المنشورات، معظمها عشوائي. لقد عودت هذه المواقع البشر على البوح كما لم يحدث فى أى مرحلة سابقة فى التاريخ، أصبح من السهل جدًا أن يحكى مستخدم فيسبوك أو تويتر مثلًا لمتابعيه و«أصدقائه» أدق تفاصيل حياته: ماذا أكل أو شرب، طبيعة علاقته بعائلته وأصدقائه، نقاط ضعفه وأمراضه النفسية والجسدية، وكل ما يخطر أو لا يخطر على بال. بشكل أو بآخر، عززت وسائل التواصل الاجتماعى نزعة اعترافية تدفع الكثيرين لتعرية أدق تفاصيل حياتهم والبوح بما لا يقدرون على قوله إن وجدوا أنفسهم وجهًا لوجه أمام جمهور حقيقي. وقد يظن البعض أن هذا من شأنه مد الجسور بين البشر، لكن ما نلاحظه أن العزلة تزداد فى عصرنا الراهن وتتسع المسافات بين الناس نفسيًا حتى داخل الأسرة الواحدة فى ظل شيوع أنماط من التواصل الافتراضى تكرس فى جوهرها اللا تواصل. انقطعت علاقة كثيرين بالطبيعة على سبيل المثال، وأصبح هناك من يعرفون عن هذا الشخص الافتراضى أو ذاك ما لا يعرفونه عن أفراد أسرتهم. بات من الطبيعى أن ينكفئ كل منا على هاتفه المحمول متجاهلًا من يعيش معهم فى الواقع، ويظن أنه حظى بصداقات قوية مع مَن لا يعرفهم فعليًا حتى تأتى لحظة كاشفة يدرك فيها أن الافتراضى لا يمكنه أن يحل محل الحقيقي، وقد لا يصل البعض إلى تلك اللحظة الكاشفة على الإطلاق. لكن بعيدًا عن كل هذا، فأخطر ما فى الفيسبوك وما يشبهه من تطبيقات، أنه يحدد لنا، دون وعى منا، القضايا التى علينا الانشغال بها كل يوم. نفتحه فى الصباح فنجد «قضية» ما مطروحة للنقاش، وفى الغالب سنشارك فيها، حتى ولو عبر التقليل منها وانتقاد اهتمام الآخرين بها. اختيار قضايانا وانشغالاتنا الخاصة، الحق الطبيعى لكل شخص، يحتاج هنا إلى انتباه كبير منك، كى لا نجد أنفسنا يوميًا منساقين إلى ما لم نكن لنضيع، فى ظروف أخرى، دقيقة واحدة للتفكير فيه. والأهم هنا أن كثيرًا مما يحظى بالاهتمام الواسع لا يمكن وضعه فى خانة القضايا بسهولة، وتحول الأمر إلى مجرد ولع بما يُطلق عليه «الترند». وعلى هذا النحو صرنا نجد لهاثًا خلف «ترندات» لا نفع منها ولا يصمد معظمها سوى ليوم أو اثنين قبل أن يزيحها «ترند» جديد لا يصمد بدوره ولا يُبنَى عليه، كأن الزمن تحول إلى لحظات منفصلة يلغى بعضها بعضًا وتُلغَى معها الذاكرة الممتدة. يذكرنى هذا بما سبق وقاله الروائى والمفكر الإيطالى الراحل أُمبرتو إيكو من أن «أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون فى البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأى ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورًا. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل.. إنه غزو البلهاء». لكننى أختلف معه قليلًا وأتحفظ على نخبويته الشديدة لأتبنى رأيًا مفاده أن هذه التطبيقات قادرة على تحويل أنبه وأذكى العقول إلى حمقى إن خضعوا لسطوتها وانساقوا خلف آلياتها دون سعى منهم لتطويعها بحيث تصبح أداة لتحقيق الفائدة المرجوة. فهى فى نهاية المطاف أدوات، وكما نعرف جميعًا فالأداة قد تكون نافعة أو مضرة بناءً على طريقة استخدامها. الثلاثاء: مسألة تطويع كيف يمكن ترويض أداة تطبيقات التواصل الاجتماعى بحيث تصبح نافعة؟ تختلف الإجابة عن هذا السؤال باختلاف ما يريده كل منا منها. هناك مَن يكفيه أنها تبقيه على تواصل مع أقارب وأصدقاء يعيشون فى بلدان بعيدة عنه، وهناك من يبحث فيها عن الطرائف وتزجية بعض الوقت، ويجيد آخرون توظيفها فى الترويج لأنفسهم. وتبقى كلمة السر فى عدم تحول العلاقة بهذه التطبيقات إلى إدمان وأن نبقيها فى خانة الأداة المستخدمة لتحقيق هدف ما فلا تتحول إلى مسيطر على عاداتنا ووقتنا. فالمشكلة ليست فى الوسيط نفسه، بل فى طريقة تعاملنا معه وفهمنا أبعاده ونجاحنا فى تطويعه لما يلائمنا. بالنسبة لى ككاتبة، ساهمت التطبيقات المذكورة فى تعويدى على الكتابة طوال الوقت، ودفعتنى لتدوين يوميات بمشاهداتى وما يعن لى من أفكار طارئة، كنت كثيرًا ما أتركها للتلاشي. هذه اليوميات والمشاهدات لا أنشرها بالضرورة، وأحتفظ بها ضمن كتابات ومخطوطات أعمل على تطويرها لاحقًا. من جهة أخرى، كشف العدوان على غزة عن دور آخر مهم لتطبيقات مثل «تويتر» و«تيك توك» وبدرجة أقل «فيسبوك» و«إنستجرام»، ففى ظل تغييب الإعلام الغربى صوت أهل غزة وتحيزه فى نقل حقيقة ما يحدث هناك، مثلت هذه التطبيقات نافذة لإخبار العالم بتطورات الأحداث على أرض القطاع. حدث هذا رغم أنف أى محاولات تقنية من إدارة هذه التطبيقات لتهميش صوت غزة والتعتيم عليه. الأربعاء: علاقة افتراضية قبل سنوات، وخلال جولة أدبية شاركت فيها بإنجلترا واسكتلندا، التقيت بشابة بريطانية كانت فى بدايات مشوارها المهنى كإعلامية بمؤسسة صحفية مرموقة. حضرت بصفتها المهنية ندوتى الأولى فى لندن وتحدثنا لبعض الوقت بعد الندوة، ثم استمر التواصل بيننا عبر الفيسبوك الذى عرفت من خلاله لمحات عن حياتها من قبيل أنها انتقلت بعد سنوات قليلة للعمل فى بكين لفترة، ومنها إلى موسكو حيث تزوجت روسيًا أنجبت منه ثلاثة أطفال، ويبدو أنها انفصلت عنه لأن ما تنشره، من وقت لآخر، من تفاصيل حياتها يشير إلى أنها تعيش وحدها مع أطفالها ببرلين. فى صورها، تبدو متعبة دومًا وأكبر من عمرها بسنوات. أرى هذه الصور، فيخطر ببالى أن الزمن لم يكن رءوفًا بها، وأحاول تخيل الانطباع المتولد لديها عنى فى المقابل. أتساءل فى سري: أى قصة تحكيها مواقع التواصل الاجتماعى عن كلٍ منا للآخرين؟ وإلى أى حد هى قصة حقيقية؟ تصلح علاقتى مع هذه الصديقة كمثال لنوع جديد من الصداقات هو الصداقات الافتراضية. لقد تغيّر مفهوم الصداقة كثيرًا فى عصرنا هذا، فقد نعرف عن «أصدقاء» الفيسبوك مثلًا معظم تفاصيل يومهم؛ ما يحبونه وما يكرهونه، لكننا لا نعرفهم حقًا ولا نعرف المعلومات الأساسية عنهم. الخميس: ماذا لو؟ يحدث أن يبحث أحدنا عن شيء ما على أحد محركات البحث على الإنترنت، أو يتحدث عن أمر بعينه مع أحد معارفه ليُفاجَأ بعدها بأن هذا الشيء أو هذا الأمر يظهر له فى إعلانات متكررة على فيسبوك أو إنستجرام وغيرهما من مواقع. لم يعد هذا مثار دهشة، فجميعنا يعلم الآن أن الخوارزميات تلاحق أدنى نشاطاتنا وتستغلها فى إعلانات هادفة للربح، وصرنا نتعامل مع هذا باعتباره أمرًا طبيعيًا، فى حين أننا لو كنا قرأنا عنه فى الماضى فى رواية ما لاعتبرناه ينتمى إلى واقع كابوسى يُرَاقب من يعيشون فيه من جانب قوى غامضة دوافعها مجهولة. واقع يُذكِّر إلى حد بعيد برواية «1984» للكاتب البريطانى جورج أورويل، باستثناء أنه حقيقى تمامًا هذه المرة، وغرضه إعلانى فى الغالب لصالح الشركات الكبرى. لكن ماذا لو تغير هذا الغرض مستقبلًا؟ سؤال ليس لدى إجابة عنه، لكن ما أعرفه أن الثورة التقنية الحالية قد أنهت العالم كما نعرفه، وخلقت عالمًا جديدًا علينا فهمه وإجادة التعامل معه.