أحمد الزناتى فى الحضارات الوثنية كما فى الديانات السماوية، يرتبط مفهوم الامتناع عن الطعام والصوم والزهد بسعى الإنسان إلى الخلاص، فبعد وفاة أفلاطون، قام تلميذه والوصى على تركته فورفوريوس بحثّ عضوٍ آخر فى المدرسة الأفلاطونية، وهو الثرى فيرموس على مرافقته فى مسعاه الفكرى، فحفزّه على الصوم لفترة طويلة، ثمّ الذهاب عارييْن إلى مدرج الألعاب الرياضية ليتنافسا فى أوليمبياد الروح. طالما وصف أفلاطون الجسد بأنّه الملبس الذى ترتديه الروح، وكان هذا المجاز فى محله، حيث اعتقد تلميذه فورفيوس أن التدريب المنضبط والصارم وممارسة التعفّف الزهدى فى أمور الغذاء والمال والتفاعل الاجتماعى الواسع، هى السبيل للوقوف أمام قسوة العالم وظلمه، بل وهزيمته. ضربت أعمال أدبية عديدة على هذا الوتر بتنويعات مختلفة، أبرزها رواية (الجوع) للأديب النرويجى الحائز على نوبل كنوت هامسون، والتى لم تتناول فكرة الجوع فى حد ذاتها، أو فكرة الحرمان المادى، بل الأثر الذى تركته قسوة الحضارة المادّية وقسوة البشرعلى روح الفرد، حيث يُفضَّل بطل الرواية صون كرامته على فرصة إنهاء الجوع والعوَز المادى الذى يراوده، فيستمرّ جوعه. بينما تروى قصّة (فنان الجوع) لفرانتس كافكا معاناة فنان يمتهن الصيام عن الطعام لمدة أربعين يومًا كوسيلة لاجتذاب الجمهور المتعطش لرؤية رجل قادر على الامتناع عن تناول الطعام طيلة هذه الفترة. وربما آخر الروايات التى تناولت الموضوع من منظور جديد، رواية «النباتية» لكاتبة كوريا الجنوبية الأشهر هان كانغ، وهى الرواية التى صدرت ترجمتها إلى العربية عن دار التنويرفى مطلع هذا العام. فى هذا العمل يتجلّى بوضوح تأثّر هان كانغ الواضح ب«تيمة» كافكا فى قصّته الطويلة "التحوّل"، وفى قصّته القصيرة "فنان الجوع". أما عن هان كانغ فقد ولِدتْ فى 27 نوفمبر 1970 فى مدينة جوانجو، ودرستْ الأدب الكورى فى جامعة يونساى، وهى تنتمى لأسرة تشتغل بالأدب، فالأب هو الروائى هان سيونج-وون، وأخوها هان دونج ريم، روائى شاب. وبدأت هان كانغ مسيرتها الإبداعية بكتابة مجموعة شعرية بعنوان "شتاء فى سيول" سنة 1993، أتبعتها بمجموعات قصصية بدأت تلفِت الأنظار إليها تدريجيًا، حتى تُوجّتْ بجائزة المان بوكر سنة 2016 بعد ترجمة الرواية إلى الإنجليزية. تلفتُ نظرَ القارئ تقنية السرد المُبتكرة فى الرواية. حيث تبدأ الرواية على لسان راوٍ شخصى، هو زوج البطلة الذى يحكى قصّته مع زوجته الشابّة، التى لا يُمكن وصفها إلا بأنها فتاة عادية، متوسطة الهيئة والمظهر، ليس لها طلبات، لا تتمتع بسحرٍ ولا عذوبةٍ ولا وهجّ خاص، فتاة سلبية على حد تعبير الزوج. وفى يوم وليلة تحدث الانعطافة الحادّة فى مسار حياة الزوجيْن، حين تتحوّل الزوجة إلى نباتية إثر حُلم