اهتمت وسائل إعلام غربية مؤخرا بصداقة تشارلز الثالث ملك بريطانيا مع الرسام الأسترالي «واريك فولر»، وصحبته له خلال جولته الملكية فى أستراليا أكتوبر الماضي. وكانا قد تعارفا قبل سنوات فى معرض صغير للفنان فى «بلو ماونتن» غرب سيدني، وأعجب ولى العهد وقتها بأعماله، وصارا يتبادلان الرسائل، ثم صحبه فى كل جولاته فى أستراليا منذ عام 2012، ما يعيد إلى الأذهان صداقات جمعت بين فنانين وملوك، بعد ألف عام هُمِش خلالها الفنانون، وعوملوا كحرفيين، وأقاموا فى غرف الخدم بالقصور، قبل أن يصبحوا شخصيات مرموقة، تحظى بالمكانة والتقدير. ◄ عربيد ومجنون انتزعا للفنان كرامته ◄ لماذا لم يوقع فنانو العصور الوسطى لوحاتهم؟ ◄ «فليبو ليبي» أول من طالب بأجر مقابل الخيال ◄ «بيتهوفين» أول موسيقى مستقل جالس الملوك ◄ زهور ورسائل من الملكة إلى الرسام السكير ■ الفنان الأسترالي واريك فولر صديق الملك تشارلز خلال القرن 19 عرف الفنان «فرانز زافير وينتر هالتر» كصديق للملكة «فيكتوريا» وزوجها الأمير «ألبرت». وكان له حس فكاهى يروق للملكة وزوجها اللذين كانا يمارسان الرسم، وتعلما معا فن الحفر على يد صديقهما الفنان «إدوين لاندسير»، الذى كان يقلد لهما أصوات الطيور، ويروى قصص الأشباح، ويبهرهما برسم شيئين مختلفين فى الوقت نفسه أحدهما بيده اليمنى والآخر بيده اليسرى. ورغم إدمانه على الخمر فى مرحلة متأخرة من حياته، وعدم لياقته لصحبة الملكة، فإن «فيكتوريا» بقيت على إخلاصها له، وظلت ترسل له الزهور، والرسائل اللطيفة، وتدعوه أحيانا للاستجمام فى «بالمورال». كذلك حظى الموسيقار الألماني «فيليكس مندلسون» بصداقة فيكتوريا وزوجها، وكانت الملكة وزوجها يعزفان البيانو كثنائي، فأرسل لهما «مندلسون» توزيعا خاصا لسيمفونيته الاسكتلندية. ويروى الموسيقار فى رسالة إلى والدته عن لقائه الأول بهما، حيث عزف له الأمير الأورغن، ودخلت الملكة عليهما بملابس غير رسمية، فوجدت أن الهواء قد طوح عددا من أوراق النوتة الموسيقية على الأرض، فانحنت على ركبتيها ويديها وبدأت بالتقاط الأوراق. وبمجرد أن أخذ الموسيقار مكانه وبدأ بالعزف على أورغن الأمير، شرعت الملكة وزوجها فى الغناء. وكان هذا التبسط مدعاة لفخر الموسيقار، وبداية صداقة ممتدة. ■ الفنان جيوتو دي بندوني ◄ حرفيون لم تخل القرون السابقة على العصر الفيكتورى من علاقات تقترب من الصداقة جمعت فنانين مع ملوك، لكنها اتسمت بالتحفظ، وقامت على نوع من ولاء فنان البلاط لولى نعمته، مقابل ثقة الملك برسامه، وتكليفه أحيانا بمهام شخصية، بعضها يتعلق بالبحث عن عروس للملك، ورسمها له. أما طوال العصور الوسطى، فقد عومل الفنانون كحرفيين، وتقاضوا أجورهم باليومية، أو مقابل رواتب ومبيت فى ظروف غير كريمة. ولم يكن الفنانون يوقعون أعمالهم على الأغلب، مما جعل أغلبهم مجهولين. واقتصر دورهم على تنفيذ ما تطلبه الكنائس والنبلاء، والخضوع لأذواقهم، وفقا لكتاب «الفن والمجتمع فى العصور الوسطى» للباحث «جورج دوبي»، الذى يشرح كيف كانوا فى أدنى درجات السلم الاجتماعي، ومعرضين دائما لتقلبات رعاتهم. وكان أغلب الفن وسائل توضيحية للكتاب