يكشف نتاج العالم المصري الراحل د. مصطفي سويف عن الدقة المنهجية في الكشف عن مراحل تشكل العملية الإبداعية، وكذلك الاستقصاء المعرفي المتعلق بإشكاليات الوعي، والعمليات العقلية، ومدي تركيبها، وآلية عملها، وعلاقتها بنتاج بعض العلوم الأخري؛ مثل الكمبيوتر، وفسيولوجيا الأعصاب، ويحرص د. مصطفي سويف علي التأصيل، وتوثيق المفاهيم، والآليات المنهجية لدي المفكرين، والباحثين الذين تناولوا الظاهرة موضوع الدراسة؛ فقد عرض لفرويد، ويونج، ودي لاكروا في سياق حديثه عن الظاهرة الإبداعية، ونشوئها، وطرائق تشكل العمل الفني من خلال الاستبيانات، والمسودات الخاصة ببعض الشعراء في كتابه عن الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر، وارتكز في عرضه، واستقصائه علي كشف منابع العملية الإبداعية، والارتكاز علي الأمثلة التوضيحية من تاريخ الفن طبقا لرؤية المفكر، ونقد آلياته المنهجية في التطبيق؛ ومن ثم يفتح د. مصطفي سويف الباب لطرح إشكاليات علمية، ومعرفية جديدة، وطرائق نسبية للرؤي المحتملة في التأويل انطلاقا من اختلاف المناهج، والمواقف، والرؤي النسبية؛ وتفرد الظاهرة الإبداعية نفسها بوصفها ظاهرة احتمالية انطلاقا من نشوئها، واكتمالها المؤجل في الأعمال ما بعد الحداثية التي تسمح بتنوع الرؤي التأويلية، والتعددية في الكشف عن الجذور المنتجة للتطور السيميائي للنص، أو العرض، أو العمل الفني بوجه عام؛ إذ إن العملية الإبداعية تتداخل مع إنتاجية الوعي، واللاوعي، وتراكم الصور والأعمال التشكيلية، والحكايات، والأساطير، وأثر الصيرورة الكونية في أخيلة المبدع، وتشكل صوته الجمالي؛ وهو ما يؤكد ما توصل إليه د. مصطفي سويف في تحليله للإجابات المتعلقة بحدود الأنا الخاص بالشاعر، وإرادته أثناء الكتابة، ووثباتها. لا يطرح التفسير العلمي للظاهرة الإبداعية إذا رؤية تفسيرية نهائية؛ لأن الظاهرة نفسها تتعلق بقوي متداخلة، ولحظات فريدة تتعلق بطبيعة إنتاجية الوعي، وإشكاليات الطاقة التي تولد الإحساس بالجمال، وتسجيله أثناء الكتابة. ومن القضايا الإشكالية التي ناقشها د. مصطفي سويف، ومازالت تقبل الحوار المتجدد، والجدل الواسع، والإضافات العلمية، والفكرية المحتملة ضمن حقل علم النفس، وما يتداخل معه من حقول أخري؛ مثل النقد، والنظرية الاجتماعية؛ الموقف من فرويد، والتحليل النفسي، وطرائق تفسير الوعي، وعمله، ونشوء العملية الإبداعية، وتشكلها. أولا: الموقف من فرويد، والتحليل النفسي: يكشف د. مصطفي سويف عن تميز التحليل الفرويدي في نطاق الشخصية، والبحث الأركيولوجي المتعلق بأثر خبرات اللاوعي في الطفولة في تشكيل السلوك، ثم يوجه نقدا للمنهج بأنه تبريري فيما يتعلق بالوثائق، وتحليلها، ويعرض لرؤي فرويد التطبيقية التحليلية، وتعليقاته علي لوحات دافنشي؛ إذ يكشف عن تأثر دافنشي بأنوثة والدته في أعماله؛ لأنه ارتبط بها في الطفولة لفترات أطول من الإنسان السوي؛ ومن ثم تجلت ملامح الأنوثة والذكورة في أعمال، وشخصيات؛ مثل الموناليزا، وصورة القديس يوحنا؛ والقديسة آن؛ فقد ظل أسير ابتسامة والدته، وأنوثتها، وتجلي ذلك في النساء الباسمات في أعماله. (راجع، د. مصطفي سويف، الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة، دار