غامض. وحين تُسأل الزوجة عن سبب التحوّل، تقول: "رأيتُ حُلمًا". تمارس الزوجة الشابّة طقوسًا تطهّرية حادّة، فتتخلّص من محتويات الثلاجة من لحوم وأسماك، وترفض ارتداء حمالة صدر، كاشفةً صدرها العارى للشمس على الدوام، كما تمتنع عن معاشرة زوجها لأنّ جسده تفوح منه رائحة "اللحم". وسط مسار السرد، تُروَى أحلام الزوجة النباتية فى فقرات منفصلة عن السياق السردى بأسلوب شاعرى، حيث توظّف الكاتبة تقنية "الحُلْم السريالى" توظيفًا جيدًا للكشف عن مراحل تحوّل الزوجة الشابّة إلى نباتية، ولكشف هواجسها وآلامها الروحية. يُواجَه "التحوّل" الذى طرأ على حياة النباتية برفضٍ عنيف من جانب الزوج، ومن بعده أفراد أسرتها، ولاسيما من والدها الذى يتعامل بعنف مفرط حيال ابنته "المارقة"، فيحاول حشر قطعة لحمٍ كبيرة فى فمها بالقوة، لينتهى الفصل الأول بمحاولة انتحار النباتية. هنا نلمح تأثير كافكا الواضح. يستيقظُ جريجور سامسا من نومه بعد أحلامٍ مُزعجة، ليجد نفسه قد تحوّل إلى حشرة، فيُلفظ مِن أسرته ويعيش منبوذًا فى غرفته، ولا يجدُ من يحنو عليه سوى أخته التى تقدّم إليه الطعام، كما تستيقظُ النباتية من نومها بعد حُلمٍ لترى نفسها مثل ورقة شجر، فتُلفظُ من زوجها ومن أسرتها وتعيش منبوذة، لا تجد من يُعنى بأمرها ولا يقدّم لها الطعام سوى الأخت الكُبرى كما سنرى مع تقدّم الأحداث. تمضى الرواية فى منعطف جديد، حين يتسلّم زوجُ أخت النباتية رايةَ السرد. فبعد تعافيها من واقعة الانتحار، تعيش النباتية منعزلة فى شقّة صغيرة بعد أن هجرها زوجها. ويطلب منها زوج أختها الكُبرى، مصوّر الفيديو المغمور تصويرها عاريةً، ويرسم فوقَ جسدها زهورًا وورودًا، فتستسلم النباتية إلى رغبته استسلامًا غامضًا. تستبدّ بالرجل شهوة حسيّة فائرة ممزوجة بشغفٍ رومانسى، حين يرى "بقعة منغولية زرقاء" بين ردفيْها، فيهيم بها ويلعقها. تتحوّل النظرة الشبقية هنا إلى نوع من التداوى. نقرأ فى صفحة 107 من الترجمة العربية: "لقرابة أربعين سنة لم يحسّ بتلك الطاقة المُشرقة قطّ. تلك الطاقة التى كانت تفيض فى هدوءٍ فى مكان غير معلوم فى جسده بينما طرف الفرشاة يمسّ جسدها. كما تشعر النباتية بسكينة مماثلة حين تُرسم الزهور والورود على جسدها العارى، فتقول: "لستُ جائعة.. لكن أيزول هذا إن غسلته بالماء؟ سيكون من الأحسن ألا يزول. يضمّ الفصل بعض المشاهد الإيروتيكية، التى تؤدى- فى تقديرى- مهمّة الكشف عن نظرة مُغايرة لرؤية الإنسان للجسد وللجنس. فالنباتية امتنعتْ فى السابق عن معاشرة زوجها بسبب أكل اللحوم، لكنها لم تمتنع عن معاشرة زوج أختها بعد أن وشّى جسده العارى بزهورٍ وورودٍ وأوراق خضراء، بل على العكس، رحبّت بذلك قائلةً: "الورود على جسدِكَ تعجبنى. فالنباتية لا