في 17 مايو 1960، كاد موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب يفقد حياته بعد أن اعتدى عليه معجب مجنون بآلة حادة فى وجهه لأسباب غير معروفة، أثناء وقوفه انتظارًا للأسانسير فى العمارة التى يسكن فيها، ما استدعى نقله على الفور إلى المستشفى. وفى اليوم التالى مباشرة نشرت «آخرساعة» تقريرًا كتبه الكاتب الصحفى الراحل أحمد ماهر، نقل فيه أجواء ما جرى فى المستشفى وإقبال العديد من الفنانين والشخصيات العامة على الغرفة 37 للاطمئنان على صحته، موضحًا كيف خدع «الشيخ حسن» أم عبدالوهاب بتقليد صوت موسيقار الأجيال فى التليفون حتى لا تعرف أن الأخير في المستشفى.. التفاصيل نعيد نشرها بتصرف محدود فى السطور التالية: أم عبدالوهاب لا تعرف حتى الآن أن ابنها فى المستشفى! إنها لا تعلم أن مجنونًا اعتدى عليه وكاد يقتله! والسيدة أم الموسيقار محمد عبدالوهاب تقيم فى مصر الجديدة مع ابنها الأكبر «الشيخ حسن» والد سعد عبدالوهاب، وتعيش على سريرها من سنوات لا تتركه أبدًا، وتعوّدت أن تسمع كل صباح صوت ابنها «محمد» فى التليفون وهو يقول لها: «صباح الخير يا والدتى.. إزاى صحتك النهار دا.. ادعى لى يا أمى». وعبدالوهاب نفسه تعوّد أن يفتح عينيه من النوم كل صباح على صورة كبيرة للسيدة والدته معلّقة فى حجرة نومه بشقته بالزمالك، وتعوّد ألا يترك حجرة النوم قبل أن يتصل بوالدته ويقول لها «صباح الخير»، ثم يسمع دعواتها له. ووقع الحادث، ونُقِل عبدالوهاب إلى مستشفى الدكتور الكاتب، ولم يسهر الشيخ حسن فى المستشفى إلى جانب شقيقه حتى يعود إلى بيته فى الموعد المعتاد، حتى لا تقلق الأم ولا تشعر بشىء، وعاد الشيخ حسن إلى بيته فى «مصر الجديدة»، وفوجئ بوالدته تسأله عن شقيقه محمد، ونظر الابن الأكبر لأولاده وقال: «حد قال لها حاجة؟»، فقالوا: «أبدًا». وجلس الابن الأكبر يقول لأمه: «محمد بخير»، ويتحدث معها فى أمور أخرى حتى نامت. وظل الرجل ساهرًا يفكر ويقول فى نفسه: «ماذا سنقول غدًا.. فى الصباح إذا لم يتمكن محمد من الاتصال بها كالعادة». وفي الصباح ترك الشيخ حسن بيته وذهب ليتصل بوالدته فى التليفون من مكان آخر.. وقال لها: «صباح الخير يا والدتى.. إزاى صحتك النهاردا.. ادعى لى يا أمى»، وهى نفس الكلمات التى يقولها لها عبدالوهاب كل صباح.. وسمع الشيخ حسن فى التليفون دعوات أمه لشقيقه محمد، وظلت الأم حتى الآن لا تعرف أن ابنها فى المستشفى، وأن مجنونًا كاد ينهى حياته دون أسباب. ◄ حجرة جديدة لعبدالوهاب وفى المستشفى، نقلوا عبدالوهاب من الحجرة رقم 45 بالدور الثالث إلى الحجرة رقم 37 فى الدور الثاني، وعلى شمال الحجرة، غرفة أخرى ازدحمت بالزائرين والزائرات.. مدام إيزابيل بيضا شريكة عبدالوهاب فى أسطوانات كايروفون، ومدام سعد عبدالوهاب، ووالدة السيدة نهلة القدسي، وزوزو ماضى، وحسن رمزى وحرمه، والمطربة شهرزاد وزوجها، والملحن السورى محسن محمد وأحمد فراج بدون صباح وناس لا يعرفهم عبدالوهاب ولا يعرفهم أحد من الموجودين.. قالوا: «جئنا نطمئن عليه»! وعلى باب الحجرة التى يرقد فيها عبدالوهاب وقف رجلان: واحد منهما (محمد عمر) خادمه الخاص، والثانى موظف فى مكتب عبدالوهاب، والاثنان مهمتهما منع دخول الزائرين وكتابة أسمائهم وجمع بطاقاتهم التى يتركونها، وعلى باب الحجرة لافتة نحاسية كتب عليها (الزيارات ممنوعة)، ورغم هذا كله دخل كثيرون ليطمئنوا على عبدالوهاب. دخل المقربون جدا لعبدالوهاب وكان «عمر» يفتح الباب مرة ليقول اسم القادم لخادمة تقف وراء الباب، ثم تعود الخادمة لتقول إن الأستاذ وافق على دخول الزائر القادم.. ويفتح «عمر» الباب ويدخل الزائر ليبقى فى الداخل أقل من دقيقة ثم يخرج فورًا.. وتعليمات الطبيب هى ألا يبقى فى الداخل أحد لفترات طويلة، وينفذ التعليمات نهلة القدسى والخادم الخاص لعبدالوهاب.. وفى حجرة الزائرين تجلس حرم سعد عبدالوهاب لترد على رنين جرس التليفون الذى لا