لعب رسامو البلاط دورا مهما فى قصور إنجلترا منذ بشائر عصر النهضة. وحظى بعض الملوك بعشرات اللوحات، وثقت حياتهم من الطفولة حتى الشيخوخة، وأظهرت سلطتهم وثرواتهم، ورمزت لأفكار اعتنقوها، أو سمات رغبوا فى التزين بها. ورغم دعائيتها، إلا أن بعضها يعد وثائق تاريخية مهمة، لارتباطها بلحظات فارقة، أو فصول من دراما صراع السلطة، وتبدل المصائر. وهى لا تخلو من العبر والعظات. ◄ بعضهم عمل «خاطبا» للملك ..وأحدهم كاد يعدم بسبب عروس ◄ الرسامون وحكاية الانتقال من غرف الخدم إلى صداقة الملوك ◄ قصة رئيس جمهورية إنجلترا مع شاعر الفردوس المفقود ◄ ملك بثلاثة وجوه وآخر بست زوجات ■ الملك ريتشارد الثاني من القرن الرابع عشر لم تكن صور الملوك شائعة فى إنجلترا العصور الوسطى، على خلاف بيزنطة، وغيرها من الممالك الأكثر تحضرا واستقرارا. ومع ذلك ضمت بعض المخطوطات صورا لملوك إنجليز مثل «إدجار السلمى» من القرن العاشر، وهو يقدم ميثاقه للمسيح، و«هنرى الثانى» من القرن 12، و«إدوارد الثالث»، وجمعت إحداها بين الملكين «ستيفين» و»هنرى الثانى» من القرن نفسه، وكلها مرسومة بأسلوب العصور الوسطى قبل تطور فن البورتريه واللوحات الزيتية ضمن مقدمات عصر النهضة. وتعتبر لوحة «ريتشارد الثانى» فى القرن 14 واحدة من أقدم صور الملوك الإنجليز فى تلك المرحلة التمهيدية. ■ الملكة شارلوت بريشة توماس جينسبورو وهو ثامن ملوك أسرة «بلانتجاييت» التى تصارع فرعاها «لانكستر» و«يورك» على السلطة، منذ منتصف القرن 12. ووصل الأمر إلى مداه فى عهد «ريتشارد الثالث» فى القرن 15، والذى كتب عنه «وليام شكسبير» مسرحيته «ريتشارد الثالث». وأدت استبداديته إلى مؤامرة عائلية وحدت الفرعين للإطاحة به، وتصالحا بزواج «هنرى السابع» من «إليزابيث يورك»، ليبدأ عصر النهضة الإنجليزى. ويبدأ الفنانون فى احتلال مكانهم داخل القصور. ■ أوليفر كرومويل بريشة الفنان إيمانويل جوتليب لوتز ◄ فنان القصر حمل بعض رسامى البلاط الإنجليزى فى عصر النهضة لقب «رقيب رسام»، اختصاصه الإشراف على أعمال الطلاء والزخرفة والتصميم للقصور والعربات فضلا عن اللوحات. كما تخصص بعضهم فى رسم لوحات الملك، وآخرون للملكة، وغيرهم للمناظر الطبيعية، كالفنان «فرانسيس برجوا» فى بلاط «جورج الثالث» بين القرنين 18، 19 مع منصب «الرسام الأول»، ولقب «سير». كذلك كان هناك منصب رسام الزهور، والذى حمله كل من «جوزيف بارنى» رسام الزهور والفاكهة للأمير الوصى الذى صار من بعد «جورج الرابع». كذلك «فيبى إيرل» رسام الزهور والفاكهة للملكة «أديلايد» زوجة «وليام الرابع» والفنان «أوجوستا إينيس ويذرز» رسام الملكتين «إديلايد» و»فيكتوريا» فى القرن التاسع عشر، و»فالنتين بارثلوميو» رسام الملكة «فيكتوريا». ■ تشارلز الثاني استعاد الملكية بعد جمهورية كرومويل بريشة بيتر ليلي ◄ خاطب الملك يستحق الفنان الألمانى «هانز هوليبان الابن» أحد أشهر رسامى البلاط الإنجليزى، فى القرن السادس عشر، وقفة، ليس فقط لبراعته، ولكن لعلاقته مع الملك «هنرى الثامن»، الذى كان موضع ثقته حتى أنه عمل كخاطب له، وتكفل بالانتقال بين قصور أوروبا لرسم عرائسه المحتملات. وقد حظى الملك بست زوجات على مدى حياته، وأعدم اثنتين منهن بعد اتهامهما بالخيانة