في فلورانسا أوائل القرن الخامس عشر، استتبت السلطة لعائلة حققت ثروة كبيرة من التجارة والأعمال المصرفية. وراحت تنفق ببذخ على إقامة صروح معمارية طموحة بطرز جديدة، وعلى رعاية أعداد من الموسيقيين والرسامين والنحاتين، واقتناء المئات من أعمالهم، كما دعموا العلوم، والأفكار ذات النزعة الإنسانية. وهو ما خلق حالة إبداعية وثقافية، انتقلت عدواها بين المدن الإيطالية، ومنها إلى عموم أوروبا فيما عرف بعصر النهضة. ولم تكن تلك سوى عائلة «ميدتشي» التى تعد المثال الأبرز على قدرة الثروة على صنع المعجزات إذا ما اقترنت بتقدير الجمال. وقد صار عصر النهضة عنوانا على انتقال البشرية نحو حقبة جديدة ما زلنا نجنى ثمارها. ◄ إبداعات ثلاثة قرون على وقع المؤامرات والصفقات ◄ المصرفيون الذين غيروا العالم بحبهم للفن ◄ تحدوا روما وزرعوا فيها أربعة باباوات ■ كاترين دي ميدتشي ملكة فرنسا فى مطلع القرن الخامس عشر، كانت أوروبا تتعافى من حروب استمرت مئات السنين، ومن أوبئة، مما أتاح الفرصة لازدهار حركة تجارية، أوروبية ودولية، جنى منها البعض ثروات طائلة، فضلا عن ازدهار الأعمال المصرفية. وضمن هؤلاء الأثرياء كانت عائلة «ميدتشي» التي أتت من خارج دوائر النبلاء. ◄ كوزيمو الأكبر مع بدايات القرن 15 كان «جيوفانى ميديتشي» الأب قد رسخ لمكانة عائلته فى «فلورانسا». لكنه كان رجلا تقليديا وعمليا. وبمجرد رحيله اعتلى ابنه «كوزيمو الأكبر» هرم السلطة فى المدينة الدولة. وأنفق بسخاء على العلوم الإنسانية، ورعى عددا من الفنانين أبرزهم النحات «لورينزو جبرتي» صاحب البوابات البرونزية لمعمودية «فلورانسا» - والتى سيطلق عليها «مايكل أنجلو» بعد عقود «بوابات الجنة» لروعتها - فكلفه بأعمال فى كاتدرائية فلورانسا. كذلك رعى الفنان «فليبو ليبي» الذى نشأ يتيما، وتربى كراهب في الدير، ثم غادر، وانغمس فى حياة شهوانية ومتمردة. وكان دائم التردد على بيت «ميدتشى» حيث كلفه «كوزيمو» بعدد من الأعمال منها لوحات «البشارة» والقديسين السبعة». واضطر لأن يحبسه، ليتم عمله. لكنه استخدم الملاءات وصنع حبلا وهرب. وهو نموذج مبكر للفنان المتمرد، والخارج على الأعراف. وقد تورط فى عدد من الفضائح، منها أنه كلف بالعمل فى دير للراهبات، فأغوى الراهبة الجميلة والتقية «لوكريتزيا بوتى» لتهرب معه، وأنجب منها «فلبينو ليبى» الذى سيصبح أيضا أحد الفنانين البارزين فى عصر النهضة. ■ كوزيمو دي ميدتشي الكبير كذلك رعى «كوزيمو» المعماري «فليبو برولونسكي» وكلفه ببناء قبة كاتدرائية فلورانسا المستحيلة وقتها. وهو أول من شرح المنظور الخطى فى الرسم، والذى أدى لثورة فى فنون عصر النهضة. ورعى أيضا النحات الشهير «دوناتيلو» الذى كرس البعد الإنسانى فى النحت، وعلاقته بالفضاء المعمارى. ولم تكن حياة «كوزيمو» سهلة، فرغم الثروة وتوليه السلطة فى عمر السابعة عشرة، على رأس مجلس من ثمانية وأربعين شخصا، إلا أنه تعرض لعديد من المؤامرات، وحل المجلس، وانفرد بالسلطة. ثم نجحت إحدى المؤامرات فى نفيه خارج فلورانسا، وكونوا جيشا لمحاربته، لكنه انتصر وعاد لسلطته. ◄ اقرأ أيضًا | جان دارك «عذراء