ريتشى روبرتسن ترجمة: ياسر شعبان يعتبر فرانز كافكا (1883 - 1924) من أكثر كتاب القرن العشرين غموضًا وتأثيرًا، فلم ينشر فى حياته إلا حفنة من القصص القصيرة أشهرها «التحول Transformation» أما رواياته الثلاث، «المحاكمة The Trial » و«القلعة The Castle » و«الرجل الذي اختفى (أمريكا) The Man Who Disappeared (America»، فقد ُنشرت بعد وفاته وساعدت على توطيد شهرة «كافكا» كمفسر ذى رؤية فريدة للقرن العشرين. وفى نهاية القرن التاسع عشر وجد الجسد متحدثًا باسمه وهو نيتشه الذى أقبل الجيل الأصغر فى كل أنحاء أوروبا، بمن فيهم «كافكا»، على قراءة أعماله منذ العام 1890. فى كتابه النبوئى «هكذا تكلم زرادشت» (1884) أعلن نيتشه أن الملَكة المسماة بالعقل أو الذكاء ما هى إلا جزء من صغير من الذكاء الغريزى العظيم القابع فى الجسد. وبعد تلك الدعوات التي أطلقها نيتشه سعى كثير من الأعمال الأدبية الحديثة إلى استكشاف وجودنا الجسدى، ومع ذلك فإن الحساسية الجديدة والتي يدخل «كافكا» فى نطاقها، لم تتقبل فكرة موت الجسد وحسب، لكنها بتقبلها هذا وجدت قيمة جديدة فى حياة الجسد، وكان كثيرون من معاصرى «كافكا» يعارضون الاتجاه الذى كان سائدًا فى القرن التاسع عشر بإخفاء الجسد تحت طبقات من الملابس وتشويه مظهره بالمشدات، وقد دعوا إلى القبول الصريح وغير الخجول بالجسد العاري كأمر حقيقى وطبيعى. وهكذا فإن تحول «جريجور» إلى حشرة، فى رواية (التحول)، إنما يُعبر بعنف عن التناقض الحاد الذي كان يعيشه «كافكا» حيال جسده وحيال الجسد بصفة عامة. ويوضح لنا تحوله وفشله فى ملاحظة هذا التحول درجة اغتراب «جريجور» عن جسده. هنا قراءه برؤية جديدة لأعمال كافكا تستند على رؤية كافكا لجسده وعلاقة هذا الجسد بما كان يدور فى مجتمعه فى ذلك الوقت من دعوات للتحرر وفهم الجسد بشكل أعمق. الجسد الحديث «عندما استيقظ جريجور سامسا من نوم ملئ بالأحلام المضطربة، وجد نفسه قد تحول فى فراشه إلى حشرة هائلة الحجم». لابد أن هذه هى أشهر الجُمَل التى كتبها كافكا. إلا أنها مثل كثيرات غيرها من الجمل التى كتبها «كافكا» مليئة بالألغاز. لقد تحول جسد جريجور ولكن عقله يظل بشريّا: فهل كلمة «نفسه» تعتبر مرادفا لكلمة «جسده»، فى مقابل عقله؟ كما أن جريجور لم «يجد» نفسه بالضبط متحولا: بل، على الرغم من أنه قد رأى بطنه البنية وسيقانه العديدة فقد فشل فى استيعاب تلك الحقيقة غير المفهومة. وبعد تساؤل قصير «ماذا جرى لي؟» رجع إلى وعيه كبائع جوال يجب أن يستيقظ مبكرًا فى الصباح الرطب ليلحق بقطار الخامسة صباحًا. بإدخاله عقل الموظف المُنْهَك فى جسد الحشرة الهائلة، صاغ «كافكا» فى سياق درامى فكرة الانفصال بين العقل والجسد وهى الفكرة المحورية فى الثقافة الغربية. وتأسيسا على فكرة ثنائية الروح والجسد المسيحية ذات الجذور العميقة، فقد مَيَّزَ العرف الفلسفى للعقلانية - والتى يعد ديكارت أبرز رموزها - بصورة حادة بين العقل - المحل اللاجسدى للمنطق - وبين الجسد، مملكة المشاعر والأحاسيس. فالجسد يجب أن يكون تابعًا للعقل، معادًا تشكيله بنظام عقلى معين، كما يجب أن يخضع الشعور للمنطق. وقد تم إبراز سيطرة العقل على الجسد من خلال الملابس: بواسطة الياقة الصلبة التى أجبرت الرجل الفيكتورى على أن يُبْقِى رأسه منتصبة بثبات، وبواسطة مشد الخصر (الكورسيه) الذى قيد جسد زوجته، ومع ذلك ففى نهاية القرن التاسع عشر وجد الجسد متحدثًا باسمه وهو نيتشه الذى أقبل الجيل الأصغر فى كل أنحاء أوروبا - بمن فيهم «كافكا»- على قراءة أعماله منذ العام 1890. وفى كتابه النبوئى «هكذا تكلم زرادشت» (1884) أعلن نيتشه أن الملَكة المسماة بالعقل أو الذكاء ما هى إلا جزء من صغير من الذكاء الغريزى العظيم القابع فى الجسد. وبعد تلك الدعوات التى أطلقها نيتشه سعى كثير من الأعمال الأدبية الحديثة إلى استكشاف وجودنا الجسدي، وكان أعظم عمل تناول ذلك الموضوع هو (الجبل السحري) لتوماس مان (1924)، و هى ملحمة عن المرض، فيها يستكشف هانز كاستورب، من بين أشياء أخرى كثيرة، عجائب علم الطب خلال إقامة لمدة سبع سنوات فى مصحة سويسرية، وإذ أتيح له أن يرى صورة ليده بأشعة إكس ، فإنه على الفور يشعر بالاغتراب عن جسده، ويراه كهيكل عظمى ذاب لحمه، ويتقبل هذه رغم أنفه، لأن المنظر يقنعه بأنه سيموت ويمكنه من تقبل فكرة فنائه. ومع ذلك فإن الحساسية الجديدة والتى يدخل «كافكا» فى نطاقها، لم تتقبل فكرة موت الجسد وحسب، لكنها بتقبلها هذا وجدت قيمة جديدة فى حياة الجسد، وكان كثيرون من معاصرى «كافكا» يعارضون الاتجاه الذى كان سائدا فى القرن التاسع عشر بإخفاء الجسد تحت طبقات من الملابس وتشويه مظهره بالمشدات. وقد دعوا إلى القبول الصريح وغير الخجول بالجسد العارى كأمر حقيقى وطبيعي، فالعرى فى التماثيل اليونانية لا يجب أن يظل فقط فى حدود المتاحف بل إنه يمكن أن يكون فكرة قابلة للتطبيق فى حياة الإنسان الحديث، على الرغم من أن الجسد يجب ألا يكون له بياض الرخام بل برونزيا بفعل الشمس. عن محتقرى الجسد أريد أن أتكلم إلى أولئك الذين يحتقرون الجسد، دعهم لا يتعلمون بصورة مختلفة أو يُدَرِّسُون بصورة مختلفة ولكن دعهم يقولون وداعا لأجسادهم وعندئذ سوف يصيبهم الخَرَس. «أنا جسد وروح» هكذا يقول الطفل. فلماذا ينبغى على الإنسان ألا يتكلم مثل الأطفال؟ لكن الرجل المتيقظ المتنور يقول: أنا كلى جسد، ولا شيء غير ذلك. وما الروح إلا كلمة تصف شيئا داخل الجسد. الجسد هو ذكاء عظيم. متعدد له نفس المعنى، حرب وسلام، قطيع وراع. إن ذكاءك القليل يا أخى الذى نسميه «الروح» هو أيضا أداة فى الجسد، أداة ولعبة صغيرة فى ذكائك العظيم. أنت تقول: «أنا وأنت نفخر بهذه الكلمة. لكن ما هو أعظم من ذلك - على الرغم من أنك لن تؤمن به - هو جسدك وذكائه العظيم الذى لا يقول «أنا» ولكنه يؤدى ال «أنا». من كتاب نيتشه «هكذا تكلم زرادشت» ترجمة آر جى هولينجديل (هارموندزورث، بينجوين 1961) وقد تم تقديم التعرى - على الرغم من أنه كان متاحا فى نطاقات محدودة - على أنه أفضل صور المعيشة الصحية. وقد أوصى الإصلاحيون أيضا بارتداء ملابس عملية ومريحة تسمح للجسد بأن يتنفس، كما حَثُّوا الناس على الهرب من المدن غير الصِّحِّيَّة إلى الضواحى التى تم تصميمها خصيصا لتضم الحدائق مثل هيليراو بجوار دريسدن (حيث فكرت إيلى شقيقة «كافكا» بإرسال ابنها إلى إحدى المدارس التقدمية). وقد ألهمت عقيدة العيش بالسليقة حركة فاندرفوجيل التى بفضلها اعتاد آلاف الشباب من الجنسين السير والتنزه عبر ألمانيا سيرًا على الأقدام والنوم فى الهواء الطلق. وقد أصبح «كافكا» نفسه مغرمًا بالتجديف والسباحة والنزهات الطويلة. ويسترجع صديقه «برود»: «كنت أنا وكافكا مغرمَيْن بالنزهات الطويلة سيرًا على الأقدام. ففى أيام الآحاد، وغالبية أيام السبت أيضاً، كنا نذهب إلى الغابات المحيطة ببراغ والتى كان جمالها يشجع النزعة إلى البراءة والحماس وسبحنا فى جداول الغابة، فقد كنتُ، أنا وكافكا، نعيش فى ظل معتقد غريب بأنه ليس لدينا ريف إلى أن قامت بيننا وبين الغابة رابطة طبيعية تكونت من خلال السباحة فى مياهها الحية المتدفقة». (ماكس برود Max Brod، «Streitbares Leben»، نقلا عن مارك آندرسن، «ملابس "كافكا" Kafka›s Clothes» (أكسفورد: كليرندون بريس Clarendon Press ، 1992)الصفحة 76. كان «كافكا» يؤدى التمرينات الرياضية مرتين يوميًا، وهو عارٍ، أمام نافذة مفتوحة. ودعا خطيبته فيليتسه إلى أن تحذو حذوه كذلك، وأن تتعلم السباحة. وفى سعيه إلى حياة أكثر صحية أصبح نباتيا (وهو ما كان أمرًا غريبًا فى تلك الأيام عنه الآن)، بل واتبع طريقة غريبة فى مضغ الطعام تعرف بال«فلتشرة fletschern» على اسم أول من روج لها وهو الأمريكى «هوراس فلتشر«1» Horace Fletcher». وفى صيف 1912، قضى «كافكا» أسبوعين فى مستعمرة يونجبورن Jungborn للعراة فى جبال هارتس Harz بألمانيا. وفى يونجبورن كان التعرى جزءًا من برنامج تجديد بدنى وروحى يضم أيضًا محاضرات عن التغذية النباتية وإصلاح أسلوب ارتداء الثياب وأداء الطقوس الدينية المسيحية فى الهواء الطلق. وكان الهدف هو تحقيق التناغم بين الجسد والروح. وفى برنامجها للتجديد من خلال الجسد، كانت يونجبورن هى التى أطلقت شرارة النزوع إلى الاهتمام بالجسد فى سائر أنحاء أوروبا خلال عشرينيات القرن الماضى وأصبحت اليوم من أسس الثقافة الحديثة. وفى أمريكا الشمالية وغرب أوروبا، كثر النقاش حول أن الاهتمام بالجسد من خلال اتباع نظم الحمية وحمامات الشمس قد حل محل الاهتمام الذى كان موجها فى السابق إلى الروح فيما احتلت التمرينات فى صالات الألعاب والنوادى الرياضية الفراغ الروحى الذى كان يشغله الذهاب إلى الكنيسة. ومع ذلك، ففى حالة «كافكا» لم يكن كل هذا النشاط البدنى يعنى أنه كان يعيش فى حالة انسجام تام مع جسده، فقد كان هذا النشاط جانبا واحدا من جانبين متضاربين. ويظهر الجانب الآخر فيما ورد فى مذكراته من شكوى مستمرة من جسده النحيف غير الصحى الذى كان يخشى من عجز قلبه الضعيف عن الاستمرار طويلا فى ضخ الدماء إليه بسبب طوله المفرط. وفى بعض السطور الفزعة من مذكراته؛ يتخيل تعرض جسده لعقاب بشع. ومثال هذا ما دونه فى «يوم 4 مايو من العام 1913 « حيث يتخيل أن هناك شفرة دائرية تقطع شرائح من لحمه. وفى خطاب كتبه إلى ميلينا فى سبتمبر من العام 1920، تخيل مشهدا لرجل مربوط من يديه وقدميه إلى قطبين يتحركان بحيث يمزقان جسده. ولئن كان الجسد بالنسبة لكافكا قادرا على جلب الخلاص لصاحبه من خلال الحياة الصحية، فهو فى الوقت نفسه المحل الأبرز للعقاب. إن تحول «جريجور» إلى حشرة إنما يُعبر بعنف عن التناقض الحاد الذى كان يعيشه "كافكا" حيال جسده وحيال الجسد بصفة عامة، ويوضح لنا تحوله وفشله فى ملاحظة هذا التحول درجة اغتراب «جريجور» عن جسده؛ إذ عليه أن يدبر أمر القيام بتلك المهمة المحسوسة التى تتمثل فى إخراج جسد حشرى ضخم وثقيل من الفراش، لكن عقله لا يزال يؤمن بأن عليه أن يلحق بالقطار وأنه سيلحق به فعلا. وتوضح سيطرة هاجس الوظيفة عليه ذلك الاغتراب عن الذات الذى فرضته مطالب هذه الوظيفة، «هذا الولد لا يفكر فى شيء سوى عمله»، وتؤكد أمه أن المشرف على الموظفين فى شركة «جريجور»- وكان يمارس رقابة شاملة على نحو غير معقول، وإن كانت على نحو منذر- قد جاء إلى محطة القطار ليتبين سبب عدم توجهه إليها. وبالرغم من ذلك، يتم الربط بين العقل والجسد بلغة اللاوعى التى يمكن أن تكشف الحقيقة لا إراديّا. وإذ لا يزال راقدا فى فراشه، يقول لنفسه عن أحد زملائه أنه «مجرد مخلوق (Kreatur) من صنع المشرف، ضعيف الإرادة وغبي». وكلمة «ضعيف الإرادة» spinelessهنا - والتى تعطى معنى «لا فقاري» أيضا - تشى بإدراك «جريجور» - فى عقله الباطن - أنه هو نفسه مخلوق لا فقاري. وهذا التبادل بين الجسد واللاوعى يشوش التناقض