المقدس، فى ظل جهل الأغلبية بالقراءة. وخارج النطاق الدينى ظهر هامش دنيوى اشتمل على تصوير بعض مشاهد الحياة اليومية، والحب فى البلاط، وبعض المثل كالفروسية، وغلب على الكثير منها الوعظ الأخلاقي، والتظاهر. بالتالى عاش الفنانون ألف عام تقريبا من التهميش، بعد الحقبة الكلاسيكية التى وصلنا منها أسماء عشرات الفنانين المرموقين، ك«فيدياس» من القرن الخامس قبل الميلاد، و«أبولودوروس» من الحقبة الهلنستية. ■ الفنان فليبو ليبي من عصر النهضة ◄ استعادة خاض الفنانون رحلة طويلة منذ عصر النهضة المبكر لاستعادة مكانتهم. بدأ الأمر مع بعض المجددين مثل «جيوتو دى بوندوني» فى القرن 14، والذى بدأ بتوقيع أعماله، كذلك الفنان «هيرونيموس بوش» فى القرن الخامس عشر، والنحات «دوناتيللو» الذى عاش بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر. وأيضا الفنان «ماساتشيو» الفلورنسى الذى عرف ببراعته الاستثنائية فى تصوير الطبيعة وتطوير المنظور الخطى مطلع القرن الخامس عشر، ما يجعله أستاذا لمن جاء بعده، وكانوا يدرسون أعماله مثل لوحة طرد آدم وحواء من الجنة، ولوحة الجزية التى تصور المسيح وأصحابه بالأسلوب الكلاسيكي. وكان تطويره لفن التصوير وراء المكانة التى حظى بها. ■ الموسيقار جوزيف هايدن بريشة جون هوبنر ◄ المتمرد ويأتى الفنان الفلورنسى أيضا «فليبو ليبي» الذى ولد مطلع القرن الخامس عشر كعلامة فارقة فيما يتعلق بتقدير الفكرة الإبداعية، حيث طلب صراحة أجرا أكبر من المعتاد، نظير فكرة اللوحة وتصميمها، وليس مجرد الجهد والوقت المبذولين فيها، وبذلك يكون أول من طلب مقابلا للخيال. وكان شخصية غريبة الأطوار، تربى يتيما فى أحد أديرة فلورنسا. وهناك رأى الفنان «مساتشيو» وهو يرسم، فشعر بإلهام، وبأنه يريد أن يصير فنانا، ومنحه رئيس الدير الفرصة ليتعلم على يده. ولكنه عاش حياة متقلبة، حيث كان يغادر الدير ويعيش فى حى البغايا، فطرد من الدير، وأعاده راعيه «كوزيمو دى ميدتشي». وأخيرا أغوى الراهبة الجميلة والتقية «لوكريزيا بونتي»، بينما كان يرسمها كموديل لإحدى اللوحات الدينية فى دير القديسة مريم المجدلية بفلورنسا، وهرب معها، وأنجبا ابنهما «فلبينو ليبي» الذى صار أحد أهم فنانى عصر النهضة أيضا. وكان «كوزيمو دى ميدتشي» يعتبره صديقا، ويحبسه حتى يتم أعماله. ولكنه كان يبتدع الطرق للهروب، من النوافذ العالية عن طريق ربط الملاءات ببعضها والتعلق بها. وعاش حياة جامحة ومتناقضة امتلأت بالفضائح، وحفلت بتوقيعه على أعمال دينية مهمة مثل مذبح كنيسة القديس «أمبروز» التى تعتبر من معالم فلورنسا. كما ترك أعمالا شديدة التميز، ألهمت من بعده العديد من فنانى عصر النهضة مثل تلميذه «ساندرو بوتيتشيللي». وكان عرش الفن قد ترسخ فى انتظار أن يعتليه «دافينشي» و«مايكل أنجلو» و«رفاييل». ■ بيتهوفين بريشة جوزيف كارل ستيلر 1820 ◄ بيتهوفين على خلاف الرسامين، تأخر الموسيقيون فى نيل مكانتهم، ويكفى أن نعلم أن موسيقارا عظيما مثل «هايدن»، وحتى «موتسارت» فى أواخر القرن الثامن عشر، كانا يقيمان فى غرف الخدم بقصور رعاتهم. لكن الأوضاع تغيرت على يد «بيتهوفين» الثورى