عند نهاية القرن التاسع عشر قبل الميلاد هاجر جماعة من الساميين ومنهم إبراهيم عليه السلام من بلاد ما بين النهرين صوب أرض كنعان بفلسطين. وقد قصّ القرآن الكريم قصة هجرة إبراهيم عليه السلام وأهله و أتباعه، إذ دعا قومه إلى عبادة الله الواحد الأحد وترك عبادة الأوثان تلك التي لا تنفع ولا تضر، فأبى قومه، فقام إبراهيم بتحطيم أصنامهم إلا كبيرًا لهم. فغضب قومه وقرروا إعدامه بالنار. وكان أمر الله: "قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم" ، وما كان من إبراهيم إلا أن خفّ الرحال ومعه أهله صوب أرض كنعان واستقر بها وذريته من بعده. اقرأ أيضًا| ذكرى وعد بلفور.. حكاية رسالة تسببت في مأساة الفلسطينيين وقد أُطلق على هؤلاء بالعبرانيين، وهناك من يرى أن كلمة "عبري" قد أطلقت علي العبرانيين لأن إبراهيم عليه السلام عبر نهر الفرات أو نهر الأردن، وقد أطلقت كلمة "عبرانيون" علي ذرية إبراهيم. وكثيرًا يؤصل "عبري" إلى جد إبراهيم الأكبر عابر بن سام، والأرجح هي عودة كلمة "عبري" إلي الفعل الثلاثي "عبر" وذلك لما تميزت به هذه القبائل من كثرة التنقل والترحال. وقد أطلق علي هؤلاء العبرانيين "بنو إسرائيل" نسبة إلي يعقوب عليه السلام, ولما استقروا في أرض كنعان كانوا ينفرون من كلمة "عبري" تلك التي تذكرهم بحياة البدو الأولي وما لاقوه من عذاب, فشاعت عليهم كلمة بني إسرائيل و ارتضوها بينهم. اقرأ أيضًا| لماذا يختلف تاريخ النكبة مع قيام دولة الاحتلال بفارق يوم واحد؟ ومما هو جدير بالتنوية أن هؤلاء القوم عاشوا في عُزلة رسمت حياتهم ، سواء في طابعها البدوي الأول أو حتي عندما عايشوا إناسًا متحضرون، وذلك لأن الشريعة اليهودية ليست عالمية، وإنما هي شريعة خاصة ببني إسرائيل فقط، ومن هنا كانت نظرتهم إلي الأجانب باعتبارهم أعداء. وقد عاش هؤلاء في قبائل متفرقة في أرض كنعان وكانوا يغيرون من وقت لآخر على جيرانهم من الساميين. ولما حلّ الجدب بتلك المنطقة ، كانت هجرتهم التاريخية إلى مصر إبان الاحتلال الهكسوسي للبلد الأخير، ومنهم من تقلد مناصب عليا بمصر مثل يوسف عليه السلام وكان أمين خزائن فرعون والوزير الأول له، ولما طرد المصريون الهكسوس من بلادهم أخذوا يسومون بني إسرائيل سوء العذاب يذبحون أطفالهم و يستحلون نسائهم. وقد نجى الله موسى عليه السلام حينما أوصى تعالي لأمه بأن تلقيه في اليم فيأخذه عدو لله وعدو لموسى، وتربى موسى في القصر الفرعوني حتى بلغ سن الشباب والفتوة. ولما علم موسي أنه من بني إسرائيل قرر أن يكون لهم عونًا وسندا. وحدث أن رأي موسى خلافًا بين مصري وعبراني واحتدم الخلاف، فاستنصره العبراني، فما كان من موسى إلا أن وكز المصري وكزة أفضت إلى موته. فثارت مشاعر المصريين ضد موسى بل ضد كل العبرانيين خاصة حينما اعترف عليه من استغاثه بالأمس. وهرب موسى وترك البلاد، و توجه إلى مدين، وقصته معروفة مع ابنتي شعيب وقد ملأ لهما دلوهما ثم تزوج من إحداهما ، وكان مهرها هو خدمة أبيها بأجر ثماني سنوات ، وبعد تمامها دفعه الحنين إلى مصر، وقد ظن أن الحادثة القديمة لم تدخل في طي النسيان. وكانت وجهته ومقامه عند "طور سيناء". وبعد أن وصل إلي ظل الطور وظن أنه ضل الطريق آنس إلي جانب الطور الأيمن نارا. وقد سجّل القران الكريم هذا الجانب من رحلة النبي موسي: " فقال لأهله امكثوا إني آنست نارًا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد علي النار هدي فلما أتاها نودي يا موسي إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوي وأنا اخترتك فاستمع لما يوحي إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " (سورة طه من الأية 10 للأية 14). وكان وحي ربه إليه وكان موسي كليم الله. وكانت بداية انطلاق دعوة موسي لكن فرعون أبي واستكبر وانتهي الأمر بالخروج من مصر في عام 1330 ق.