بنى عالم النفس الشهير سيجموند فرويد جانبا كبيرا من نظريته فى التحليل النفسي على عقدة أوديب المأخوذة من مسرحية «أدويب ملكا» ل«سوفوكليس»، واعتمد كارل يونج على أعمال فنية بصرية لشرح النماذج الأولية التي تحكم السلوك الإنساني، كما قامت مدرسة «الجشطالت» على فهم طبيعة الإدراك البشري من خلال أعمال تشكيلية، مما يشير إلى أهمية الفن كمرآة تعكس خفايا النفس البشرية، وإلى قدرة المبدعين الحقيقيين على الفهم العميق لأسرار النفس البشرية قبل آلاف السنين من تطور علم النفس الحديث. ◄ فرويد اعتمد على «أوديب» سوفوكليس لتحليل الدوافع الإنسانية ◄ يونج استخدم الفن لفهم النماذج الأولية لرموز اللاوعي الجمعي ◄ «الجشطالت» شرحوا طبيعة الإدراك باستخدام الفن التشكيلي ◄ أعمال هوميروس ودانتي وشكسبير مهمة للتحليل النفسي ■ السيريالية وعالم اللاوعي تشير عقدة أوديب إلى التعلق بالأم، والغيرة عليها من الأب، كإحدى مراحل التطور النفسي للطفل، وفق علم النفس التحليلي الكلاسيكي، وقد استلهمها فرويد من شخصية "أوديب" لأحد عظماء كتاب الدراما الإغريقية، وهو "سوفوكليس ". كما دأب علماء النفس على استلهام شخصيات عديدة من الدراما الإغريقية وغيرها من الفنون والآداب. ■ البيت الذي قضى فيه دافينشي طفولته في نجع أنكيانو ببلدة فينشي الإيطالية ◄ دافينشي وفرويد لم تقتصر استلهامات علماء النفس على الأعمال الإبداعية، ولكن امتدت إلى شخصيات الفنانين ككتاب "دافينشى وذكريات طفولته" ل"فرويد"، الذى يتناول جوانب من أعمال وشخصية وسلوك الفنان، ويربطها بطفولته. وكأنه يخضعه لجلسات التحليل النفسى، متوغلا فى خفايا عقله الباطن، حيث عقد سنوات الطفولة. ■ القديس جيروم لوحة غير مكتملة لدافينشي وكان أول ما واجهه هو تناقضات الفنان الذى رغم شهرته كأهم عباقرة الفن في التاريخ، إلا أنه لم يمنح الإبداع جل اهتمامه. وغالبا ما كان يترك أعماله دون أن يتمها، لأسباب وحجج عديدة منها استكشافاته العلمية، أو القيام باختراعات حربية، وحتى أنه اخترع ذات مرة آلة موسيقية، وعين نفسه عازفا عليها فى بلاط "لودفيكو سفورزا" دوق ميلانو، والذى كان قد قدم نفسه له فى رسالة مطولة كمهندس مدنى وحربى، وليس كفنان. ■ جدارية رومانية قديمة من بومبي تصور موت بينثيوس من مسرحية باكوس ليوريبيديس ووفقا لما كتبه "جورجيو فاسارى" الفنان والمؤرخ الفنى من عصر النهضة، فقد عاتب دافينشى نفسه على فراش الموت، وقال إنه أساء إلى الله والإنسان لأنه لم يؤد واجبه تجاه فنه كما ينبغى، حيث تقدر جهوده فى مجال الفن بعشر ما بذله فى أمور أخرى. ■ سيجموند فرويد وهو ما ربطه "فرويد" بسلوكه خلال الرسم، حيث كان بطيئا للغاية، ويعمل بمزاجية، حتى أنه استغرق ثلاث سنوات ليتم لوحة "العشاء الأخير" بدير "سانتا ماريا ديلى جراتزيا" فى ميلانو، والتى تعتبر من أشهر أعماله. هذا البطء، لم يكن فقط إضاعة للوقت، ولكنه أفسد اللوحة، حيث كان الرسم الجدارى يتطلب العمل بسرعة قبل جفاف الخلفية، وهو ما أدى إلى عيوب فى التصاق الألوان بالجدار. ■ فان جوخ وقد ذكر "ماثيو باندينى" كاتب الروايات الذى كان راهبا فى الدير وقت تنفيذ اللوحة أنه كان يصعد إلى السقالة فى الصباح الباكر، ويبدأ بالرسم ولا يترك