الأوليجاركية التى تحدث عنها العجوز هى أمر ليس بالجديد وإنما هى وضع قائم بالفعل منذ سنوات «الديمقراطية رغم ما تنتجه من مستويات كبيرة من المشاركة الجماهيرية، فإنها ستنتهى بالضرورة إلى تحكم «قلة» من الأفراد فى مجريات السياسة. ويشكل هؤلاء صفوة حاكمة أو «أوليجاركية». والسبب فى ذلك يكمن فى القانون الداخلى، الذى يحكم التنظيمات السياسية، وهو قانون التحول الدائم نحو حكم «القلة».. هكذا كتب عالم الاجتماع السياسى الألمانى روبرت ميشلز قبل 100 عام وصاغ هذا المفهوم فى نظرية أطلق عليها اسم القانون الحديدى للأوليجاركية. ... قبل يومين خرج علينا الرئيس الأمريكى جو بايدن فى خطاب وداع سوداوى ليحذر الشعب الأمريكى من «الأوليجاركية» التى تتشكل فى الولاياتالمتحدة وتابع بايدن قائلا: اليوم، تتشكل الأوليجاركية فى أمريكا من الثروة المفرطة، والسلطة والنفوذ، الذى يهدد حرفيًا ديمقراطيتنا، وحقوقنا وحرياتنا الأساسية، وفرصة عادلة للجميع فى التقدم، وحدد بعض مخاوفه الأكثر إلحاحًا التى تشمل ما وصفها ب «الحرية المتداعية»، والنفوذ المتزايد لشركات تصنيع السلاح وانتشار المعلومات المضللة، والحاجة إلى التخلص مما سماه ب «المال الأسود» فى السياسة... انتهى حديث بايدن لكن الأوليجاركية التى تحدث عنها العجوز هى أمر ليس بالجديد وإنما هى وضع قائم بالفعل منذ سنوات فى الولاياتالمتحدة، حيث كانت فى الماضى تديرها شركات تصنيع الأسلحة واللوبى الصهيونى واليوم انضم إليهم مالكو شركات التواصل الاجتماعى وأثرياء وادى السيلكون والاتصالات. بايدن يعد هو ثانى رئيس أمريكى يشير إلى الأمر بعد سابقه ايزنهاور وهو ما يتطابق مع الكثير مما جاء من نظرية الألمانى ميشلز وهو أن حكم النخبة أو الأقلية أوليجاركية أمر لا مفر منه باعتباره «قانونًا حديديًا» داخل أى منظمة ديمقراطية كجزء من «الضروريات التكتيكية والتقنية لعملها؟!!.. وكلمة أوليجاركية بالمناسبة منشقة من اللغة الإغريقية oligos وتعنى الأقلية. أعتقد أن نظريات ميشيلز رغم مرور أكثر من قرن عليها فإنها تثير العديد من التساؤلات المهمة اليوم حول الديموقراطية الأمريكية التى تم تحويلها لسلعة تباع لأبناء الشعوب على أنها السبيل الأوحد للنجاة ونعيم الحرية والمساواة.. ومن علامات الاستفهام التى استوقفتنى فى خطاب وداع بايدن هو تأكيده أنهم أصبحوا غارقين فى سيل من الأخبار المضلّلة وقال: «الصحافة الحرة تنهار.. المحررون يختفون.. وسائل التواصل الاجتماعى تتخلى عن التحقق من الحقائق.. الحقيقة تخنقها الأكاذيب التى تقال من أجل السلطة والربح».. ونسى بايدن كعادته أن إدارته عملت بكل قوتها على تضليل الشعوب ونشر الأكاذيب. ولنا فى حرب الإبادة فى غزة العبرة والمثل.. ومن سخرية الأقدار أن بايدن هو من عبر عن قلقه عندما تحدث عن «الصعود المحتمل للمجمع الصناعى التكنولوجى»، مشيرًا إلى أن الشركات الكبرى باتت تتحكم فى المعلومات والوسائل التى نستخدمها للتواصل وقال إن هذه السيطرة ليست مجرد تهديد للديمقراطية، بل هى أيضًا انتهاك للحريات الأساسية وحقوق الإنسان التى يُفترض أن تحميها!!. ونسى أنه هو من كان يخرج علينا وأعضاء إدارته ليؤكدوا صدق الأكاذيب الإسرائيلية ويدافعوا عن قتل أطفال فلسطينيين بدماء باردة باعتبارهم إرهابيين. إن دراسة الأوليجاركية فى عصرنا الحالى أصبحت تحتاج إلى علماء الاجتماع السياسى ليقدموا لنا رؤى تساعد فى تطوير استراتيجيات مواجهة هذه التحديات.. فهؤلاء القلة الذين باتوا يتحكمون فى أقوى دولة فى العالم أصبحوا اليوم يتحكمون ومتصلين بنا ويحاولون السيطرة وتوجيه العالم لتحقيق مصالحهم ومصالح من يتبعهم.. فى النهاية، يبقى السؤال: كيف يمكننا كأفراد ومجتمعات التصدى لهم وتعزيز الوعى حول ما يمتلكونه من أدوات وأموال ومعلومات ويبقى الجواب فى أيدى الباحثين والمفكرين الذين يجب أن يتخذوا من هذه القضية محورًا لاهتمامهم.