ينقطع أبدًا ولتستقبل الزائرين وتودعهم. وجاء عبدالمنعم الصاوى وكيل وزارة الإرشاد ليطمئن على عبدالوهاب، ونفذ وكيل الوزارة تعليمات الطبيب واكتفى بأن يترك بطاقته ولم يدخل حجرة الموسيقار المصاب. ورن جرس التليفون وكتبت حرم سعد عبدالوهاب اسم المتحدث: حرم فريد زين الدين.. حرم إحسان عبدالقدوس.. فتحية أحمد. وتكررت تليفونات فتحية أحمد، كانت تسأل عن عبدالوهاب كل ساعة مرة. وجاء «محمد» الصغير، ابن محمد عبدالوهاب.. كان يجرى حتى وقف أمام الباب وهو يقول: «إزاى بابا.. فين (تنت) نهلة؟» ودفع الباب ودخل ليطمئن على والده، ثم خرج يجرى ليلحق بشقيقاته (فت فت) و(تم تم) ولتحملهم السيارة إلى بيتهم. وعرفنا أن إقبال نصّار اتصلت ببناتها من سويسرا وعرفت الخبر، وقالت إنها ستعود بعد أيام، ولم تبعث برسالة أو كلمة مع إحدى بناتها أو أولادها لزوجها السابق الذى يرقد فى المستشفى. وقالوا إن عبدالوهاب يطلب أن تعرض عليه قائمة أسماء الذين ترددوا على المستشفى لزيارته ويطلب أن يقرأ بنفسه البطاقات التى يتركها بعضهم والتى تحملها باقات الورد التى تزحم بها حجرة الزائرين والصالة التى تؤدى إلى حجرته. وقال عبدالوهاب للذين حول سريره: «أنا ماكنتش عارف إن كل الناس دول بيحبونى للدرجة دى».. والحادث نفسه ما زال يهز عبدالوهاب ويؤثر فيه. وفي أول ليلة قضاها فى المستشفى استيقظ من النوم يصرخ: «حوشوه عنى.. حوشوا المجنون». وقامت نهلة من نومها على صراخه واستدعت الطبيب الذى ناوله أقراصًا منوّمة، ثم نام عبدالوهاب وبقيت نهلة بلا نوم إلى أن تعاطت هى الأخرى الأقراص المنومة. ونهلة تقيم فى حجرة بالمستشفى إلى جانب زوجها، ورفضت أن تنام وحدها واختارت «فوزية» حرم سعد عبدالوهاب لتنام معها فى المستشفى. وقبل الظهر جاء رجل يدفع أمامه عربة طبية عليها الأدوية وآلات الطبيب، وفتح «عمر» الباب ودخلت العربة والرجل ووراءها الممرضات ونهلة القدسى، ثم جاء الدكتور الكاتب ودخل الحجرة، وأقفل «عمر» الباب بالمفتاح وجلس أمامه على الأرض. وبدأت عملية الغيار، وسالت الدماء من جروح عبدالوهاب، وصرخ وبكى من الألم، وخرج الدكتور عبدالله الكاتب ليقول: «أنا لم أر معنويات عبدالوهاب مرتفعة كما رأيتها اليوم والفضل طبعًا للناس الكثيرين الذين أحس بهم حوله بعد الحادث.. كل ما أرجوه ألا يزعجه أحد». ورأيت الخادم الخاص يفتح الباب هذه المرة دون استئذان، ثم رأيت شيخًا يتقدم نحو الباب ثم يختفى وراء الباب الذى أسرع «عمر» بإغلاقه بعد أن دخل الشيخ، وبعد قليل خرج الشيخ الوقور الذى جاء يطمئن على عبدالوهاب.. كان الشيخ هو المقرئ عبدالفتاح الشعشاعى. ◄ في حجرة عبدالوهاب ودخلت أخيرًا من الغرفة رقم 37.. فتح «عمر» الباب هذه المرة، ووراء الباب صالة وحجرة على الشمال تنام فيها نهلة، ثم حجرة عبدالوهاب، ووجدت نفسى أمامه، صورة جديدة أشاهده فيها لأول مرة، وقد تعوّدت أن أراه دائمًا يتحرك ويملأ الدنيا من حوله موسيقى وغناءً وأحاديث رقيقة، وهذه المرة وجدته غارقًا فى الضمادات وحول عينه بقع حمراء وزرقاء، ولم أحتمل أن أحملق فى وجهه كثيرًا.. وقال لى عبدالوهاب: «تصوّر مفيش فى مستشفى المجاذيب مكان لواحد مجنون زى دا فسابوه عشان يضربنى، أنا كنت حا أموت لولا ستر ربنا». وأحسست أن عبدالوهاب ما زال لا يصدق أنه نجا من الموت. ثم دخل المذيع أحمد فراج ليزور عبدالوهاب وكان قد زاره من قبل مع صباح.. وقال عبدالوهاب لفراج: «إزاى صباح.. فين هى؟». .. وبعد سيشفى الموسيقار عبدالوهاب، وسيخرج من المستشفى، وسيعود إلى بيته وحجرة نومه، وسيفتح عينيه كل صباح على صورة والدته وسيمسك التليفون مرة أخرى ليقول لها «صباح الخير» ويسمع دعواتها له.. وسيظل شقيقه الشيخ حسن يخرج من بيته فى «مصر الجديدة» كل يوم فى الصباح ليتصل بوالدته وليطلبها فى التليفون ويتحدث إليها ويمثل دور شقيقه، وستظل الأم لا تعرف شيئًا عمّا حدث لابنها «محمد»! («آخرساعة» 18 مايو 1960)