ربما تكون عُمان هى الدولة العربية الأولى التى لا يختلف عليها أحد؛ فلم أرَ أحدًا من ذهب إلى عُمان إلا وتمنى أن يعود إليها ليس مجرد طيف يأتى ويذهب دون أن تبقى آثاره عالقة فى الذاكرة حتى العام المقبل؛ لنعيش فيها ونُعايشها ونُعدّ له قائمة طويلة وجنيهات قليلة لا تليق بأوهامنا المتجددة فى الانغماس الروحى فى بحار الحرف؛ وإنما هو وجود دائم، وبقاء لا يريم، وحضور مستمر فى الوعى الثقافى المصرى والعربي؛ وقوة لا يُستهان بها فى بثّ الأمل والطمأنينة إلى عقول أرهقها البحث عن نقطة الضوء فى نفق الواقع المأزوم الذى لا يحمل سوى زمهرير عاصف لمستقبل أشد برودة! إنه معرض القاهرة الدولى للكتاب الذى تحلّ شمسه الدافئة بعد أيام قليلة فتحيل برودة يناير إلى دفءٍ ثقافى ينحاز إلى المستقبل، ويُقلّم خمولنا المعرفي، ويؤقلم عقولنا بفتح نوافذ جديدة للثقافة العربية من خلال هذا المهرجان السنوى الناشب فى الوعى الجمعى باعتباره الرافد الأكثر حضورًا وتأثيرًا فى الساحة المعرفية العربية؛ ليس فقط لشراء الكتب عبر منافذ دور النشر العربية؛ وإنما لكونه منصّة للأمل، وللآراء والأفكار الجديدة التى تبثها الندوات اليومية التى تضم كوكبة من أكابر المفكرين المصريين والعرب، الذين يأتون من كل أصقاع العالم ليحجوا إلى معرض القاهرة وليشهدوا منافع لهم. فى هذه الدورة السادسة والخمسين يُشارك نحو ألف ومائتى دار نشر من سبعين دولة؛ وشخصية المعرض الكاتب أحمد مستجير؛ والكاتبة فاطمة المعدول لشخصية معرض الطفل؛ وتأتى سلطنة عُمان ضيفًا للشرف؛ وهو الاختيار الذى أراه موفقًا جدًّا من د. أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، ود. أحمد بهى الدين، رئيس الهيئة العامة للكتاب؛ للخصوصية الثقافية الفريدة لدولة عُمان العريقة، من ناحية؛ ولارتباطنا الثقافى والحضارى مع مبدعيها، من ناحية أخرى؛ ولربما تكون عُمان هى الدولة العربية الأولى التى لا يختلف عليها ولا معها أحد؛ فلم أرَ أحدًا من أساتذتى بالجامعة، ولا بين أصدقائى الصحفيين ذهب إلى عُمان إلا وتمنى أن يعود إليها، مادحًا فى رزانة وكرم أهلها، وجمال أرضها ومبانيها التراثية العريقة، خاصة قلاعها العتيدة التى تحكى التاريخ البطولى لهذا الشعب الأبيّ، الذى واجه صلف المعتدين بكل قوته، وأثبت أنه قادر على الموازنة بين الماضى والحاضر، بل والتطلع إلى مستقبل أكثر رحابة وحيوية؛ وهو ما نراه فى إنجازاته المعمارية الفريدة، وإبداعاته الأدبية التى ترفد الحياة الثقافية العربية بمئات المبدعين سنويا؛ ولهذا فإننى أثق أن هذه الدورة من معرض الكتاب ستشهد فعاليات قوية لمناقشة الواقع الإبداعى العربي؛ بحثًا عن خريطة طريق نحو آفاق مستقبلية تليق بماضى الأمة العربية العريق. لا يُمكن قبول فكرة أن تكون مشاركة سلطنة عُمان «ضيف الشرف» بمعنى الهامش اللافت فقط؛ ولكننا نريدها أن تكون مشاركة «البطل» الرئيسى فى معرض الكتاب هذا العام؛ بالمشاركات الأدبية لمبدعى عُمان الكثيرين فى الندوات والمؤتمرات اليومية، من ناحية؛ وبدور النشر التى تضخ مئات الكتب والإصدارات العُمانية الجديدة، التى تكشف للقارئ المصرى خاصة، وللقارئ العربى عامة، الحجم الحقيقى لثقافة هذا البلد العربى الكبير. وفى معرض الكتاب تكون الفرصة سانحة أمام وزير الثقافة لتحقيق بعض وعوده وآماله التى بثها فى كلمته الأخيرة أمام الجلسة العامة لمجلس الشيوخ؛ حين أشار إلى التوسع فى مبادرة «صنايعية مصر» وتوسيع نطاقها الجغرافيّ؛ وتوقيع بروتوكول تعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «الإسيسكو» لإقامة معرض عربى سنوى للحرف التراثية، ما يسهم فى تعزيز تبادل المنتجات بين الدول العربية. والحقيقة أن وزير الثقافة يسعى بقوة لإحداث تغيير ضرورى ومطلوب جدًّا فى هذا الوقت الحرج من عُمر المنطقة العربية؛ ورغم الأرقام الكثيرة التى ذكرها الوزير لفعاليات الوزارة طوال العام الماضي؛ فإن الواقع يؤكد أننا لا بد أن نشعر بتغيير حقيقى على الأرض؛ فالوعى الثقافى هو المحكّ الأول والأكبر فى مواجهة شطط الفئات الضالة؛ وهو ما أثق أنه سيحدث خلال الفترة المقبلة عن طريق الاستفادة القصوى من إمكانات ومقار قصور الثقافة «الهامدة» فى المحافظات، التى يجب أن تخرج من برودة البناء المنمق إلى دفء البث التوعوى للمقبلين عليها؛ بحيث تكون مرفأ آمنًا تركن إليه عقول الشباب وأفئدتهم.