في عام 1874 حول الموسيقار الروسي «موديست موسورسكي» عشر لوحات إلى مقطوعة موسيقية، وذلك إحياء لذكرى صديقه الرسام «فيكتور هارتمان»، والذي كان قد رحل في العام السابق. وفي المقابل قام الفنان «فاسيلي كاندنيسكي» مطلع القرن العشرين برسم الموسيقى من خلال لوحاته التجريدية. وكلاهما ضمن تجارب ما يعرف بالتآزر الحسي، والتي سعى من خلالها عدد من الفنانين لتحويل المرئي إلى مسموع والعكس. ◄ موسورسكي حول لوحات هارتمان إلى موسيقى ◄ كاندنيسكي وفازاريللي أشهر رسامي الموسيقى ◄ التآزر الحسي تجارب إبداعية تؤكد وحدة الجمال النوتة ■ الرسام فيكتور هارتمان في تجارب مدهشة لعالم الفيزياء «إرنست شلادني»، قام بوضع الرمال الناعمة على صفيحة معدنية، وعرضها لذبذبات موسيقية، لتبدأ بالاهتزاز على وقع النغمات، ثم تنتظم تدريجيا فى أشكال هندسية تختلف من مقطوعة إلى أخرى، وكأنها تعبير مادي مرئي عن بنية الألحان. وهو ما تفعله أيضا بعض البرامج الرقمية لتشغيل الموسيقى مولدة أشكالا بصرية مجردة تحاكي النغمات. ■ الموسيقار الروسي موسورسكي ◄ تآزر الحواس تحدث كل من أفلاطون وأرسطو عن وحدة الجمال فى الفنون، مهما اختلفت وسائطها. وعبر «جوته» عن تداخل الحواس بقوله: «المهم أن تعرف كيف ترى بعين سبق لها اللمس، وكيف تلمس بيد تجيد النظر». وتعمق فهم الأمر في القرن 19 مع الرومانسيين الذين أدركوا قدرة الموسيقى على التعبير عما تعجز عنه الكلمات، والأشكال والألوان. كما تحدث الفيلسوف والناقد «والتر بنيامين» عن هالة تحيط العمل الفنى تتجاوز حدود الوسيط المستخدم، بحيث يمكن لعمل موسيقى أن يغذي عملا بصريا أو العكس بطرق لا يمكن تفسيرها إلا بالتجربة الذاتية. وهو ما يعرف بالتآزر الحسى، والذى تشير الدراسات إلى أن ما بين 2 إلى 4% من البشر لديهم درجات عالية منه، تجعلهم يرون الموسيقى ويسمعون الألوان، وقد يتذوقون الأرقام. ويعتبرون حالات خاصة، وأحيانا يوصفون ب«مصابين بالتآزر الحسي»، لكنهم غير مصنفين كمرضى. وعلى العموم فالبشر يدركون العالم بمزيج متحد من الحواس، وبعض الفنون تخاطب أكثر من حاسة معا. وقد لعبت الموسيقى المبرمجة أى التي تحاكي موضوعا محددا، دورا في التعبير عن المشهدية، كالكثير من أعمال بيتهوفن، وفاجنر، وغيرهما من موسيقيى القرن 19. ولكن «التآزر الحسي» أعمق من كل ذلك، ويتعلق بفنانين قاموا بتجارب لتحويل الموسيقى إلى رسوم، أو الألوان والخطوط إلى نغمات. ■ الموسيقي الأمريكي جون كيج ◄ صداقة وبالعودة إلى «موسورسكي»، فقد كان دافعه لتحويل لوحات صديقه «هارتمان» إلى مقطوعة موسيقية، هو الحزن الشديد على رحيله المفاجئ فى التاسعة والثلاثين، بعد صداقة وتوافق فنى عميق بينهما. وقد شرع فى تأليف المقطوعة بعد أن شاهد المعرض الاستعادى له، وأنهاها فى ثلاثة أسابيع. وكانت أغلب اللوحات قد رسمت فى الخارج، وتضمنت مناظر من إيطاليا وفرنسا وبولندا وروسيا وأوكرانيا. وقد فُقد عدد منها، ولم يعد بالإمكان مقارنتها بالمقطوعات التى تمثلها، لكن لحسن الحظ بقى بعضها مثل لوحة «أزياء باليه تريبلى» التى حولها «موسورسكى» إلى الحركة الخامسة بعنوان «باليه الكتاكيت التى لم تفقس». ■ كيف يمكن للدماغ أن يرى الموسيقى؟ ولوحة «اليهودي ساندوميرسكي» التى حولها إلى الحركة السادسة، و«سراديب باريس» التى حولها إلى الحركة الثامنة بعنوان «المقابر الرومانية»، ولوحة «ساعة على الطراز الروسى» التى حولها إلى «كوخ بابا ياجا» في الحركة التاسعة، وأخيرا بوابة «بوغاتير» في الحركة العاشرة. وأطلق عليها مجتمعة اسم «جولة في المعرض». وهى تمثل جولته فى معرض صديقه، وتحاكى حركتان منها فعل المشى داخل القاعة. وتتنوع الحالة المزاجية فيها، وتتضمن تفاصيل مثل لحظة وقوع العين على لوحة جديدة، وحالة التأمل فيها، حتى الوصول إلى الذروة فى آخر المقطوعة. ويظهر خطان لحنيان أحدهما يمثل المشاهد والآخر يمثل اللوحات، ولكنهما يندمجان معا مع لوحة «سراديب باريس» التى تمثل عالم الأنفاق الغامضة. ورغم حماس رفاقه للمقطوعة، لكن بعض أصدقائه الموسيقيين وقعوا فى حيرة بشأنها، بسبب غرابتها. ولم تظهر المقطوعة للنور فى حياة الموسيقار الذى رحل هو الآخر بعد عدة سنوات، ونشر العمل بعد رحيله بخمس سنوات على يد صديقه الموسيقار الروسى «كورساكوف» صاحب متتالية شهرزاد الشهيرة. وهى طبعة وصفت بعدم الدقة، وبالتنقيح من قبل «كورساكوف». ولم تظهر طبعة محققة إلا عام 1931 فى الذكرى الخمسين لوفاة الموسيقار. ولحسن الحظ أنه تم تناولها بعد ذلك بكثير من البحث والدراسة، كما نشرت مخطوطة العمل بخط يد «موسورسكى» عام 1975. ■ للفنان مايكل شيفال ◄ إلهامات لم تتوقف تجربة «موسورسكى» عن إلهام العديد من الفنانين بطرق مختلفة، ومنها عرض باليه «جولة فى المعرض» لمصمم الرقصات «أليكسى راتمانسكى» عام 2014. كما كان الرسام الروسى «فاسيلى كاندنيسكى» قد استلهم التجربة محولا إياها إلى عرض مسرحى تضمن بعضا من رسومه مع موسيقى «موسورسكى». وذلك ضمن تجاربه العديدة فى مجال تآزر الحواس. وهو المعروف كتشكيلى ذى توجه روحانى ثيوصوفى، وكمخترع للتجريدية فى الفن. وتبدو مجمل تجربته كمحاولات لرسم معادل بصرى للنغمات، وفق ما ذكره فى كتابه «ما هو روحانى فى الفن..»، وحيث اعتبر أنه كلما كانت اللوحة على تواصل مع النظام الموسيقى تعمق البعد الروحانى فيها. ووصل به الأمر أن قال إنه سيأتى يوم ستتحول فيه اللوحة كالموسيقى إلى نوتة يمكن قراءتها وإنجازها من قبل أى فنان. ■ كيف يمكن للدماغ أن يرى الموسيقى؟ وخلال الفترة نفسها تقريبا برز الموسيقار الروسى «ألكسندر سكريابين» كأحد الرمزيين فى الموسيقى، والذى حاول ربط موسيقاه بالألوان، ونظم ما يعرف بدائرة الأخماس المرتبطة بالثيوصوفية. ويعتبر أحد المجددين فى الموسيقى أواخر القرن 19 وبدايات القرن العشرين، وأكثرهم إثارة للجدل، بسبب غموض موسيقاه. وقد وصف «ديستوفسكى» أعماله بأنها تعبير صادق عن العبقرية، كما تأثر به العديد من الموسيقيين فى القرن العشرين. وقدم عمله الأخير «برومثيوس أغنية النار» 1915 فى نيويورك معتمدا على مزج الألوان بالموسيقى، فيما عرف بأورغن الألوان الذى ابتكره وصنع منه نسخة واحدة، لها مفاتيح ملونة، كما وضع الألوان فى النوتة الموسيقية كخطوة نحو دمج الفنون والحواس. وقد كان على توافق فى أفكاره مع صديقه «كورساكوف» الذى كان مصابا بالتآزر الحسى، ومع ذلك أظهرا فروقا فى الربط بين كل نغمة موسيقية ولون