فى منتصف خمسينيات القرن الماضى صدر قانون يحفظ حقوق المؤلف؛ يحصل بموجبه على رقم يفيد امتلاكه الفكرى للكتاب الذى يوشك على نشره، وفى المقابل يودِع – هو أو دار النشر – عددًا من نسخ الكتاب عقب صدوره، فيسهم فى تزويد المكتبة القومية من جانب، ويحفظ التراث الثقافى والمعرفى للأجيال القادمة من جانب آخر. بتطور الأوضاع خلال السنوات التالية وصدور قانون حماية حقوق الملكية الفكرية رقم 38 لسنة 1992؛ أخذت إدارة الإيداع بدار الكتب والوثائق القومية تؤدى مهامذ أكثر دقة وإحكامًا، من بينها منح أرقام الإيداع والترقيم الدولي، ثم استلام عشرة نسخ من كل كتاب يتم توزيعها بواقع نسختين لرصيد دار الكتب، وست نسخ تُوزع على المكتبات الفرعية، ونسخة تُرسَل إلى مكتبة مجلس الشعب، وأخيرة إلى مكتبة مجلس الدفاع الوطني. وإذا تأخَّر الناشرون عن الإيداع ترسِل لهم الإدارة خطابات مطالبة خلال ثلاثة شهور من الحصول على رقم الإيداع، وفى حالة عدم الالتزام تُرسَل البيانات إلى الشؤون القانونية لاتخاذ الإجراءات اللازمة وفقًا للقانون. سارت الأمور هكذا لما يزيد على عشرين عامًا، إلى أن تطايرت شرارة فى العام 2017 تنذر بأزمة على وشك الاندلاع، وتحول «رقم الإيداع» من كونه إجراءً تنظيميًا روتينيًا، إلى عائق تتشابك أطرافه بين بيروقراطية عتيقة، وتشريعات متكلسة، وناشرين يلهثون فى سباق الوقت، وظروف اقتصادية طاحنة. وعليه؛ تراكمت الأرقام المسجلة فى دفاتر دار الكتب كظلال لأعمال لم تُطبع وأخرى لم تودَع، وضلّت السجلات طريقها لتصير أرشيفًا غير دقيق لذاكرة النشر فى مصر. كمحاولة لتجاوز الأمر، واستجابة لضغوط قطاع النشر واتحاد الناشرين المصريين الذين رأوا أن العدد الكبير من النسخ المطلوب إيداعها يمثل عبئًا ماليًا، خاصة فى ظل تكاليف الطباعة المرتفعة؛ أصدر الكاتب الصحفى حلمى النمنم – وزير الثقافة حينذاك – قرارًا بخفض عدد نسخ الإيداع من عشر إلى خمس نسخ، لكن الشرارة لم تخمد جذوتها، بل ركدت قليلًا قبل أن تشتعل مجددًا بصورة أكثر ضراوة قبل ما يقرب من عامين، عندما رفضت دار الكتب منح أرقام إيداع للناشرين، وتطور الأمر إلى منع بعضهم من دخول معرض القاهرة الدولى للكتاب. فى مايو 2023؛ أصدرت د. نيفين الكيلاني، وزيرة الثقافة السابقة، القرار رقم 205، الذى يمنح مهلة انتقالية لمدة ستة شهور للناشرين المخالفين كى يودعوا نسخًا من كتبهم ويقننوا أوضاعهم للحصول على أرقام إيداع، لكن ذلك لم يحِّل الأمر، فتجددت الأزمة قبيل معرض الكتاب فى دورته الماضية، مما حمل الكيلانى على إصدار قرار جديد برقم 585 تمد من خلاله المهلة الانتقالية لعام آخر. انتهت المُهلة الممدودة فى 20 أكتوبر الماضي، وأوشكت أن تتجدد الأزمة بالسيناريو ذاته الذى صارت عليه قبل عام، لكن د. أحمد هنو، وزير الثقافة؛ تداركها سريعًا وأصدر قراره رقم 459 لسنة 2024 بمد المُهلة لعام آخر. فهل سيمر العام ويتم مد المُهلة مجددًا؟! أم أن الأزمة قد تجد حلًا وتنتهي؟ الميكنة هى الحل سعيد عبده، رئيس اتحاد الناشرين المصريين سابقًا ومستشار النشر الحالى فى مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم؛ يصف ما يصدر من قرارات ب «المسكِّنات» وأنها حلول مؤقتة لن تُجدى نفعًا. مضيفًا: «لقد طالبتُ مرارًا، عندما كنت جزءًا من الاتحاد، بتعديل القانون وميكنة دار الكتب لتواكب العصر. الميكنة ليست حلًا مستحيلًا أو مكلفًا بشكل مفرط، بل هى استثمار ضرورى لتحسين كفاءة العمل، وقد طبقته دول عربية أخرى بنجاح. هذا التحول الرقمى لن يخفف فقط الأعباء عن الناشرين، بل سيضمن دقة التوثيق وسرعة الإنجاز، فالعمل اليدوى الذى لا يزال معتمدًا فى دار الكتب يمثل عائقًا كبيرًا، خاصة فى مواسم مثل معرض الكتاب». الأزمة الحقيقية لا تكمن فى الحصول على رقم الإيداع قدر تمثلها فى إمكانية إرجاعه، وهو الأمر الذى يشير إليه عبده قائلًا: «أرقام الإيداع ليست امتيازًا، بل حق ضرورى لأى ناشر أو مؤلف، وفى أى دولة متقدمة، يتم الحصول عليها بشكل فوري، بل ويمكن إرجاعها فى حال عدم استخدامها. لكن فى مصر تتجلى المشكلة فى عدم مرونة النظام