الذى لم يغير فقط الموسيقى ولكن أوضاع الموسيقيين. فرغم أنه عند بدايته كان مطمئنا على أوضاعه المالية كموظف فى البلاط، لكنه خرج عن ذلك النمط المضمون، ليصبح أول فنان مستقل ومديرا لنفسه دون تبعية لأحد. وكان مضطرا للعمل ما بين تدريس الموسيقى وإقامة العروض ليتمكن من العيش. وسرعان ما حصل على رعاة لفنه أبرزهم الأمير «كارل فون ليخنوسكي» الذى أمن له دخلا سنويا ثابتا، ورغم ذلك كان يتعامل مع الجميع بندية. وقد تفاقمت أوضاعه عندما بدأ بفقد حاسة السمع، فلم يعد بإمكانه العمل كعازف، وكان عليه أن يركز على عمله كمؤلف موسيقي. وصار يدخل فى مفاوضات شاقة مع ناشرى أعماله. كما أظهر استقلالا فى عمله الإبداعي، فلم يجار السائد، وغامر بوضع بصمته الجريئة، مغيرا القوالب الموسيقية، وأدخل البعد العاطفى الذاتى فى أعماله. ■ فيكتوريا على ظهر الخيل بريشة صديقها الفنان إدوين لاندسير ووفقا ل»تشارلز روزون» فى كتابه «بيتهوفين موسيقاه وحياته» فقد رفض أن يقيم فى غرف الخدم فى قصور النبلاء والملوك كالآخرين، حتى خلال فترات افتقاره للمال، مفضلا العيش فى شقة مستقلة. كما رفض الطبقية الاجتماعية، ورفض تحية الطبقات النبيلة بالطريقة المبالغ فيها التى كانت سائدة، فاعتبره البعض نوعا من التحدي. ووفقا لكتاب «رسائل بيتهوفين» ل»إليوت فوربيس» فقد فضل الحفلات العامة للجمهور على الحفلات الخاصة فى القصور، حرصا على استقلاليته. هذا الاعتزاز أجبر الجميع على التعامل معه باحترام. وكلها صفات جسدها الفنان «جوزيف كارل ستيلر» فى لوحته الشهيرة لبيتهوفين، والتى تظهره كشخص ثائر يتطلع نحو أفق مختلف، ويتلقى الإلهام بعزيمة، بشعره الذى يحيط رأسه كأسد، وعاكفا على تأليف أحد أعماله الشهيرة «ميسا سولمينيس»، أو «القداس المهيب». ■ لوحة فليبو ليبي العذراء والطفل، ويعتقد أن الموديل المرسومة هي الراهبة لوكريزيا بوتي وهى معروضة حاليا فى بيته بمدينة «بون». كما تعبر موسيقاه عن عصر التنوير وعن قيمة الإنسان وقدرته على الانتصار على الشدائد. وعرف عنه تأييده للثورة الفرنسية، وحبه لنابليون حتى أنه أسمى سيمفونيته الثالثة «بونابارت». ولكن بعد أن أعلن نابليون نفسه إمبراطورا على فرنسا، متنكرا لقيم الثورة، انقلب عليه وغضب بشدة، وصاح قائلا: «إذن هو مجرد إنسان عادي، وسيتحول إلى طاغية، ويدوس على حقوق الإنسان». وذهب إلى حيث نوتة سيمفونية «بونابارت»، وشطب الاسم وكتب مكانه «سيمفونيا إرويكا» أو «السيمفونية البطولية». ■ موتسارت بريشة يوهان نيبموك 1780 ويقال إنه فعل ذلك بقوة حتى كاد يمزق الورقة. وقد عانى إلى جانب الصمم من الاضطراب ثنائى القطب، ما جعل مزاجه متقلبا، كما فكر فى الانتحار أكثر من مرة. وكان صارما يتوقف عن العزف إذا ما سمع أحدا من الجمهور يتحدث فى الصالة، وكارها للسلطة، وللمجتمع الطبقي. كما كان أول من طالب بحقوق الفنان المادية والأدبية، وفعل ذلك بوقاحة أحيانا، سواء مع ناشريه أو مدير الأوبرا أو حتى المسئولين فى البلاط. ونجح فى النهاية فى انتزاع المكانة التى تليق بالفنان، فكان أول موسيقى يجالس النبلاء والحكام، ويتناول طعامه على موائدهم.