القائم بين عقل جريجور الإنسانى وجسده الحيواني. وفيما يكافح «جريجور» للخروج من الفراش، يحكى «كافكا» مناوراته بتفصيل دقيق حيادي، موضحا فى سخرية كيف يحاول «جريجور» أن يركز على مهمته تلك كمحاولة لكبت وعيه بموقفه الغريب. ولكن لأن أسلوب «كافكا" تحيطه دائما ظلة من الإيحاءات الإضافية، فإن السلوكيات الغريبة التى قام بها «جريجور» - كأن يتشبث بالدولاب لكى يبقى منتصبا ويستند على ظهر مقعد ويدفعه نحو الباب - ربما تستدعى فى الذهن التجربة التى يعيشها من تعرض فجأة للعجز ويحاول استخدام جسده بطرق جديدة للقيام بما كان يفعله قبل أن يصاب بالعجز. كما أن الحالة الجسدية الجديدة ل«جريجور» تجعله أكثر عرضة للإصابة بالألم؛ فهو لم يُصِبْ فقط رأسه عندما سقط من على الفراش ولكن أيضا عندما فتح الباب بإدارة المفتاح بفكيه، فإنه تسبب فى جرح نفسه بصورة جعلت سائلا بنيا يتساقط من فمه. ومهما يحاول «كافكا» التصديق على النموذج الحديث للجسد الصحي، فإنه يستمر فى تذكيرنا بأن الجسد هش وغير مُحَصَّن. لقد تم تقديم شخصيات أخرى كذلك من وجهة النظر الجسدية. ففى البداية نقابل والد «جريجور» ووالدته وأخته فيما هم يدقون الأبواب الثلاثة لحجرة نوم «جريجور» داعين إياه للاستيقاظ. ولما خرج إليهم فإن ردود أفعالهم وكذلك ردود أفعال رئيسه فى العمل تم وصفها من خلال الحركات. فرئيسه فى العمل، إذ وضع يده على فمه المفتوح، «بدأ يتراجع كما لو كان تحت ضغط ثابت من قوة غير منظورة»، فيما فقدت أمه وعيها و:«ضم والده قبضته مهددًا، كما لو كان ينوى أن يضرب جريجور لكى يعيده إلى غرفته، ثم نظر حائرًا حوله فى غرفة المعيشة وغطى عينيه بيديه ثم انخرط فى بكاء اهتز له صدره القوي». وكما هو الحال هنا، كثيرا ما يصف «كافكا» الناس من خلال الحركات والتعبيرات، تاركًا - فى الغالب - معنى تلك الحركات والتعبيرات غامضا. وفى أعماله الأدبية تكون أجساد الناس معتمة وتحتاج دائمًا إلى تفسير لا يمكن أن يكون جامعًا مانعًا. ولعل صيغة «كما لو أن» المصورة هنا ترجع إلى قراءة «كافكا» ل«ديكنز». لكن ما كان عند «ديكنز» مجرد وسيلة للمبالغة المرحة يتحول عند «كافكا» إلى وسيلة لتصوير العالم الخفى للآخرين. ولئن كان يمكن فهم سلوكيات الآخرين، فإن ذلك إنما يكون من خلال تعبيراتهم الجسدية. إن إشارات العنف فى الفقرة المقتبسة للتو - عند وصف والد «جريجور» - قد تم استيفاؤها لاحقا. ففى المرة الثانية التى يغادر فيها «جريجور» حجرته، يجد أن والده قد تحول هو الآخر: لكنه لم يتحول من إنسان إلى حشرة بل تحول من رجل أعيته الشيخوخة إلى رجل قوى مليء بالحيوية، كثيف الحاجبين ذى شعر ممشط بعناية وعينين حادتين. وإذ يتقدم نحو جريجور، يرفع الأب قدميه إلى أعلى مثيرا ذهول «جريجور» من «المقاس الكبير لنعل حذائه عالى الرقبة»، وموحيا إلى القارئ بأن الوالد قد يسحق «جريجور» مثل أية حشرة عادية، إلا أنه بدلاً من ذلك يعيده إلى حجرته بقذفه بثمرات تفاح من طبق فاكهة فأصابت واحدة منها ظهر «جريجور» مسببة له «ألمًا صادمًا لا يُحتَمل». وفى نهاية المطاف تصبح التفاحة مركز جرح متقيح أسهم فى وفاته فيما بعد. الجسد المجنس يرتبط نزوع الجسد إلى العنف ارتباطًا وثيقًا - هنا وفى أماكن أخرى من أدب «كافكا» - بالنزعة الجنسية. إذ أن حياة «جريجور» الجنسية - هذا البائع الجوال الواقع تحت ضغوط قوية والملزم بإعالة أبويه وشقيقته-كانت مقتصرة على بعض المقابلات العابرة، وعلى الصورة التى يعلقها فى مواجهة فراشه وتُظْهِرُ «امرأة كاملة بقبعة وشال من الفرو، تجلس منتصبة وقد مدت ذراعها بصورة أوضحت غطاء يديها الذى اختفى أسفله ساعدها بأكمله». ومن الواضح أن «كافكا» كان يتابع مجلات الأزياء، حيث كانت هذه الطريقة فى الملبس هى الشائعة فى خريف العام 1912 عندما كتب «كافكا» هذه القصة. والجنسانية الصريحة فى تلك الصورة - والتى زاد من مستواها الإشارة إلى الجماع فيها - يجعلنا ندرك الموضوع الذى كانت تدور حوله «الأحلام المضطربة» التى حَلُمَ بها «جريجور»، كما توحى بأن «كتلة النقاط البيضاء الصغيرة التى عجز عن تفسيرها» - وكانت تغطى بطنه - قد تكون نتيجة احتلامه. الأجساد عند «كافكا» مصنفة وفق الجنس، ليس بالمعنى العادى بأن بعضها ذكور والبعض الآخر إناث، ولكن كذلك من حيث أن هناك سلوكيات ثقافية معينة مرتبطة بأجساد الذكور وسلوكيات أخرى مرتبطة بأجساد الإناث، ومن ثم يطلق على هذه سلوكيات ذكورية وعلى تلك سلوكيات أنثوية. والجسد الذكورى عند «كافكا» ثابت مستقيم بطولي، مثل جسد السيد «سامسا» بعد استعادته لشبابه ظاهريا أو مثل جسد السيد «بنديمان» الذى انتفض لكى يواجه ابنه المرتعد «جوزيف ك» الذى اقتحم الاجتماع، وكذلك «ك» فى (القلعة) والذى اعتدى على مساعده بالعصا، وجمعيعها كاشفة للتسلط الذكوري. كما يتم تدعيم صفة الذكورية دائما بالملابس الضيقة مثل السيد «سامسا» الذى كان يرتدى «زيًا ضيقًا أزرق اللون بأزرار ُمَذهَبَة» وفى نفس الإطار يأتى الزى العسكرى الثقيل للضابط فى (فى مستعمرة العقاب) وكذلك الزى الجامد غير المريح الذى كان يرتديه «كارل روسمان» التعيس أثناء عمله كعامل مصعد فى (الرجل الذى اختفى). وبينما يعزل الزى الرسمى الجسد الذكورى عن الطبيعة، فإن الجسد الأنثوى يشار إلى صلته بالطبيعة من خلال سماته الحيوانية، كالمرأة التى ترتدى الفرو أو «ليني» مديرة منزل المحامى فى (المحاكمة) والتى كانت لديها