ترفض الجسد على إطلاقه، لكنها تعاف الجسد الجاف، الجسد الخالى من روح الورود وأوراق الشجر، والرسالة واضحة. يصوَّر الزوج النزِق علاقتهما بالكاميرا، لكنّ الأمر ينكشف فى النهاية على يد زوجته، الأختُ الكبرى للنباتية، وينتهى الأمر بفضيحة مؤلمة، حيث يُلاحَق الزوج من الشرطة، وتُنقل النباتية إلى مستشفى للعلاج النفسى. فى الفصل الثالث «لهيب الأشجار»، تتولى الأختُ الكُبرى مهمّة السرد، فتشرع فى رحلة بحثٍ عن سبب تحوّل أختها الغامض إلى نباتية، تؤنّب نفسها أحيانًا متسائلةً: أكان فى وسعها منع كل ذلك؟ تسيطر تقنية "تيار الوعى على الفصل الأخير من الرواية، حيث تستدعى الأخت الكُبرى ذكرياتها مع زوجها الخائب الخائن، ومع أختها، ومع أبيها القاسى، الذى استمر يضرب أختها النباتية بقسوةٍ حتى سنّ الثامنة عشرة، فتتذكّر أنّ أختها النباتية كانت تتلقى صفعات أبيها القاسية بألمٍ أكثر من أخوتها، ولا تُبدى أى ردّ فعل. كما لو أنّها فى جلسة محاكمة واعتراف، تواصل الأخت الكُبرى توجيه اللوم إلى نفسها: ألم يكن بوسعى منع كل ذلك؟ كل تلك الأشياء التى تصعب على التخيّل، والتى نخرتْ عظام شقيقتها الصغرى ألمًا؟ تزور الأخت الكبرى أختَها النباتية فى مستشفى للعلاج النفسى، فتراها واقفةً على يديها مثل شجرة. نقرأ فى صفحة 181 من الرواية فقرةً لافتة، تفسّر ماهية التحوّل: أدركتُ الآن أنّ الأشجار تقف على ذراعيْن ثابتتيْن على الأرض. هل تعلمين كيف عرفتُ ذلك؟ إنه الحُلم. كنتُ أقف على يدى والأوراق تنبت من جسدى، والجذور تبزغ من يدى. حفرتُ فى باطن الأرض، حفرتُ باستمرارٍ دائمًا وأبدًا. ينتهى الأمر بتحوّل النباتية إلى فرع شجرة، مجازًا وحقيقة. إذ تخسر وزنها بدرجة مخيفة، وتنقطع عنها العادة الشهرية، ولا يتبقَى شىء من نهديْها، فتمتنع عن الطعام تمامًا، وتقتات على الماء فقط مثل الأشجار. فى المشهد الختامى، تستقل الأختان سيارة إسعاف لتنقلهما إلى أحد المستشفيات الكبرى فى العاصمة سيول، حيث الرعاية الطبيّة المركّزة القادرة على إنقاذ حالة «النباتية» الحرجة. فى السطور الأخيرة من الرواية مشهد كاشف عن الاختلاف بين الأختيْن، حين يتبادلان مفهوم الحُلم والحياة. تواسى الأخت الكُبرى أختَها النباتية المُشرفة على الهلاك قائلة: "قد يكون ذلك كله مجرد حُلم. فتردّ النباتية: .. كل الأشياء فى الأحلام تبدو حقيقية، ولكن عندما نستيقظُ نعرف أنها ليست كذلك، ولهذا السبب علينا أن نستيقظَ فى لحظة ما، ثمّ. الراوية فى مُجملها تصوير لحربٍ تخوضها روح وحيدة ضدّ العالم. تنتهى الرواية بنظرة النباتية إلى الأشجار المحيطة فى الطريق إلى سيول، وهى نظرة قوية مفعمة بالصمود، نظرة تتحدى قسوة البشر وظلمهم، وسلاحها الوحيد فى هذه الحرب جسد أخفّ من ورقة شجر.