دون أدلة قوية. وكانت فترة حكمه عاصفة، وحدث خلالها الصدع الأكبر بين إنجلترا والكنيسة الكاثوليكية، فانشق معلنا نفسه رئيسا للكنيسة الإنجليزية، وأعدم من اعترضوا على ذلك من المحيطين به. وكان رسامه «هوليبان» شديد الحذر أمام تقلباته، وتسرعه. واحتفظ بثقته، فسمح له بالدخول إلى مخادع زوجاته، ونساء بلاطه لرسمهن فى غرف نومهن بملابسهن الخاصة. وهو ما أظهره المعرض الذى أقيم العام الماضى فى قصر «باكينجهام». ■ جورج الثالث بريشة آلان رمساي القرن الثامن عشر ومع ذلك فقد نجا بالكاد من الإعدام بسبب لوحته ل«آن كليفر» التى صارت الزوجة الرابعة للملك بناء على الصورة التى رسمها لها، ثم وجدها الملك بعد الزواج مملة، حتى أنه أعدم صديقه الذى رشحها له. لكن «هوليبان» نجا لمكانته، فضلا عن أن اللوحة، لم تحاول قول شىء بخلاف حقيقة شخصية «آن» الباهتة. ويظهر ذكاء «هوليبان» فى إهدائه للملك صورة لطفله الأمير «إدوارد» الذى سيصبح من بعد «إدوارد السادس»، وقد رسمه فى وضعية تحمل أصداء لوحة «دافينشى» «سلفاتور موندى» أو «مخلص العالم»، كتعبير عن مستقبل الابن فى توحيد العالم المسيحى، وهو هاجس ومبعث اضطراب الملك منذ انشقاقه عن الكنيسة. كما كتب على اللوحة جزء من قصيدة للشاعر السير «ريتشارد موريسون» باللاتينية تقول: «يا صغيرى حاكِ والدك. وكن وارثا لفضيلته. فلا يوجد فى العالم ما هو أعظم من فضائله. فمن الصعب أن تنجب السماء والأرض ابنا يفوق مجد أبيه..» ■ لوحة عائلة جورج الثاني غير المكتملة بريشة وليام هوغارث ◄ جمهورية كرومويل وبالانتقال إلى القرن السابع عشر يبرز الفنان السير «أنتونى فان دايك» رسام البلاط فى عهد «تشارلز الأول». وهو باروكى فلمنكى، ومن أشهر أعماله اللوحة الثلاثية للملك فى ثلاثة أوضاع، وكذلك لوحة «الملك تشارلز فى الصيد». وقد اختاره الملك رساما للبلاط عام 1632 وكان فى الثالثة والثلاثين. ورغم رحيله فى الثانية والأربعين إلا أنه ترك عددا كبيرا من اللوحات شملت الأمراء والنبلاء. أما الملك فقد استبد بالحكم، وتسبب فى نشوب حرب أهلية، انتصر فيها البرلمانيون بقيادة «أوليفر كرومويل» والذى أسقط الملكية وأعلن الجمهورية وأعدم الملك عام 1649 أمام أبنائه. واستمر الحكم الجمهورى أحد عشر عاما. وهنا لم يتوقف الفن عن تسجيل التاريخ، وتخليد الحكام، فحظى «كرومويل» بعد اعتلائه للسلطة فى إنجلترا الجمهورية بعدد كبير من اللوحات، منها ما رسمها الفنان «فورد مادوكس براون» أحد فنانى مدرسة «ماقبل الرفائيلية» الإنجليزية المعادية لأساليب عصر النهضة. وفى اللوحة يظهر «كرومويل مع الشاعر «جون ميلتون» صاحب قصيدة «الفردوس المفقود» وأحد أهم ثلاثة كتبوا بالإنجليزية، مجتمعين مع كاتب الجلسة. وكان «ميلتون» أحد مؤيدى الجمهورية، ونجا من الإعدام بأعجوبة بعد عودة الملكية، وكان قد أصيب بالعمى. كذلك هناك لوحة «أوليفر يزور ميلتون» للفنان «ديفيد داهولف نيل» والتى تصور تلك العلاقة. كما رسمه الفنان «إيمانويل جوتليب لوتز» وغيره الكثيرون. وبعد عودة الملكية على يد «تشارلز الثانى» صار «جرينلينج جيبونز» نحاتا للبلاط، وهو أمر نادر فى بريطانيا. وأنجز فى عهده العديد من الأعمال فى قلعة «وندسور» والمستشفى الملكى فى «تشيلسى» وقصر «هامبتون