أجزاء لحمية بين أصابعها كنوع من الارتداد السلبى للتطور الطبيعي، وعن يديها يقول «ك»: «يا لها من مخالب جميلة!» والجسد الأنثوى قد يتم تعريفه بحجمه الصرف. إذ أن «برونيلدا» فى (الرجل الذى اختفى) كانت عبارة عن كتلة من اللحم غير قادرة على النزول إلى الطابق الأسفل دون مساعدة. ويستدعى وصفُها إلى الذاكرة مقطع ورد فى مذكراته (فى يوم 23 يوليو 1913) ينقل اشمئزاز «كافكا» الشديد من الجسد الأنثوى من حيث (نزعتهم الجنسية المتفجرة) و (قذارتهم الطبيعية). إلا أن الأجساد فى أدب «كافكا» تتجاوز الحدود التى تفصل بين النوعين، فبعض النساء يصبحن ذكورًا ومزدوجى النوع، وكيانات مهددة، مثل المرأة التى ترتدى الفرو، أو «كلارا» رياضية البنية فى (الرجل الذى اختفى) أو شقيقة «جريجور» التى كانت تهدد شقيقها بقبضتها بعدما تحول إلى حشرة. وبالعكس، فقد اكتسب بعض الرجال صفات أنثوية؛ مثل «جريجور» الذى يكتفى بالإذعان السلبى لوالده. كما استبدل «جريجور» مشيته الذكورية منتصبًا بمشية أفقية يزحف بها على الأرض، مثل السجين الحقير فى (فى مستعمرة العقاب) والذى كان يسير على أربع مثل الكلب، و «جوزيف ك» الذى رقد أرضًا ليتم إعدامه «ككلب». ولم يقتصر أمر «جريجور» على الانبطاح أرضًا، مثل أمه عندما تفقد وعيها، ولكن يتم زيادة الجرعة النسوية فيه كذلك ببطنه الكبيرة المقوسة التى تشبه بطن امرأة حامل. كما يتم الإيحاء بحلم التحول إلى أنثى عندما يعبر عن حسده تجاه بعض الزملاء الذين «يعيشون مثل نساء الحرملك». وفى بعض النصوص الأخيرة نجد أن ذكورية البطل يتم محوها بقسوة أكبر من خلال عملية إنهاك للجسد. ف «جوزيف ك» يسعى وراء قضيته بينما يحاول «ك» أن يصل إلى القلعة مُسْتَسْلِمَيْن للإنهاك الزائد عن الحد. وقد ظهر إرهاق «جوزيف ك» فى إيماءاته الجسدية: «بدلًا من أن يعمل، جلس فى مقعده وأخذ يعبث ببعض الأشياء على مكتبه. وبعد ذلك وبلا وعى منه مد ذراعه اليسرى على سطح المكتب وجلس بلا حراك وقد انحنت رأسه». وتشير الرأس المنحنية إلى الخضوع، كما فعلت عندما رأى «جوزيف ك.» سابقا خصومه جالسين فى صف وقد انحنت رؤوسهم، وبالمثل يتمكن «ك.» من الوصول إلى حجرة المسئول، لا لشيء إلا ليسقط نائمًا على السرير وتفوته الرسالة التى كان المسئول سيعطيها له. إن رجال «كافكا» المؤنثين يعيشون فى صراع أوديبى خاسر مع شخصيات أبوية، ف «جوزيف ك» تم إغراؤه وإبعاده عن القضية التى كان يسعى خلفها، فيضع خطة تافهة للانتقام بالفرار مع عشيقة قاضى التحقيقات. كذلك فإن «ك» يشعر بالحسد تجاه القدرة الجنسية لموظفى القلعة، ولاسيما «كلام Klamm» الذى ُيقال إن كل نساء القرية راغبات فيه. وفى «التحول» تمثل العلاقة الجنسية النشطة جانبا محوريا فى العلاقة العامة بين الأبوين، وهى العلاقة التى كان «جريجور» محرومًا منها. وقبل أن يفقد وعيه بسبب الألم الناجم عن التفاحة التى ألقاها والده عليه نجده يرى مشهدًا أساسيًا: «وبآخر نظرة واعية لديه رأى باب حجرته ينفتح بقوة ووالدته تندفع بقميصها الداخلى أمام شقيقته التى كانت تصرخ حيث كانت شقيقته قد خلعت عن أمه ثيابها لتساعدها على التنفس عندما فقدت الوعي. رأى والدته تندفع نحو والده وهى تخلع ملابسها قطعة وراء الأخرى فتلقيها على الأرض من خلفها، ورأى كيف تعثرت فى تنورتها لتلقى بنفسها عليه وتحتضنه، متوحدة به تقريبا. إلا أن الرؤية غامت أمام عينى جريجور وجعله ذلك يرى ذراع أمه يلتف حول عنق والده، لكى يُبقى على حياة جريجور». لقد ضعف بصر «جريجور» ليمنعه من رؤية ما لا تجوز رؤيته: ممارسة جنسية بين الأبوين أثناء محاولة إنقاذ حياته فى إعادة للمشهد الذى تسبب فى مجيئه إلى الحياة. إلا أن ميوله الجنسية هو نفسه تعود فتظهر لاحقًا عندما يسمع شقيقته وهى تعزف على الكمان فتخيل أنه دعاها إلى حجرته وأبقاها لديه بصورة دائمة، مقبلاً عنقها العاري. وتحت ضغط من رغبته غير الواعية نجد أن لغته تصبح غير منطقية: «لن يسمح لها بالخروج من غرفته بعد ذلك أبدًا، على الأقل طيلة حياته؛ سيكون تكوينه المرعب ذا نفع له للمرة الأولى، وسوف يقف حارسًا على كل أبواب حجرته فى نفس الوقت، هاشًا باصقًا على جميع المتطفلين؛ ومع ذلك فلا يجب أن تُرغم شقيقته على البقاء معه، بل يجب أن تفعل ذلك بإرادتها». هنا وفى غير هذا الموضع من أعمال «كافكا» فإن الرغبة الجسدية تدفع العقل إلى التفكك، وهو ما يوضح سيطرة «الذكاء العظيم» للجسد - كما سماه «نيتشه» - على الفكر الضعيف والعاجز والذى يسكن العقل. ومن نواح أخرى فقد كان تحول «جريجور» فعلاً تحرريًا، حيث حرره من طغيان طلب الوظيفة ومن قيود المنطق والعقلانية. لقد أعاده إلى الحالة التى كانت سائدة فى عصور ما قبل الثقافة من إرضاء الذات. وإذا كان التنوير قد أسس فكرة «المتوحش النبيل» كمقابل مثالى متخيل للإنسانية المتحضرة، فإن القرن العشرين - بعدما تخلى تحت أثر عملية استعمار الكوكب عن أوهامه بشأن الشعوب البدائية - قد أزاح تلك الفكرة وأحل محلها صورة الطفل الذى يرى «فرويد» أنه خاضع لسلطان الجنس بصورة كاملة حيث تكون كل سلوكياته مصدرًا للمتعة الجنسية. ولا يصل «جريجور» إلى هذه اليوتوبيا، لكنه عندما انعزل فى غرفته نجح فى إمتاع نفسه. فبواسطة الفصوص اللاصقة التى تكونت فى قدميه، يزحف على جدران وسقف حجرته ويسقط على السرير أو الأريكة دون أن يؤذى نفسه. وهذه الحرية النسبية من الجاذبية تمثل نقطة كثيرًا ما تتكرر