م بعد أن مكثوا في مصر زمنًا عظيمًا لنحو 430 عام. وقاد موسي قافلة بني إسرائيل صوب فلسطين. وفي الطريق جاء أمر الله إلي موسي بأن يصعد جبل الطور فمكث في الجبل أربعين ليلة ولمّا غاب, ظنّ قومه أنه لن يعود , فصنعوا عجلًا من الذهب الخالص و عبدوه كما كان يعبد المصريون القدماء. ولما نزل موسي ووجدهم علي حالهم هذا , غضب أيما غضب وحطم العجل , وأنّب قومه, وواصل بهم الرحل صوب أرض كنعان. ومما يُذكر أن قومه رفضوا دخول المدينة معه، وخشوا الحرب وثاروا في موسي: " إن فيها قوم جبارين وإنا لن ندخلها حتي يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون" (سورة المائدة أيه 22) , وبعد محاولات عديدة باءت جميعها بالفشل, قالوا لموسي قولتهم الشهيرة: " إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون" (سورة المائدة أيه 24). فتوجه موسي إلي ربه بالشكوي :" رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين" (سورة المائدة أيه 25). وجاء أمر الله وكان التيه الأعظم في الصحراء، ودام هذا التيه أربعين عامًا، وتوفي موسي ومن قبله أخيه هارون, وقاد قافلة بني إسرائيل يوشع بن نون كما وصي موسي نفسه قبل وفاته. وجدير بالذكر أنه في غضون تلك الأوقات، تحديدًا في عام 1200 ق.م، وعلي طول الساحل الممتد بين يافا و غزة ، نزلت جماعه من جزيرة "كريت"، هم الفلسطينيون وقد اختلط هؤلاء بالكنعانيين، وامتزجت الدماء وغلب عليها الطابع العربي، وسميت هذه البقعة وعرفت بفلسطين. وحمل يوشع راية بني إسرائيل، وبعد اقتتال شديد، دخل يوشع فلسطين. وكان أول ما عمله يوشع هو تقسيم الأراضي التي سيطر عليها بين الأسباط الإثني عشر, والأسباط هم أولاد يعقوب عليه السلام وأولاد أولاده, ورابعهم "يهوذا" التي سميت القبيلة فيما بعد باسمه, وأخرهم يوسف و بنيامين. وكان بنو إسرائيل يعيشون قبائل متفرقة إلي جانب جيرانهم من الكنعانيين وقد تأثروا بهم في الكثير من أمور حياتهم ومنها العباده. وفي هذا العصر القبلي كان علي رأس كل قبيلة شيخ، يحتكم إليه فيما قد ينشب بين أبناء القبيلة من منازعات, وقد منح هذا الشيخ سلطة القضاء فكان الشيخ الذي يرأس القبيلة هو قاض لها. ولم يكن بنو إسرائيل يمانعون تولي النساء منصب القضاء، وعرفت واشتهرت قاضيه بني إسرائيل "دبورة". وذيع عن هؤلاء القضاة الفساد وتلقي الرشوة, فثار بنو إسرائيل إلي جانب الكنعانيين و تمردوا علي القضاه, وانتهي بذلك عهد القضاه، وأعقبهم عهد الملوك.و كان أول ظهور للدولة كتنظيم سياسي علي يد الملك شاؤول في عام 1052 ق.م. وشاؤول هو الذي جاء ذكره في القران الكريم باسم "طالوت"، وحدث أن أعدت إحدي القبائل الفلسطينية العُدة لقتل شاؤول (طالوت)، بقيادة "جلبات", الذي ذكر في القران الكريم باسم "جالوت"، وكان جبارًا في الأرض , ووقف "جالوت" يطلب إلي "طالوت" النزال و القتال فتصدي له "داوود"، وكان معه عصًا ومقلاعًا وقتل داوود جالوت, "فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت" سورة البقرة أية 251. وجاء داوود وتولي زمام بني إسرائيل في فلسطين (1010 – 970 ق.م)، ويعتبر عهد داوود عليه السلام, هو العصر الذهبي لبني إسرائيل , وفيه ازدهرت البلاد وعم السلام والرخاء، وكان أول ما عمله داوود من عمران هو تشييد مدينة أورشليم, واتخذها عاصمة لحكمه, كما وضع أساس هيكل اليهود، والذي أصبح فيما بعد معبدًا لهم. وعلم بنو إسرائيل الزراعة واستقروا إلي جانب أراضيهم, كما عرفوا بعض فنون النجارة والصناعة, وقد تأثروا إلي حد كبير بجيرانهم الكنعانيين حتي أتقنوا فنون التجارة, كما أنشأ داوود أول أسطولًا تجاريًا لبني إسرائيل. ومن الناحية الإدارية، قسم داوود فلسطين إلي اثنتا عشر وحدة علي أن تكون حدودها متماشية مع مساكن الأسباط الإثنا عشر. وبعد وفاة داوود جاء سليمان ابن داوود عليهما السلام (970 – 930 ق.