الفرشاة حتى المساء، غير مبال بأن يأكل أو يشرب، ثم يقضى أياما عديدة دون أن يلمسها. كما ذكر "فسارى" أنه مكث سنوات يحاول إكمال لوحة "الموناليزا" زوجة "فلورنتين دى جيوكوندا" ولم يتمكن من إكمالها، وبالتالى لم يسلمها لأصحابها أبدا، وهو ما يفسر اصطحابه لها إلى فرنسا فى سنواته الأخيرة حيث آلت لملكها "فرانسوا الأول". وقد أرجع "فرويد" هذه الحالة من الاضطراب، إلى عقد طفولته، وحياته الأسرية كابن غير شرعى، تنقل فى طفولته من منزل أمه إلى بيت جده وأعمامه، وحيث تزوج والده عدة مرات، وأنجب العديد من الأبناء حتى أن أصغرهم ولد عندما كان دافينشى فى الأربعين من عمره. ■ كارل يونج ووصف "فرويد" الفنان بالخمول واللامبالاة، وأنه كان مثالا للفتور الجنسى غير المعهود لفنان اعتاد على رسم النساء. وقال إنه لم يعانق امرأة فى حياته، ولا حتى أقام علاقة روحية مع امرأة. كما حلل بعض الرموز فى أعماله وأحلامه، ومنها النسر الذى رأى فرويد أن جذوره فى اللاوعى الجمعى ترجع إلى الحضارة المصرية، والتى أثرت فى الثقافة الأوروبية، وكان يمثل الأم الحامية، وربطه فى حياة دافينشى بالنساء، وتحديدا شعوره بالوحدة مع أمه لغياب الأب. ■ ليوناردو دافينشي ◄ دراما وأدب احتلت الدراما الإغريقية مكانة خاصة لدى علماء النفس الذين استخدموا شخصياتها كرموزً للظواهر النفسية، مما يؤكد عمق معرفة مبدعيها بالطبيعة الإنسانية. كما ساعدت النماذج الأساسية للدراما اليونانية من حب وغيرة وانتقام وجشع وغيرها على فهم أنماط الشخصيات والصراعات النفسية. ■ من اعمال السيريالي أندريه ماسون وتأتى أعمال الثلاثة الكبار "أسخيلوس" و"سوفوكليس" و"يوريبيدس" على رأس القائمة، بأعمال مثل "أوديب" و"إليكترا" و"ميديا"، و"هرقل" و"نساء طروادة" و"أيون" وغيرها. وقد وجد فيها "فرويد" ورفاقه نماذج مرسومة بعناية، فتناولوها بالشرح، والتفسير. وهو ما يعنى نجاح الفن منذ القدم فى فهم العوالم الخفية المؤثرة فى السلوك البشرى. كما أثرت فكرة "العيب المأساوى" بشكل عميق فى النظرية النفسية، وهى تؤكد أن البشر غالباً ما ينهارون بسبب نقاط ضعفهم وثغراتهم على غرار ما يحدث فى الدراما اليونانية التى اتخذت أساسًا لتصنيف الشخصيات فى علم النفس الحديث. ويكفى أن نعلم أن "أوديب" وحده ألهم "فرويد" بالعديد من الأفكار حول التطور النفسى للطفل، وعلاقته بالجنس الآخر، والرغبات الدفينة، والشعور بالذنب، وغيرها. ■ من أعمال فان جوخ ولم يقتصر الأمر على الدراما الإغريقية، فقد تأثر علماء النفس التحليلى بأعمال عدد من الأدباء من عصور مختلفة مثل "هاملت" شكسبير، وملحمتى "الإلياذة" و"الأوديسا" لهوميروس، و"الكوميديا الإلهية" لدانتى، و"فاوست" لجوته، وأعمال "نيتشة" و"إدجار ألان بو" و"إبسن"، و"ديستويفسكى"، وأشاروا لذلك فى مؤلفاتهم. وقد اعترف فرويد بذلك الدور صراحة عندما قال: "الشاعر والكاتب هما أسياد فن الكشف عن الدوافع اللاواعية للسلوك البشرى." ■ وليام شكسبير أحد ملهمي علم النفس الحديث ◄ إلهامات فنية كان للفن دور كبير عند عالم النفس الشهير كارل يونج فى تطوير فهمه لفكرة اللاوعى الجمعى، بوصفه مستودعا مشتركا للنماذج الأولية والرموز الإنسانية العابرة للثقافات. كما استخدم الرموز