فى أعمال «كافكا». فلدينا البهلوان فى (الحزن الأول) الذى يقضى كل وقته - فيما عدا أثناء السفر - على الأرجوحة فى السيرك. وكذلك المتحدث الذى يفر من كل أزمات نقص الوقود خلال فترة الحرب بشق دلو للفحم كزلاجة ويصعد باستخدامه «الجبال الثلجية» فلا يراه أحد بعدها أبدًا؛ بالإضافة إلى القطعة النثرية الخيالية التى تصور الحركة اللانهائية التلقائية، فى إحدى أقصوصاته الأولى (اشتياق المرء أن يكون هنديًا أحمر). اشتياق المرء أن يكون هنديًا أحمر آه، أن تكون هنديًا أحمر، متأهبًا فى كل ثانية، وجالسًا منفرج الساقين على جوادك إذ يعدو بك، مائلًا بجسمك فى اتجاه الريح، وأن تنزلق مع كل لمسة عابرة مرتعشة فوق الأرض المرتجفة، حتى يسقط المرء المهمازين، وهكذا لم يعد هناك مهمازان، وحتى يسقط المرء اللجام، وهكذا لم يعد هناك لجام، ولا تكاد تستطيع رؤية الأرض إذ تُطوى طيًا من تحتك كأنها مرج تم تشذيبه بعناية. والآن يختفى عنق ورأس الجواد. وثمة تحرر آخر أكثر إثارة للتساؤلات؛ يتعلق بكيفية تناول «جريجور» لطعامه. فبمجرد أن تقبلت أسرته تحوله، بدأت فى التساؤل حول الكيفية التى يمكن إطعامه بها. ففى بعض الأحيان كان «جريجور» يتناول طعامًا تعافه النفس البشرية حيث يتناول فى نهم الجبن التى كان قد وصفها سابقًا - وهو فى هيئته البشرية - بأنها عَفِنَة. لكنه سرعان ما بدأ يفقد شهيته لأى طعام متاح ويعيش دون أكل، كناسك أو كشخص مصاب بعصاب الطعام. ويشتهى تناول شيء غير معروف أو مستحيل المنال. وتثار شهيته عندما يسمع «جريجور» شقيقتَه وهى تعزف على الكمان لتسلية النزلاء الثلاثة الذين يستأجرون حجرات فى منزلهم بينما هم يتناولون عشاء طيبًا من اللحم والبطاطس. وقتها تساءل «جريجور»: «أنا جائع جدًا ولكن ليس لشيء مثل ذلك. كيف يُشْبِعُ أولئك النزلاء أنفسهم بينما أهلك أنا جوعًا!». وبينما لا يبدى النزلاء أى اهتمام بالموسيقى فإنها بالنسبة ل «جريجور» كانت تمثل مؤشرًا إلى مصدر خفى للسعادة. «هل كان حيوانًا، إذ تستطيع الموسيقى التأثير فيه هو أيضًا؟ لقد بدا له أن الطريق كانت تنفتح أمامه للحصول على الغذاء الذى يشتهيه». وبمفارقة غريبة، تبدو الموسيقى الآن - وهى أكثر الفنون بعدًا عن التجسد - (وهى الفن الذى لم يكن «جريجور» يقدره قبل تحوله) وكأنها تشير له إلى طريقة للحصول على الغذاء؛ لعله - مثل الموسيقى - غذاء روحى بلا جسد يتضاد مع اللحم الذى ينهشه النزلاء نهشًا؟ الصوم يحتل «الصوم» مكانة محورية فى خيال «كافكا». لأنه، باعتباره وسيلة للابتعاد عن العالم المادى وربما الدخول فى عالم روحاني، قد أبهر «كافكا»، وإن أثار شكوكه كذلك. وأبرز دليل على ذلك من بين كتاباته، «فنان الصوم Fasting Artist»، والذى يتم عرض قدراته فوق البشرية على تحمل الجوع للجماهير فى الأسواق. وبالفعل فقد كانت هذه العروض المريعة موضة رائجة ذات يوم. ففى العام 1880 عزم الأمريكى «هنرى تانرHenry Tanner » على الامتناع عن تناول الطعام لمدة 40 يوما فى قاعة كاليندرون فى نيويورك على سبيل تثقيف الزوار الذين كان يدفع كل منهم 20 سِنتا لمشاهدته. وقد أنجز عمله البطولى دون أن يعانى أية أعراض مرضية ذات شأن. وكان أشهر «فنانى الصوم / الجوع» هو جوفانى سوكى Giovanni Succi الذى طاف بكل المدن الرئيسة فى أوروبا مع فريق من المزارعين ليراقبوه حتى يروا إذا ما كان يأكل فى الخفاء أم لا. كما يحكى المؤلف «بيتر ألتينبرجPeter Altenberg »، ابن فيينا، عن فنانة جوع داخل صندوق زجاجى تحت مراقبة مستمرة. وقد تلاشى بالفعل، كما يقول «كافكا»، الاهتمام بهذه الأعمال، وإن كان يبدو أن هذه الصيحة تعود ثانية: وكما كتبتُ فإن «ساحرًا» أمريكيًا تُرِكَ معلقًا فى صندوق زجاجى أعلى برج بريدج Tower Bridge فى لندن حيث صام أمام الناس لمدة 44 يومًا. أما «فنان الصوم/ الجوع» الذى كتب عنه «كافكا» فإنه مخلص لعمله ويصيبه الإحباط بسبب التنازلات التى يجبره مديره على تقديمها إرضاءً لذوق العامة، ذلك المدير الذى لا يسمح له أبدًا بأن يصوم أكثر من 40 يومًا. وفقط بعدما تبدأ الجماهير فى فقدان اهتمامها بهذه النوعية من العروض، يبدأ الفنان فى الصيام كما يحلو له، لكن لا أحد يسجل أو يعترف بالمعجزات التى يصنعها. وعلى فراش الموت اعترف للمحيطين به بأن صيامه لا يستحق كل هذا الإعجاب لأنه لم يكن يملك إلا القيام به: «لأننى لم أكن أجد التغذية التى تروقني. فلو كنتُ وجدتها صدقونى ما كنت أثرتُ كل تلك الجلبة وكنتُ سآكل ما يشبعنى مثل أى إنسان آخر». إذن فهى بكل وضوح ليست المهنة ولكنه الملل من الطعام العادى هو الذى صنع منه فنانًا، أم أنها فكرة التقليل من شأن الذات التى فرضها عليه وعيه الفنى بالغ الحساسية؟ إن رفض المرء تناول الطعام يضعه خارج نطاق العالم الهمجى الذى تتغذى فيه الحياة على حيوات الآخرين. ويصور «كافكا» هذا العالم من خلال صورة النمر والذى يبدو أكثر جذبًا للمشاهدين فى السيرك من فنان الصوم حيث يذهب الناس ليشاهدوا النمر «مدفوعين ببهجة الحياة التى تتدفق بشراسة من حنجرته». هذه هى الحياة كما يفهمها «نيتشه» وقراؤه: «الكائن الحى يريد فى المقام الأول أن يطلق قوته، إن الحياة نفسها هى إرادة القوة» كما كتب «نيتشه» فى (فيما وراء الخير والشر). وكذلك كتب فى (أصل الأخلاق) قائلا إن «الحياة تعمل - من حيث وظائفها الأساسية - من خلال الأذى والانتهاك والاستغلال والدمار، ولا يمكن تصورها على أى نحو آخر». وعائلة «جريجور» أيضًا يمكن أن تكون عنيفة وقاهرة عندما تتهدد مصالحها. فعندما مات «جريجور» قام والده بطرد النزلاء من شقة العائلة، وبينما هم ينزلون السلالم جاء صبى الجزار حاملًا صينية من اللحم؛ وهو المقابل ل«جريجور» المتضور جوعًا. كما أن الحراس الذين يتأكدون من أن فنان الصوم لا يأكل فى الخفاء هم أيضا جزارون. واحتفالا بالتحرر من وجود «جريجور»، أخذ أفراد العائلة الثلاثة هذا اليوم إجازة من العمل وتوجهوا إلى الريف. وإعجابا بابنتهما، يقرر الوالدان «سامسا» أن الوقت قد حان لكى يجدا لابنتهما زوجًا، وتتأكد نواياهما، قبيل وصول الترام إلى محطة الوصول، عند نهوض البنت وقيامها بشد جسدها الغض؛ فى استباق لجمال جسد النمر. إن النمر، بطاقته الافتراسية، صورة أفضل للحياة من فنان الصوم الزاهد. إنه الإنسان الحديث المتشائم صعب الإرضاء - وفقًا ل «نيتشه» - هو الذى يجد الحياة «بلا طعم». ومع ذلك فإن «كافكا» يأخذ جانب الفنان الزاهد من خلال مقابلة بين تجويعه لذاته وبين الشهية الواسعة لآكلى اللحوم. ففى (تحريات كلب)، يعزل الراوى الكلب نفسه عن مجتمع الكلاب ويجوع على أمل أن يعثر على المكان الذى يأتى منه طعام الكلاب. لكنه يخرج عن صيامه تحت تأثير كلب صيد يجعله ينحرف عن طريقه. وفى الرواية التى تدور أحداثها فى الولاياتالمتحدة، (الرجل الذى اختفى)، فإن أحد نماذج السلطة العدائية، وهو السيد «جرين»، يلتهم عشاء ضخمًا بشهية لا تنقطع وينتقد البطل الشاب كارل لامتناعه عن الأكل؛ وفيما بعد، وبسبب الحجم الكبير للسيد «جرين»، يتساءل «كارل» إن كان السيد «جرين» قد أكل ضيفًا آخر. وفى فقرة أخرى من (فنان الصوم) تعد تنويعًا للمشهد السابق، يقدم «كافكا» آكل لحوم بشر حقيقيًا، وهو صديق عجوز لفنان الصوم جاء ليزوره. وبالإضافة إلى أسلوبه الفظ، يمكن تمييز هذا الرجل بشعره الأحمر الكبير: «لم يكن المنظر مضحكًا بالمرة، ولكنه كان مرعبًا، لأن ذلك الرأس الأحمر فوق البشرى كان يمثل شهية فوق بشرية وقدرة على إشباع تلك الشهية». وعندما تتجسد الحياة فى هذه النوعية من المتوحشين، تصير رغبة الناسك فى النأى بنفسه بعيدًا عن الحياة مفهومة أكثر. إن الجسدانية والجنسانية اللتين تعرضتا للكبت عند أبطال «كافكا»، الذين هم فى العادة رجال مهنيون مشغولون، تعود فى أشكال مرعبة أو مثيرة للاشمئزاز؛ لا يمثل قناع «جريجور» الحشرى منها إلا المثال الأكثر تطرفًا. ويلازم الاشمئزاز والعنف، كلاهما، الخيال الحيوانى المستدعى فى قصة (طبيب الريف). فلقد تَمّ استدعاء الطبيب إلى منزل مريض يقع على مبعدة 10 أميال، لكن حصان الطبيب يموت، فكيف يمكنه الوصول إلى هناك؟ وبالمصادفة تدفع خنازير باب حظيرة، فيخرج منها حصانان كبيران (مخلوقان قويان بخاصرتين قويتين... يخفضان رأسيهما الجميلين كأنهما جملان) وسائس يبدو كنصف حيوان ويدعو الحصانين «أخي» و «أختي»، ويحتضن خادمة الطبيب ويعضها فى خدها، فيسبه الطبيب: «أيها الوحش» وهو يهدده بسوط. وبينما يكسر الأبواب بحثًا عن ضحيته، يمثل السائس هنا الحياة الطبيعية كإرادة للقوة وللاشتهاء. أما الطبيب فليس ناسكًا، بل رجلا قليل الشأن، إنه ذو ضمير حى تستحوذ عليه وظيفته غير ذات العائد (كثيرًا ما يشكو من مرضاه ناكرى الجميل)؛ أما قوته الجسمانية وقدرته الجنسية فقد تم إقصاؤهما عن المشهد فقط لتعود كشيء عنيف ومثير للاشمئزاز (كلمة Schweinstall - حظيرة الخنازير بالألمانية - لها دلالات قوية تتعلق بكلمة Schweinerei أى القذارة). وحتى ظهور السائس ذى الميول الجنسية المزدوجة، فإن الطبيب لم يلحظ جاذبية مساعدته الأنثى، وكان يشير إليها مستخدما الضمير «it» [الذى يستخدم للإشارة إلى غير العاقل] (وكافكا هنا يستغل أن كلمة Dienstmädchen - أى خادمة - كلمة محايدة فى الألمانية فليست بمذكر ولا هى بمؤنث)، وفقط بعدما يناديها السائس «روزا»، يبدأ الطبيب هو الآخر فى استخدام اسمها. وبعد ذلك كان كثيرًا ما يتخيلها تمارس الجنس مع السائس متمنيًا لو أنه يستطيع «أن يسحبها من تحت ذلك السائس». وهكذا فبمجرد استثارة رغباته الجنسية، فإنها تتجلى كهاجس مؤلم. وأحيانًا تظهر القوة الجسدية، كما فى هذه القصة، بوصفها شيئًا وحشيًا ومخيفًا يقتحم حياة أصبحت مجرد روتين غير مشبع، كما أنها يمكن أيضًا أن تظهر كجرح، وهو صورة تحتل ذهن كافكا، ف «جريجور» أُصيب - ربما إصابة مميتة - على يد والده وقد ورد فى القصة أن «التفاحة استقرت فى لحمه كتذكار مرئي». تذكار لماذا؟ وفى ضوء السياق المسيحى للقصة (يشير السيد والسيدة سامسا، والدا جريجور، بإشارة الصليب عند علمهما بوفاة ابنهما)، وتذكرنا هذه التفاحة ب «شَوْكَةً فِى جَسَدِي»، تلك الشوكة التى كانت تخز القديس بولس (الرسالة الثانية إلى كورنثوس 7 : 12) والتى قُرِئتْ دومًا على أنها تذكير منغص بالجنس. وفى قصته (الحُكْم) التى كتبها قبل ذلك، فإن الأب يتحمل وجود الجرح الناجم من الحرب فى عضوه الذكري. كما أن القرد فى (تقرير إلى أكاديمية) - والذى ادعى أنه صار إنسانًا - قد أُصيب على يد الصيادين، بينما هم يحاولون اصطياده فى أفريقيا، أسفل مفصل وركه، ولهذا فلا زال يعرج فى مشيته. لكن الجرح الأبرز كان ذلك الذى تعرض له الصبى الذى تم استدعاء طبيب الريف له. وفى البداية يبدو الصبى وكأنه لا يعانى شيئًا، الأمر الذى كاد يدفع الطبيب إلى أن يتهمه بالتمارض، لكن صهيلاً من زوج الخيول جعله يرى شيئًا لو كان موجودًا بالفعل لما عجز عن رؤيته: «وفى الجانب الأيمن من الصبي، وفى منطقة الورك، كان هناك جرح كبير مفتوح فى مثل حجم كف يدي. أحمر ورديًا، بدرجات لونية متعددة، داكنًا فى أعماقه، وأقل دكنة باتجاه الحواف، تنبجس الدماء منه دونما انتظام، مفتوحًا كمنجم سطحي. هكذا بدا من بعيد. لكن نظرة عن كثب تكشف أثرًا إضافيًا، من ذا الذى يمكن أن تقع عيناه على هذا دون أن يصفِّر فى لطف؟ وفوق ذلك، فثمة ديدان - مثل إصبعى الصغير سُمكًا وطولًا، حمراء وردية هى نفسها وملطخة بالدماء - تتلوى برءوسها البيضاء الصغيرة وسيقانها العديدة تجاه الضوء. أيها الصبى المسكين، أنت فى مرحلة مستحيل فيها العلاج. لقد عثرتُ على جرحك الهائل، هذه الزهرة فى جانبك سوف تقتلك». لا يكاد التعليق على هذه الفقرة يستطيع التلميح - مجرد التلميح - إلى إيحاءاتها العديدة المزعجة، فاختيار «فى منطقة الورك» يربط الجرح - كغيره من الجروح عند «كافكا» - بالنزعة الجنسية، مثلما يفعل ارتباطها بالخادمة «روزا». ويناقض الحرص الدقيق الذى تم به وصف الظلال الحمراء للجرح - وكأنما كان شيئًا جماليًا- طابعه الجنسى الصريح. فهذا الجرح المهبلي- بالغ الضخامة على نحو مستحيل فى الجسد، يجسد المخاوف التى يربط الرجال بينها وبين أعضاء الأنثى التناسلية.. ويبدو أن الجرح - مثل مدخل منجم - يفتتح جسد أمنا الأرض، بينما توحى دماؤه بفض البكارة والطمث (يدعم ذلك «المنديل المشرب بالدماء» الذى تلوح به أخت الصبي). ويبدو أن الصبى تعرض للإخصاء والتأنيث أو ربما أصبح مخنثًا أو تمت إزالة الأعضاء التى تميز بين الجنسين من جسده. ومع ذلك فالجرح يحتوى كذلك على الحياة. فالديدان متعددة الأرجل (غير المعروفة فى التاريخ الطبيعي) تتلوى داخل الجرح، وكأن جسد الصبى كان يتحلل بالفعل. كما أن الجرح - إذ يتم ربطه بالورود - تتم مقارنته الآن بزهرة، فجسد الصبى - إذ يموت ويتحلل - يزهر بادئًا حياة جديدة؛ حياة تتوقف على موت الجسد. هذا تذكير لنا بأننا مجرد كائنات حية ستكون - إذ يعاد امتصاصها إلى الكون المادى - غذاء لكائنات أخرى فى المستقبل؟ أم تراه يشير إلى واقع مختلف تمامًا عن الوجود المادي؟ غالبا ما يُبْدِى «كافكا» نزوعًا إلى رفض الوجود الجسدي، لا سيما فيما يتعلق بكون هذا الوجود جنسيًا. فقصته «صمت المغويات The Silence of the Sirens» (1917) تعيد سرد الأسطورة ببيان أن الخطر ليس فى غناء المغويات ولكن فى صمتهن، وأن أوديسوس - إذ يجهل ذلك - يحشو أذنيه بالشمع ويأمر بتقييد نفسه إلى الصاري. ورغم صمت المغويات، فإن أوديسوس يلاحظ «التواء أعناقهن ولهاثهن وأعينهن المملوءة بالدموع وأفواههن نصف المفتوحة»، غير أنه يفسر ذلك باعتبارها الإيماءات المصاحبة للغناء، وليس باعتباره الاستعراض المبالغ فيه للرغبة الجنسية. وهكذا، ولسوء فهمه للموقف ليس إلا، يبقى فى مأمن من الإغراءات الجنسية للعالم المادي. وقبل ذلك بيوم أو يومين كتب "كافكا" فى نفس الدفتر وصفًا هدامًا للعالم المادى تحت عنوان «حياة»، فقال: «كلبة نتنة، ولدت كثيرًا من الجراء، كانت بعض الأجزاء فى جسمها قد بدأت تتعفن بالفعل، لكنها كانت كل شيء بالنسبة لى وأنا طفل، وكانت تتبعنى دومًا بإخلاص، ولم تكن نفسى تطاوعنى فى ضربها وكنت أتراجع أمامها - متحاشيًا أنفاسها - خطوة فخطوة، ولو لم أتخذ قرارًا مختلفًا، فسوف تدفعنى إلى الزاوية الظاهرة بالفعل من الحائط، وهناك قد تتحلل فى هذه الزاوية تمامًا عليّ ومعى وإلى آخر - فهل هذا شرف لي؟ - قطعة لحم مليئة بالصديد والديدان من لسانها على يدي». ومثلما كان جرح الصبى وردة مليئة بالديدان، فإن الخصوبة هنا يصاحبها التحلل. فالكلبة تجسيد للأنوثة، بجرائها الكثيرة، وارتباطها بطفولة المتحدث، وعاطفتها الجياشة تجاهه، تلك العاطفة التى لا يكاد المتحدث يقدر على مقاومتها، حتى وإن كانت تسعى إلى جرجرته إلى حالة التحلل البدنى التى تمر بها. والمتحدث مقيد بها - ومقيد من ثم بالعالم - بعاطفة متبقية؛ بما كان يومًا حبًا. إنه الحب فى نهاية المطاف - ذلك الذى يجعلنا عبيدًا للعالم الحسى كما كتب «كافكا» بعد ذلك بقليل فى أحد أقواله الشهيرة: «إن الحب الحسى يخدع المرء ويجعله ينسى الحب السماوي؛ ولا يستطيع القيام بذلك من تلقاء نفسه، لكن لأنه يحوى دون وعى عنصر الحب السماوي، فإنه يستطيع». إن الحب الحسى هو نسخة من الحب السماوي، إنه يحمل فى داخله ما هو حقيقى بما يكفى لأن يشتتنا بفعالية عن السعى إلى الحب السماوي. إن المرء - إذ يقرأ القصص والعبارات المقتضبة التى كتبها «كافكا» بعد ذلك - ليشعر أنه قد ُأعيد بغرابة إلى دنيا الأساطير والشهداء المسيحيين واليهود الأوائل. فرفض الجسد -على نحو ما نراه فى «حياة حشرة»- يذكرنا بالمعتقد المنسوب إلى الغنوصيين Gnostics الأوائل؛ بأن اللحم ينتمى إلى عالم الحواس المكروه والدنيء الذى خلقه إله الشر ليدفع البشرية بعيدًا عن مملكة النقاء البعيدة التى يحكمها إله الخير. ويوجد فى قصة (القلعة) مشهد مثير للفضول يبدو أنه يشجع على هذه النوعية من التأويلات. فبينما كان «ك» ينتظر تحت الجليد المتساقط خروج «كلامKlamm «مسئول القلعة من الحانة، أخذ سائق زلاجة «كلام» يغريه بالشرب من إحدى زجاجات البراندى التى كانت موجودة هناك. لكن رائحة البراندى المغرية لا تتوافق مع مذاقها: «أخذ زجاجة ورفع غطاءها وتشممها، وكان عليه أن يبتسم، فقد كانت الرائحة جميلة ولطيفة للغاية كحين تسمع ثناءً عليك وكلمات جميلة من شخص أنت مغرم به ولا تعلم عما يتحدث ولا تريد أن تعلم، إذ يسعدك حينها فحسب معرفة أن من تحبه هو الذى يتكلم. «أذلك براندي؟»