المعارف بالقاهرة، ط4، من ص 78: 81). يفتح د. سويف إذا نوعا من النقاش العلمي، والحوار النقدي المتعلق بمنهج فرويد، وتحليل نتائجه، ومدي دقتها في تفسير العملية الإبداعية، كما يعزز من بحث فرويد رغم اختلافه معه حول الشخصية، ونتاجها الفني الذي لا ينفصل عن عوالم الطفولة، وقد أسهمت بحوث فرويد في الأحلام عن تأويلات مختلفة تقبل الجدل أيضا فيما يتعلق بأوديب لسوفوكليس، وكذلك هملت لشكسبير؛ إذ فسر تردد هملت بتوتر العلاقة في مستوي اللاوعي مع الأب، وشبحه. ومثلما كانت أبحاث فرويد، وتحليلاته موضوعا للجدل، والنقد في أعمال د. مصطفي سويف، فإنها حفزت عددا من المفكرين والنقاد لإنتاج رؤي جديدة تنطلق من فرويد، وتضيف إليه، أو تنطلق من مقولاته في اتجاه علم التأويل، أو النقد، أو البحوث الاجتماعية؛ ومن هذه الرؤي؛ تأويلية الفيلسوف الفرنسي بول ريكور النسبية؛ فمقولات التحليل النقسي تقع ضمن تنازع الأنساق التأويلية الأخري للوجود، وكذلك نموذج هارولد بلوم التنقيحي في القراءة؛ إذ يعيد الشاعر تمثيل أسلافه بينما يسعي للمقاومة، واستبدال الأب عبر القراءة التحريفية. أما هربرت ماركيوز فيعيد تمثيل العلاقة بين الإيروس، والموت، والواقع - لدي فرويد - في السياق الحضاري المتعلق بالحرية، والتقدم؛ وهو ما يعكس ثراء أبحاث فرويد، وقابليتها للإضافة المستمرة، والحوار النقدي الذي أسهم فيه د. سويف فيما يخص نشوء الإبداع، وتطوره. ثانيا: طرائق تفسير الوعي، وعمله: يناقش د. مصطفي سويف إشكالية مدلول الوعي، وطرائق عمله، ويؤصل للمدلول ضمن حقول علمية متداخلة، وينتصر للتوسط بين المادي، والعقلي في فهم طبيعة عمله، وآلياته، وعلاقة تمثيلاته بالبيئة، ويعرض تفصيلا - لرأي بريبرام، وموقفه من طبيعة الوعي؛ وهو ليس نفسيا خالصا، ولا ماديا خالصا، وهو يقدم مدخلا لفهم الوعي انطلاقا من العلاقة مع الكمبيوتر؛ فالعمليات العقلية للمخ هي عمليات ترميز تربط بين مستويات متتالية، تزداد تعقيدا وتركيبا مع كل مستوي جديد، وهو ما يؤكد تداخل عالمي العقل، والكمبيوتر، وبرامج تشغيله؛ ثم يخلص د. سويف من عرضه لرأي بريبرام إلي أن العقلي، والمادي تحقيقان لمبدأ واحد، وأن الصور تنبثق ذ في العقل ذ ويعاد تركيبها من المدخلات الحسية الصادرة عن البيئة. (راجع، د. مصطفي سويف، علم النفس، فلسفته، وحاضره، ومستقبله ككيان اجتماعي، الدار المصرية اللبنانية، طبعة خاصة بمكتبة الأسرة، سنة 2000، ص 52، 56، 58). ولا يمكن فصل بحوث طبيعة الوعي، ووظائفه عن العلاقة مع اللاوعي، والعملية الإبداعية، والتأويلات المختلفة للوجود، وإن إسهام د. سويف العلمي في هذا النطاق، يؤكد تعقيد عمليات الوعي، وإشكالية طبيعته، وتداخله مع حقول معرفية أخري؛ فالوعي - طبقا للنتائج التي توصل إليها - لا يفهم في نطاق مادي أحادي؛ ويتميز بالسمة التحويلية التي تؤكد الإبداع، والارتباط بالواقع، والذاكرة في آن. ومازال موضوع الوعي، وعلاقته بنمو الأنا، وتشكيله، وكذلك بالعمل الفني موضوعا للكتابات الفلسفية المعاصرة؛ فقد ارتبط باللاوعي في سياق تأويلي جديد في فكر الفيلسوف الفرنسي بول ريكور الذي يري في كتابه "صراع التأويلات" أن اللاوعي تكوين، بينما الوعي نهاية للأزمنة؛ فاللاوعي قدر خلفي