التى ظهرت فى الفنون والأساطير منذ القدم لتفسير الأحلام، وفهم أنماط الشخصية، ووجد أنها تظهر أيضا فى أعمال الفنانين المعاصرين. وعمل على مساعدة مرضاه للوصول إلى اللاوعى الجماعى لديهم، لفهم أنفسهم. وهو ما أثمر لاحقا تقنيات للعلاج بالفن من خلال استخدام التعبير الإبداعى لاستكشاف العقل اللاواعى وتعزيز النمو الشخصى. وفى كتابه "الإنسان ورموزه" تناول بالتفصيل العديد من رموز الأساطير القديمة والأعمال الفنية عبر العصور كجزء من اللاوعى الجمعى. كذلك لعب التفسير النفسى للأعمال الفنية دورا مهما فى استكشاف العقل الباطن. وهو ما فتح الآفاق لابتكار أساليب علاجية. ويعتبر السيريالى "سلفادور دالى" أكثر الفنانين تأثرا وتأثيرا فى علم النفس التحليلى، من خلال تقديمه لعوالم اللاوعى فى لوحاته. وتنبع علاقة الفنون البصرية بعلم النفس، فى الأساس من الأحلام بوصفها تصويرا رمزيا لمكنونات العقل الباطن. أما مدرسة "الجشطالت"، فاعتمدت على الفنون البصرية، وشرحت من خلالها طبيعة الإدراك البشرى للعالم، عبر نوع من الإدراك الكلى، يتم وفق مبادئ، منها إدراك الأشكال من خلال فصلها عن خلفيتها، وجمع المتشابهات معا، وكذلك الأشياء المتجاورة، والميل لإغلاق الأشكال، حيث يقوم العقل أحيانا باستكمالها، وغيرها من المبادئ التى وجدت فى الفنون البصرية مجالا واسعا لشرحها، وتطبيقها. ◄ مكنونات النفس فى كتاب "الفن وعلم النفس" شرحت المؤرخة الفنية لورى شنايدر آدمز، كيف يعبر الفنانون عن محتويات لاوعيهم، وطبقت ذلك على أعمال عدد من السيرياليين. كما تناولت ربط فرويد بين الفن والمكبوتات وأحلام اليقظة، وما طرحه "يونج" بخصوص اللاوعى الجمعى، وقدرة الفن على التقاط الرموز والأساطير العابرة للثقافات، ودور الرموز الفنية فى كشف خبايا النفس، حيث تكشف الألوان والأشكال عن أمور تتعلق بالحياة والميلاد والموت وصراعاتها داخل النفس. وشرحت كيف عبرت لوحات الفنانين عن حالتهم النفسية، كلوحة "الصرخة" لمونك التى تعتبر نموذجا لتحليل مشاعر القلق والخوف، معتبرة الفن نوعا من اللغة النفسية القادرة على التعبير عما يعجز عنه اللسان، وأن يكشف عن اختلاط المتناقضات مثل الشعور بالجمال والرعب معا. وشبهت الفن بالأحلام، فى قدرته على تجاوز الواقع. ويقدم كتاب "عقل الفنانين: وجهة نظر التحليل النفسى حول الإبداع الحديث والفنانين المعاصرين" ل"جورج هاجمان" نظرة تحليلية نفسية للعمليات العقلية التى تدفع الفنانين للإبداع، وكيف تؤثر تجاربهم النفسية على أعمالهم. ويركز على أثر الصدمات على تشكيل الهوية الشخصية والإبداع الفنى. ويؤكد على أن الإبداع هو عملية نفسية تتم عبر الصراع بين الوعى واللاوعي، كما يعتبر استجابة نفسية للتجارب الشخصية. ويلقى الضوء على مفاهيم كالكبت والإسقاط والتماهى، وكيف تظهر فى أعمال المبدعين. وطبق ذلك على أعمال فنانين مثل فان جوخ، حيث عكست ألوانه الحادة وخطوطه المتشنجة صراعاته مع العزلة والمرض النفسي، وعبرت عن الكبت والانفعالات العاطفية الداخلية المضطربة بقوة. كما رأى فى الحداثة الفنية تعبيرا عن الرغبة فى الابتعاد عن قيود الواقع، وتحدى النظرة القديمة للفن، وابتكار طرق تعبير أكثر انفتاحا على مكنونات النفس البشرية.