، تساءل ك. بشيء من الشك ثم تذوقه على سبيل الفضول. نعم، كان براندي، على نحو مذهل، إنه يحرق ويدفئ. يا للطريقة التى تغير بها عند تناوله، من مجرد مصدر لعبير ما إلى مشروب لسائق زلاجة». وفى هذا الجزء وجد أحد أبرز من حللوا أدب كافكا، وهو»إيريك هيلرErich Heller «، نظرة غنوصية، ووفقًا لها تبدو الظواهر أجمل عندما تكون أكثر أثيرية وأكثر قربًا من الروحانية، إلا أنها تصبح فظة وعادية عند تجسيدها فى مادة أو - كما هى الحال هنا - عندما ترتبط ارتباطا مباشرًا مع الجسد. وفيما بعد طور "كافكا" موقفًا جديدًا أكثر تعقيدًا نحو الجسد. فيقول فى أحد أقواله المأثورة: «إن الشهداء لا يرفضون الجسد؛ بل يسمون به على الصليب. وفى هذا يتفقون مع خصومهم». أى أن الجسد الكسير للشهيد المصلوب ليس مجرد وعاء يتم التخلص منه، ولكنه الرمز الذى لا يُمكن الاستغناء عنه للانتصار الروحي. وبالمثل فإن فنان الصوم لا يرفض الجسد. إنه لا يريد أن يفنى ويتحول إلى كائن روحى بحت. بل على العكس فإن جسده هو آلة فنه. إذ يتم تسجيل قدراته على التحمل فى الإنهاك المضطرد. إنه لن يكون أى شيء دون جسده. كذلك يقول «بيتر براون Peter Brown» إن النُّسَّاك الذين فروا إلى صحراء مصر لم يكونوا يحاولون تدمير أو معاقبة أجسادهم، ولكن تحويلها بالحرمان إلى مظهر خارجى للجسد الروحى الذى سيكون يوم البعث: «وحدها الإرادة المنحرفة للرجال الساقطين هى التى حَشَت الجسد بالطعام غير الضروري، خالقة فيه، من ثم، ذلك الفائض المحض من الطاقة الذى يتجلى فى الشهوة البدنية والغضب والرغبة الجنسية. وبتقليله لكميات الطعام التى اعتاد عليها، أعاد الناسك صناعة جسده شيئًا فشيئًا. لقد حوله إلى أداة معايرة بدقة. وبدقة مُرضية، رسخت التحولات البدنية الحادة فى جسده - بعد سنوات من التنسك - المراحل التمهيدية الجوهرية للعودة الطويلة للشخص الإنساني، جسدًا وروحًا معًا، إلى حالة أصلية طبيعية لم يعترها الفساد». بيتر براون Peter Brown : «الجسد والمجتمع: الرجال والنساء والتخلى عن الجنس فى المسيحية الأولىThe Body and Society: Men, Women and Sexual Renuncitation in Early Christianity « (نيويورك: مطبعة جامعة كولومبيا Columbia University Press، 1998) صفحة 223. إن فنان الصوم يعانى من أجل فنه معاناة أسوأ بكثير مما عاناه فلوبير وغيره من الفنانين الذين أعجب بهم كافكا. إذ بالحرمان طويلاً يجعل فنان الصوم من جسده نتاجًا مرئيًا لإخلاصه، يجعل منه شيئًا أكثر تعبيرًا عن ذاته من أى كتاب كان يمكن أن يكتبه. إن فترة الأربعين يومًا التى فرضها عليه مدير الفرقة قد حرمته من الوصول إلى الكمال الفني؛ وعندما تعرض للتجاهل واستطاع الصوم لحاله فى ركن ما، ولم يقدر سواه هذا العمل البطولى . فى هذه الحالات جميعًا نتعامل مع الجسد الفردي. إلا أن الجسد أيضًا هو كيان جمعى لمجموعات إنسانية أكبر: فهناك المواطن body citizen والأمة body ploitic. ويستخدم "كافكا" هذه الصورة على هذا النحو، وبخاصة فى قصصه الأخيرة حيث تنتقل بؤرة التركيز تدريجيًا من الفرد المعزول إلى المجتمع. ففى (تحريات كلب Investigations of a dog)، نجد أن لدى الكلاب حسًا اجتماعيًا قويًا حيث تعيش «فى جماعة واحدة». وتتمثل سعادتها القصوى فى «دفء التجمع» وتتساءل باستمرار عن الأسباب التى تؤدى بها إلى العيش منفردة إلى ذلك الحد، وتطيع قواعد ليست من ابتكارها. والكلاب فى هذه القصة غير واعية بوجود البشر. إنها لا تدرك أن طعامها يلقيه إليها مالكوها من البشر، لكنها تعتقد أنها تنتجه من خلال رى الأرض، وتستطيع التعايش مع مفارقة أن الطعام يأتى من أعلى لا من أسفل، إلا بالنسبة للراوى ذى العقلية العلمية الذى يجوّع نفسه على أمل حل ذلك اللغز. ولكن لما كانت الحدود الفطرية لقدراته المعرفية سوف تمنعه من إدراك أن البشر هم من يطعم الكلاب، فإن القصة تدل ضمنًا على أنه من الأفضل للكلب أن يعود لممارسة حياته العادية اللامبالية بين الكلاب. وفى رواية "كافكا" الأخيرة (جوزفين، المطربة، أو: الناس الفئران)، فإن قدرات الفأرة التى تغنى موضع شكوك، فهى تبدو وكأنها تصدر فقط أصوات الفئران العادية إلا أن الفئران تجتمع لكى تسمعها فهى تحتشد معًا «حيث يلتصق الجسد بالجسد فى حرارة» كما أنها تعتنى بها أيضًا، فبالنسبة لها يمثل الكل فردًا واحدًا «مثل أب يعتنى بطفله» كما أن غناءها يمنح مستمعيها خبرة التوحد شبه الجسدى مع الآخرين: «وكأن أطراف كلّ منهاٍ قد ارتخت، وكأنما سُمح لكل فرد قلق منفرد بأن يتمطى لمرة وأن يسكن إلى مكنونات قلبه فى الفراش الدافئ العظيم الذى يمثله الناس». إن جسد الأم ليوفر وحدةً يمكن أن تستوعب حتى الأفراد الأنانيين، كجوزفين. إن موتها - كما يستنتج الراوى - سيكون نجاة وراحة لها من المكانة الخاصة التى طالما رغبت فيها عن خطأ: «ولذا فلعلنا لن نفتقد الكثير على أية حال، بينما ستفقد جوزفين نفسها - إذ تخلصت من العذابات الدنيوية، التى هى رغم ذلك تعنى لها سمة مقصورة على الأرواح المختارة - بسعادة ضمن حشد الأبطال الذين لا يحصون كثرة فى شعبها، وسرعان ما ستُمنح - فنحن لا نتقصى تاريخًا محددًا هنا - قمة الخلاص المتمثل فى أن يتم نسيانها مع جميع إخوانها.»