بعينه. ■ لوحة الأصفر والأحمر والأزرق للفنان فاسيلي كاندنسكي ◄ موسيقى مرئية ظهر مصطلح موسيقى مرئية أو ملونة على يد «توماس فراى» عام 1912، وهو يصف أعمال «كاندنيسكى» التى حاولت إبداع نظير بصرى للموسيقى. وينظر الكثيرون لها كأحد فنون الوسائط المتعددة. وهناك تجارب عديدة لعمل آلات موسيقية تحول الموسيقى إلى أطياف لونية، بحيث تظهر الأضواء الملونة ضمن العروض الموسيقية. ومنها عرض «ألعاب الضوء الملون» التى قدمها طالب الباو هاوس السابق «فربلشتسبل». لكن الموضوع أقدم من ذلك بكثير، حيث بنى اليسوعى «لويس برتراند كاستل» فى ثلاثينيات القرن الثامن عشر قيثارة بصرية، وزارها الموسيقار الألمانى الباروكى «جورج فيليب تليمان»، وألّف لأجلها بعض المقطوعات. وتكررت تجارب الأورغن الملون بطرق مختلفة على أيدى فنانين مثل «ألكسندر والاس ريمنجتون»، والمخترعة والفنانة «مارى هالوك جرينوالت» التى ابتكرت طريقة عرض تتضمن الموسيقى مع أفلام مرسومة باليد وأطلقت عليها اسم «توراثار». ■ من أنماط تشكل الرمال بفعل ذبذبات الموسيقى وقدم فنانون آخرون ذلك النوع من الأفلام التى تجمع بين الموسيقى والمعادل البصرى ومنهم الألمانى «والتر روثمان» صاحب فيلم «سيمفونية المدينة»، والرسام الألمانى الدادائى «هانز ريختر» ومؤلف الموسيقى البصرية «فايكينج إيجيلينج» والطليعى الألمانى الأمريكى «أوسكار فيشنجر»، وصاحب المنحوتات المتحركة والأفلام التجريدية «ليوناردو لى»، والتجريدى الأمريكى الثيوصوفى «جوردان بيلسون»، والإيطاليان المستقبليان «برونو كورا» و»أرنولدو جينا»، وغيرهم. كما ابتكر الفنان «توماس ويلفريد» مصطلح «لوميا» واصفا أشكال التعبير الفنى التى تعتمد على الضوء، وتقدم تصورات طيفية للموسيقى. وفى مجال كتابة الموسيقى قام البعض بتدوينها رسوميا، إلى جانب الكتابة أو بديلا عنها. ومنهم الأمريكى «جون كيج» الذى أحدث ثورة فى موسيقى القرن العشرين، و»مورتون فيلدمان» أحد رواد عدم التحديد فى الموسيقى. ■ هل بإمكاننا أن ندرك الموسيقى بصريا؟ ◄ وحدة في كتابها «فازاريللي سيد فن الأوب آرت» تقول الكاتبة «تينا بنتيلا» إن أعمال الفنان ذى الأصول الهنجارية اكتسبت صرامة هندسية تضاهى الرياضيات والموسيقى، وأن هوية الشكل واللون التى يتبناها تجد نظيرها في الموسيقى، حيث لكل جرس نظير بصرى، يتخذ لونا بعينه بدرجة محددة وفى موضع محدد، حتى أن لوحاته تجعلنا نتساءل: لماذا نسمع الجرس ونرى اللون بإدراكين منفصلين، وهما يعبران عن ظاهرة واحدة؟ وبالتالى فالوحدة التشكيلية لديه هى نظير تصويرى للوحدة الموسيقية التى هى وفق تعريف الموسيقار «خورخى أنطونيوس»: جزء صوتى مزود بالمعنى ومحدد على أساس العاطفة. والقائمة طويلة لرسامين حاولوا جعل الموسيقى مرئية مثل «فرانز مارك»، و«مورتون شابيرو»، و«أوسكار كوكوشا»، و«سونيك سميث»، و«كريستوف لاودوكوفسكى»، وموسيقيين حولوا الأشكال إلى نغمات مثل «بول هيندميث»، و«جون آدامز»، و«فرانز ليست»، و«فيليب جلاس» و«كلود ديبوسي». وكلها محاولات للإمساك بذلك اللب المشترك، ولمس المعنى العميق للوجود، والذى يتجلى في واقعنا المادي متناثرا، لنلتقطه عبر حواسنا المختلفة، وهو في الأصل جوهر واحد.