لرموز موجودة هنا، ومكررة، وقدر لتكرار الموضوعات نفسها علي شكل دورات حلزونية مختلفة، أما الإنسان فمسؤول عن تكوين التاريخ الذي استقطبته الصور القبلية، وأن كلا من حفريات اللاوعي طبقا لفرويد، وظاهراتية الروح طبقا لهيجل يتكلم عن الإنسان بشموليته. (راجع، بول ريكور، صراع التأويلات، ت: د. منذر عياشي، مراجعة: د. جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة مع سوي بباريس، سنة 2005، ص158). يمزج ريكور إذا بين تطور الذات في السياق التاريخي / الروحي، والتأثير الدائري للاوعي في نسق تأويلي معقد، ومتداخل؛ وهو ما يكسب الوعي دلالات جديدة تتعلق بالهوية الذاتية، ومستوياتها المتقدمة، وعلاقتها بالبني التكرارية للاوعي؛ ومن ثم تتعدد الرؤي التفسيرية للذات في نشوئها، وتطورها. ثالثا: نشوء العملية الإبداعية، وتشكلها: قدم د. مصطفي سويف بعض النتائج العلمية حول نشوء الإبداع، وخطواته من خلال تحليل المسودات الخاص بتطور كتابة القصيدة لدي بعض الشعراء؛ مثل عبد الرحمن الشرقاوي، وكذلك جمع إجابات وجد أنها متقاربة، وتعود لأساس واحد في كتابه " الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة"؛ فقد رصد في الإجابات الاتفاق علي أن الأنا لا يسيطر علي الإبداع؛ فالقصيدة تتطور بعيدا عن قدرة الشاعر في إجابة محمد مجذوب، واختيار البحر والقافية كذلك، يرجع إلي عمل موجه أكثر من إرادة الشاعر، وقد توصل د. سويف - من خلال بنية المسودات إلي أن الشاعر يتقدم بوثبات، ثم يقوم بترجيع، يعقبه انطفاء، ثم ترد إليه لحظات من إشراق الصور؛ وهي ترد إليه، ولا يجلبها. (راجع، د. مصطفي سويف، الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة، ص 248، 266، 267). وأري أن مدلول الوثبة، أو الإشراقة في نتائج د. سويف العلمية المتعلقة بتطور العملية الإبداعية، يعد مفتتحا لحوار مستمر حول صيرورة الإبداع، وهيمنتها علي الذات، وتداخل هذه الصيرورة مع الكتابة بمدلولها الشامل عند دريدا مثلا، كما أن تحليل المسودات علميا قد يفتح المجال أمام كتابات طليعية في قصيدة النثر تعيد تشكيل الأوراق الأولي للكتابة بصورة فنية جديدة تؤكد مدلول الاستبدال التفكيكي؛ وهو ما نلاحظه في ديوان "حجر يطفو علي الماء" لرفعت سلام. هكذا تتجلي نتائج د. سويف كمداخل لحوار نقدي ممتد حول التداخل بين المناهج النفسية، والنقد؛ وقد أكد ذلك الحوار النقدي د. يحيي الرخاوي في بحثه المنشور ضمن دراسات نفسية مهداة إلي د. مصطفي سويف؛ إذ يطرح مدلول الإيقاع الحيوي بمستوياته البيولوجية، والكونية، والزمنية، وارتباطه بالنمو، والإبداع في مقابل التباعد، والتنظيم المشتت. (راجع، د. يحيي الرخاوي، النظرية التطورية الدورية، ضمن دراسات نفسية مهداة إلي الأستاذ الدكتور مصطفي سويف، تقديم، وإشراف د. محمد محمود الجوهري، دار الثقافة للنشر والتوزيع بالقاهرة، 1994، ص 448، 449). إن تنوع حالات الإيقاع الحيوي وتقدمها، وارتباطها بالصحة، والإبداع لدي د. يحيي الرخاوي، يؤكد اختلاف الرؤي، واتساعها حول الإبداع من جهة، والارتباط بين عمليات التطور الداخلي للذات، ومدي تنظيمها أو تشتتها، واضطراباتها في الحقول النفسية، بالقراءات المحتملة للنصوص الأدبية من جهة أخري.