أورليان».. قادة الجيش الفرنسي في عمر ال13 عاما وأحرقت حية ■ البابا ليو العاشر مع قريبيه للفنان رفاييل ◄ لورينزو الرائع كان «لورينزو دى ميدتشى» حفيد «كوزيمو الأكبر» والذى قاد العائلة، وفلورانسا بعد والده، وهو فى العشرين. ويعتبر الأشهر والأكثر إنجازا فى العائلة. كان شاعرا، ومولعا بالفنون والثقافة، لكن حياته كانت سلسلة من المعارك، أبرزها مؤامرة حاكتها إحدى العائلات المنافسة عام 1478 بالاتفاق مع البابا «سيكتوس الرابع» لقتله وشقيقه خلال قداس. ونجح المتآمرون فى قتل شقيقه، ونجا هو بجروح وندبة فى وجهه، بعد أن أغلق على نفسه إحدى الخزانات، واحتمى بها حتى أنقذه بعض أصدقائه. وبدأ بعدها عملية انتقام واسعة شملت كل الأطراف بمن فيهم البابا، وابن شقيقه، وآخرين. واستغل الفرصة وحكم منفردا بقبضة حديدية. وقد دعم بسخاء عددا من الفنانين مثل «ساندرو بوتتشيلى» صاحب الطابع الخاص بين فنانى عصر النهضة. وهو من كلفه برسم اللوحة الشهيرة «ميلاد فينوس» كما رعى «مايكل أنجلو» الذى قضى مراهقته فى بيت «ميدتشى»، وتعلم النحت فى حدائق العائلة، وأصبح ضمن مجموعة من الفنانين والمفكرين، ممن صاغوا المذهب الإنسانى. كما كلفه بعدة أعمال، وباستكمال منحوتات مقابر العائلة. كذلك دعم «ليوناردو دافينشى»، واستعان ببعض أفكاره ومخترعاته. ولما رحل فى الثالثة والأربعين من عمره، خلفه ابنه الأكبر «بييرو». لكنه تعرض لغضب الجمهور بعد إبرامه لمعاهدة سلام مع فرنسا، ونفى عام 1494 بعد عامين من توليه السلطة ومات فى المنفى. وبفضل شقيقه الأصغر «جيوفانى» الذى كان كاردينالا، تمكنت العائلة من العودة إلى فلورانسا. ■ إحدى بنات آل ميدتشي ◄ باباوات مديتشي عرف «لورينزو الرائع» قبل رحيله أنه لن يستتب الأمر للعائلة دون زرع أفراد منها فى مقر الكنيسة بروما. ووهب ابنه وابن أخيه لهذه المهمة. وهو ما اتبعه خلفاؤه أيضا حتى صار مجموع من اعتلو عرش الكنيسة من «آل ميدتشى» أربعة باباوات. وكان «جيوفاني» الابن الأصغر ل»لورينزو الرائع» كردينالا لم يبلغ العشرين عندما مات أخوه فى المنفى. وقد تمكن من إعادة عائلته إلى «فلورانسا»، بل ووسع نفوذ العائلة فى أوروبا بأسرها عندما أصبح بابا روما باسم «ليو العاشر». وقد اتبع طريق أبيه فى ولعه ورعايته للفنون. وعندما رحل عام 1521 كان قد أعاد بناء كنيسة القديس بطرس، وأنفق ببذخ على العمارة والفنون. لكن أكثر ما ارتبط باسمه كان بيعه صكوك الغفران. وهى الحيلة التى اضطر للجوء لها مع فراغ الخزينة، بسبب إنفاقه على الفن، ما عرضه لطعن «مارتن لوثر»، وأدى إلى انقسام الكنيسة ونشوء «البروتستانتية». وبخلاف «ليو العاشر» (1513-1521)، اعتلى عرش البابوية من «آل مديتشى» ثلاثة آخرون، هم «كليمنت السابع» (1523-1534)، و»بيوس الرابع» (1547-1550)، و»ليو الحادى عشر» 1605، بالإضافة لعدد من الكرادلة. ■ فرانشيسكو دي ميدتشي بريشة برونزينو ◄ نساء العائلة كان لنساء العائلة دور كبير فى إدارة الأموال أو الشئون السياسية، وكذلك رعاية الفنانين. كما تزوجت بناتهن من عائلات حاكمة عديدة فى أوروبا. واثنتان منهن اعتلتا بنفسيهما العروش، أولهما «كاثرين دى مديتشى» (1519-1589) زوجة «هنرى الثانى» ملك فرنسا. وكانت قد ولدت يتيمة، وتربت فى الدير، ثم فى بيت عمها البابا «كليمنت السابع»، حتى أطاح به الكاردينال «سلفيو باسيرينى» واحتجزتها قواته، وحبستها وحيدة فى أحد الأديرة، وكادت تقتل خلال محاولة عمها استعادة عرشه. ولكنها بعد استعادته لكرسى البابوية، تزوجت من ابن ملك فرنسا. وهنا أيضا تعرضت للإذلال لسنوات بسبب عدم إنجابها. وبفضل أحد الأطباء، تمكنت من إنجاب عشرة أبناء. واعتلى أكبرهم «فرانسيس الثانى» العرش، وهو فى الخامسة عشرة، ثم سرعان ما مرض ومات، فاعتلت العرش من بعده، وتوحشت متشبثة بالسلطة. وخلال ذلك أنفقت على العمارة والفنون، وكانت من أدخلت فن «الباليه» إلى فرنسا. ويقال إنها جندت سربا من راقصاته، لجمع المعلومات من داخل غرف نوم رجال السلطة. كما قيل إنها استخدمت السم والسحر للقضاء على أعدائها. وظلت تحكم بقبضة حديدية خلال فترة ابنها «تشارلز» الذى صار ملكا فى التاسعة، وظل يبكى طوال حفل تتويجه، واستمر فى النوم فى الغرفة نفسها معها. وقد اعتلى العرش ثلاثة من أبنائها، تحت وصايتها، فى فترة نزاعات ومذابح أوقعتها بالبروتوستانت، ما أغضب قريبها البابا «بيوس الرابع». وفى نهاية حياتها تمرد عليها أبناؤها، بمن فيهم ابنها الملك «هنرى الثالث» وماتت مقهورة، قبل ثمانية أشهر من موت ابنها الملك مطعونا، وكان قد ورث دمويتها. وخلال الثورة الفرنسية نبش قبرها، وألقيت رفاتها فى مقبرة جماعية للمستبدين. ومع ذلك فقد تركت كعهد «آل ميدتشى» ميراثا من الأعمال الفنية والأبنية المعمارية الفريدة. كذلك اعتلت «ماريا دى مديتشى» (1575-1642) عرش فرنسا، بعد زواجها من «هنرى الرابع»، والذى تزوجها لأنه كان مدينا لأبيها بمبلغ كبير. ولكنه اغتيل بعد تتويجها بيوم واحد، فأصبحت الحاكمة الوصية على ابنها «لويس الثالث عشر». وعرفت بمؤامراتها، كما انقلب ابنها الملك عليها فور بلوغه، ونفاها إلى أحد الأديرة، وهربت، وشاركت فى ثورة فاشلة ضده قادها ابنها الآخر، وانتهى الأمر بالصلح بينهما. وهى الأخرى اهتمت بالعمارة والفن، فبنت قصر «لوكسمبورج». وكلفت الفنان «بيتر بول روبنس» بعمل 21 لوحة تصور حياتها، ورسمها مع زوجها «هنرى» فى شخصيتى الإلهين «جوبيتر» و»جونو»، وأنجبت ملكتين لأسبانيا وإنجلترا بخلاف ابنها ملك فرنسا. ■ كوزيمو الثاني دي ميدتشي مع شخصين من العائلة ◄ رعايات أخرى وبخلاف التشكيليين والمعماريين اهتم «آل مديتشى» برعاية الموسيقيين مثل «جيوم دوفاي» و»ألكسندر أجريكولا» وحتى «أنطونيو فيفالدى». كما دعموا «بارتلميو كريستوفرى» مخترع «البيانو»، محل فخر العائلة، والذى سرعان ما احتل مكان «الهاربسيكورد» ذى صفى المفاتيح، والذى كان يعتمد على أوتار داخلية، وليس مطارق. وهم من طوروا «الكاميراتا الفلورنسية» التى جمعت بين الموسيقى والشعر، ويعتبرها الكثيرون مهد فن الأوبرا. كذلك دعم «كوزيمو الثانى» - عالم الرياضيات والفلكى «جاليليو» فى الفترة الأخيرة من تألق العائلة، مطلع القرن الثامن عشر، وقبل أن ينتهى تماما أى وجود للعائلة بموت آخر السلالة دون أن يترك وريثا عام 1737.