الحالي؛ إذ تبقى الأرقام الممنوحة مُقيدة فى السجلات، حتى وإن لم تُستخدم، مما يؤدى إلى تسجيل إصدارات لم تُنشر فعليًا، وهذا – بكل بساطة – يُشوّه ذاكرة النشر القومية التى يُفترض أن تكون دقيقة وموثوقة، لأن الناشرين لن يطبعوا خمس نسخ من كتاب لم يصدر كى يوردوها إلى دار الكتب». لا يتوقف الأمر عند الحصول على رقم إيداع، وإنما فى فرض أعباء إضافية غير مبررة على الناشرين. يوضح عبده: «توريد نسخ لجهات أخرى غير دار الكتب يجب أن يُموَّل من ميزانية الدولة، لا من جيوب الناشرين الذين يعانون بالفعل من تكاليف الطباعة المرتفعة. القانون الأساسى ينص على توريد نسختين فقط، وأى زيادة على هذا العدد هى عبء غير عادل، خاصة فى ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة وارتفاع أسعار الكتب. لكن فى المقابل؛ لا يمكن إنكار أن الناشرين يتحملون أيضًا جزءًا من المسئولية، إذ يتأخر بعضهم فى توريد النسخ المطلوبة، وهو ما قد يكون سببه الإجراءات الطويلة والمعقدة التى تثقل كاهلهم، وتجعل الالتزام تحديًا صعبًا. ولذلك؛ يجب أن يكون هناك تعاون بين الناشرين والجهات المسئولة لضمان اكتمال الدورة القانونية والتنظيمية». ومن أجل أن يتم هذا التعاون يرى سعيد عبده أن الحل الجذرى للأزمة هو تعديل التشريع لتخفيف الأعباء عن الناشرين، مع ميكنة كاملة لنظام الإيداع تضمن سهولة الإجراءات ودقتها، فنحن فى عصر تُدار فيه النظم الرقمية بكفاءة فى دول عربية وأجنبية، بينما لا تزال الإجراءات فى مصر تعتمد على الأوراق والطوابير وينهى كلماته متسائلًا: «ألم يحِن الوقت لتغيير هذا الواقع وتوفير بيئة تشريعية وتنظيمية تليق بمكانة مصر الثقافية والإبداعية؟». ذاكرة الأمة يرى صبحى خميس، مدير عام اتحاد الناشرين المصريين؛ أن قرار مد المُهلة كان خطوة ضرورية، حيث أتاح للناشرين فرصة لإتمام الإجراءات المتعلقة بأرقام الإيداع، خاصة مع قرب انعقاد معرض القاهرة الدولى للكتاب، كما أنها فرصة لجمع الكتب القديمة وتسليمها إلى دار الكتب. وأشار خميس إلى وجود مشكلة حقيقية تتعلق ببعض الكتب التى لم تصدر بالفعل رغم تسجيل أرقامها، موضحًا أن هذه القضية ستُدرس بعناية بمجرد انتهاء الناشرين من عملية الجمع، وسيتم اللجوء إلى رأى قانونى لدراسة الأمر، وإثبات عدم صدور تلك الكتب بطريقة قانونية تحفظ النظام وتضمن دقة السجلات. أما الكتب القديمة التى لم تعد نسخها متوافرة فى الأسواق؛ فتلك المُهلة تتيح للناشرين فرصة لتوفيرها بأى وسيلة ممكنة، حتى وإن كان بطباعة عدد من النسخ لإيداعها فى دار الكتب، فتلك ذاكرة الأمة من التراث الثقافى ولا يمكن أن نتغاضى عنه. وعن مستقبل نظام الإيداع، أوضح خميس أن هناك اقتراحات جادة تخص الرقمنة، سواء فى عملية الحصول على أرقام الإيداع أو فى تسليم الكتب، هذا المشروع قائم بالفعل بين هيئة الكتاب واتحاد الناشرين المصريين، لكنه لا يزال قيد الدراسة ولم يدخل حيز التنفيذ بعد. رؤية وقرار بالحديث مع عدد من الناشرين للوقوف على ملامح المرحلة الحالية؛ تبين أن الحصول على رقم الإيداع يتم وفقًا لقاعدة «سلّم واستلم» أى أن الناشر يذهب لتسليم عدد من الكتب الصادرة حديثًا لديه، ويحصل فى المقابل على نفس العدد من أرقام الإيداع الجديدة، لكن ذلك لا ينفى هيمنة البيروقراطية على الوضع، فلازالوا مطالبين بتقديم «CD» لكل كتاب يحمل نسخة رقمية منه، فى الوقت الذى لم تعد أجهزة تشغيل أسطوانات الحاسب الآلى متاحة فى السوق أو تُصنَّع، فضلًا عن أن تسليم تلك النسخة من الكتب الصادرة حديثًا إلى «شخص ما» فى دار الكتب يقلِق الناشرين من إمكانية قرصنته، وهو ما يتطلب آلية حماية فى المقابل. وغير ذلك من الأمور التى تعد دار الكتب ضلعًا أساسيًا فيها؛ لذلك توجهنا للدكتور أسامة طلعت، رئيس دار الكتب والوثائق القومية، لنناقشها معه ونتعرف على رؤيته، لكن يبدو أنها لم تكتمل بعد! فقد حاول التهرب من الحديث تارة ورفض الرد تارات أخرى، لتبقى الحلول المقترحة ومتطلباتها من توفير بيئة رقمية آمنة وتعديلات تشريعية؛ فى انتظار صاحب قرار يمتلك رؤية وإرادة، بإمكانه أن يضع للأزمة حدًا.