م) ، وفي عصره تم بناء الهيكل اليهودي، والذي سمي فيما بعد باسمه، وازدادت البلاد قوة علي قوة , ووضعت الحرب أوزارها، وتدفق الذهب علي خزانتها من التجارة، إلي جانب الجزية التي فرضت علي الشعوب التي خضعت له، ومن هذه الأموال تمكّن سليمان من إنشاء جيش قوي. وتوفي سليمان قبل أن تتحقق طموحاته في توحيد بني إسرائيل في شعب واحد. وبعد وفاة سليمان انقسمت المملكة إلي قسمين, واحدة في الجنوب وهي مملكة "يهوذا" و عاصمتها أورشليم, وأخري في الشمال وهي مملكة "إسرائيل" وعاصمتها السامرة. وقد ضعفت كلا من المملكتين وسقطت مملكة الشمال علي يد الملك "سرجون الثاني" ملك آشور في العام 721 قبل الميلاد ومن وقتها أصبحت السامرة ولاية أشورية. أما مملكة الجنوب فاستولي عليها "نبوخذ نصر" في العام 597 ق.م, وقتل اليهود وعذبهم, وأسر العديد منهم عند عودته إلي بابل. ولم يتبق في فلسطين من اليهود إلا نفرًا قليلًا, بعدما فرّ كثيرًا منهم إلي مصر وسيق أخرين أسري إثر الغزو. و علي أنقاض الحروب الأهلية التي نشبت بينهم كانت بداية سطور تاريخية أخري حيث خضعوا للغزو الأجنبي الذي كان أهمه خلال الاحتلال الروماني. وفي عصر الإمبراطور الروماني فسباسيان, ثار اليهود , فأرسل "فسباسيان" ابنه "تيتوس" ليقمع ثورتهم, فقتل الكثيرين منهم , ودمر الهيكل, وهدم أورشليم, وفي موكب مشهود عاد "تيتوس" إلي روما ومعه 300 ألف أسير يهودي, وقدر عظيم من الغنائم وأقيمت له أقواس النصر تخليدًا لذكراه بعد هذا النصر المبين عام 70 ق.م. وفي عهد الإمبراطور الروماني هارديان, توجه لأورشليم فوجدها خرابًا يبابا, فأقام علي أنقاضها مدينته الجديدة "إيليا كابتولينا"، وأقام محل الهيكل معبدًا للإله "جوبيتر"، وانتهي عصر اليهود بفلسطين وكانت حياة الشتات. ومما هو جدير بالتنوية أن هؤلاء القوم قد منعوا أينما حلّوا من تملك الأراضي, فما كان منهم إلا ممارسة التجارة بالربا, ومنهم من اعتنق المسيحية وذاب واختلط في بقية الشعوب، ومنهم من قرر العيش في عزلة في حارات خاصة بهم أطلق عليها "حارات اليهود" أو "الجيتو" . وجدير بالذكر أن الاضطهاد ضد اليهود كان راجعًا إلي تلك النظرة من الكنيسة بأن اليهود هم المسؤلون عن محاكمة المسيح عليه السلام و دمه ، خاصة بعد إعلان المسيحية ديانة رسمية. وجاءت الثورة الفرنسية ببعض مبادئ لها و نظرت إليهم بعين الرأفة. وفي العام 636 ميلاديًا, فتح المسلمون أرض فلسطين في عهد الخليفة "عمر بن الخطاب", وذهب إلي أورشليم وصالح " أهل ايليا المسلمين, واعتبر اليهود من شتي البقاع من أهل الذمة , وعاملهم معاملة النصاري "لهم ما لنا و عليهم ما علينا". وامتنع علي اليهود سكني الأماكن المقدسة وظلوا يعشيون في "الجيتو" التي أشرنا إليها. و يتعين علينا التفرقة بين اليهودية باعتبارها بعض الوصايا ذات الدلالة الشرعية، وبين الصهيونية كمذهب يخدم شيعًا وأحزابًا من اليهود وقد راج سوق هذا المذهب في نهاية القرن التاسع عشر . وفي مؤتمر بازل بسويسرا عام 1898، نادي " هرتزل" بإنشاء دولة تجمع شتات اليهود من بين البقاع. وبعد الحرب العالمية الأولي, دعّم مطلب "هرتزل" وعد وزير الخارجية البريطاني بلفور، الذي نادي بالتقسيم في الثاني من نوفمبر عام 1917، وأعطي حقًا لمن لا يستحقه. وفي 15 مايو 1949 تم الإعلان عن قيام دولة إسرائيل علي الأراضي الفلسطينية, بعد حروب عدة بين اليهود وبين العرب. وفي العام 1978 بدأ الاتجاهات ترنو نحو إبرام السلام بين إسرائيل وبين مصر و بينها وبين الفلسطينيين أصحاب الأرض الحقيقيون, ولازال لحديث السلام الكلمة العليا في النزاع الفلسطيني.