كورت» وكاتدرائية «سانت بول» وغيرها. كما عين الفنان الهولندى «بيتر ليلى» رساما لبلاطه، ورسم العديد من البورتريهات للملك وصديقاته بالإضافة للأمراء والأميرات وتميزت لوحاته بالنعومة والحسية. ■ هنري الثامن بريشة هانز هوليبان الأصغر ◄ حكايات القصور في القرن الثامن عشر كان الفنان الإنجليزى «وليام هوجارث»، أحد رسامى بلاط الملك «جورج الثانى» وعائلته. ويحكى أنه عندما علم بخطبة الأميرة «آن» ابنة الملك، ذهب ليوثق الحدث، ليطبعه للجمهور. وكانت الملكة قد منحته الإذن، ولكن عندما ذهب فوجئ بمنافسه الفنان «وليام كنت» يطرده، مستندا لحظوته عند الملكة، ليحتكر تصوير الحدث. وهو ما تزامن مع توقف الأمير «وليام» عن استقباله لإتمام صورة عائلية، فشعر بإهانة بالغة. واللوحة غير المكتملة، اشترتها الملكة إليزابيث الثانية عام 1955، وانضمت للمجموعة الملكية التى ورثها الملك «تشارلز الثالث» مؤخرا. وفى القرن التاسع عشر كان الفنان البريطانى «توماس جينسبورو» المعروف ببراعته فى المناظر الطبيعية رساما للملك «جورج الثالث» والملكة «شارلوت»، التى رسمها فى لوحة شهيرة تمسك مروحة وتقف بجانب نافذة. أما الملكة «فيكتوريا» التى تولت العرش فى الثامنة عشر من عمرها، ومكثت فى الحكم 64 سنة، وعرف عصر رومانسى كامل باسمها، فكانت هى نفسها ترسم وتكتب، وجمعت فى بلاطها أدباء وفلاسفة. وبعد وفاة زوجها «ألبرت» لم ترتد سوى الأسود، مما جعل قصة حبهما موضوعا لعدد من الروايات والأفلام. ومن أشهر لوحاتها ما رسمها الأمريكى «توماس سولى» بعد تتويجها، بطابع رومانسى يختلف عن الصور الرسمية رغم ارتدائها التاج، وحيث ظهرت تصعد سلما، وتنظر من فوق كتفها. ◄ عصر الفوتوغرافيا فى العصر الحديث لم يكن للملكة «إليزابيث الثانية» رسام بلاط، ولكن فنان مفضل هو الإيطالى «بيترو أنيجونى» والذى رسم لها بورتريها شخصيا منتصف الخمسينيات، وأعاد رسمها عام 69. الصورة الأولى استحوذت على الجمهور، لكن سرعان ما سادت الفوتوغرافيا. والتقطت المصورة «دوروتى وايلدينج» صورة تتويجها عام 52، وكذلك المصور «سيسل بيتون» الذى كان عمليا، وليس رسميا مصور البلاط. وكان يختار الخلفيات ذات الطابع المسرحى لصوره. وبعد ذلك ظهرت صور أكثر عفوية للملكة لمصورين بعضهم من العائلة والأصهار. ثم جاءت الصور الصحفية الملتقطة على حين غرة، لتكشف تفاعلات إنسانية حميمة فى لحظات مختلسة مثل تفاعلها مع حريق قلعة ويندسور عام 92 أو وهى تذرف الدموع فى جنازة شقيقتها عام 2002. لكنها عام 2000 وبعد مفاوضات قبلت الجلوس أمام الرسام «لوسيان فرويد» (77 عاما)، وكانت فى الرابعة والسبعين من عمرها. وامتدت الجلسات من مايو إلى ديسمبر، واستخدم الرسام المتقاعد عجينة لونية سميكة، وأنتج لوحة صغيرة الحجم (22/15سم) ومثيرة للجدل. فبقدر دقتها، أظهرت العين التحليلية للفنان هموم الملكة واكتئابها وتعبها، وظهر التاج مائلا قليلا. وقد أهداها الفنان للمجموعة الملكية، ولم تعلق الملكة عليها، ولم ترق للجمهور بعد نشر صورتها. وعلى العموم فمع انتشار صور الملكة الفوتوغرافية لم يعد الفنانون بحاجة إلى إذن لرسمها، وطوال عقود رسمها المئات حول العالم بطرق لا تخطر على البال، وبعضها لم تكن لترد حتى فى كوابيس أجدادها الملوك قبل قرنين.