مصر «أم الدنيا» تاريخيًا.. والحديث عن «الأصول» أخذ مسارًا غير محمود البشرية الحديثة انطلقت من إفريقيا.. وبلدنا قلب الرحلة التاريخية شهدت منصات التواصل الاجتماعى فى السنوات الأخيرة، موجة من النقاشات الحادة حول أصول المصريين، وخاصة بعد الجدل الذى أثاره فيلم وثائقى أنتجته شركة «نتفليكس» حول الملكة كليوباترا، والذى لم يلتزم بالفرضيات التاريخية المقبولة فى مجتمعات علماء الآثار والتاريخ. هذا الجدل آثار أسئلة كثيرة حول الهوية المصرية وأصولها الجينية، كما صاحبه مزاعم كثيرة تتحدث عن انقراض «الأصل المصري»، ولم نجد أفضل من د. يحيى جاد، العالم الكبير المتخصص فى الوراثة الجزيئية بالمركز القومى للبحوث، للرد على التساؤلات وتفنيد المزاعم فى حوارٍ خاص مع «الأخبار». وقبل الولوج إلى الأسئلة الشائكة طلب العالم الكبير توضيح بعض المفاهيم العلمية التى تساعد كثيراً على فهم ما سيطرحه من إجاباتٍ، بداية بمفهوم الجينوم، الذى قال: إنه «كامل المادة الوراثية الموجودة فى خلايا الكائن الحي، ويحتوى على التعليمات الوراثية التى تحدد الخصائص البيولوجية للكائن»، ثم انتقل إلى تعريف «الخريطة الجينية»، والتى أوضح: أنها « تمثيل تفصيلى لمواقع الجينات المختلفة على الحمض النووى (الدى إن إيه)، وتساعد فى تحليل الفروقات الجينية بين الأفراد أو الجماعات المختلفة، وأضاف: أن «دراسة الجينوم تُعد أداة أساسية لفهم أصول الشعوب، حيث تكشف عن التفاعلات الوراثية والهجرات البشرية عبر التاريخ». وبعد هذا التمهيد المعرفى، لم ينتظر د. جاد استكمال سؤالى عن الحالة المصرية، وقفز مباشرة إلى صلب الإجابة، مشيراً إلى أن « الدراسات الجينية تُظهِر أن المصريين المعاصرين تحتوى جيناتهم على تنوع كبير، وهو أمر يعكس الموقع الجغرافى لمصر كنقطة تقاطع بين إفريقيا وآسيا وأوروبا».. وأضاف: «لطالما كانت مصر محوراً للتجارة والتبادل الثقافى وملتقى لطالبى العلم بجميع فروعه، مما جعل سكانها يتعرضون لتأثيراتٍ متعددة عبر الزمن، سواء من خلال الهجرات البشرية أو الاحتلالات الخارجية أو التزاوج مع شعوب أخرى». وحول الحديث عن تفرد جينات المصريين القدماء، وهى إحدى القضايا المحورية التى أثُيرت خلال هذا الجدل، قال: إن «الأبحاث تشير إلى أن المصريين القدماء لم يكونوا مجموعة عرقية «نقية» كما يعتقد البعض، وعلى العكس، تُظهِر التحليلات الجينية أن المصريين كانوا دائماً متنوعين جينياً، نتيجة للتفاعلات المستمرة مع الشعوب المجاورة والحضارات التى توافدت على مصر، وهذا التنوع كان سمة مميزة للهوية المصرية منذ العصور القديمة وحتى اليوم». ويرتبط بهذه القضية الحديث عما إذا كانت هناك اختلافات جينية بين المصريين القدماء والمصريين المعاصرين، وقال د. جاد فى هذا الصدد: إن « الدراسات المحدودة التى أجُريت على بعض مومياوات المصريين القدماء، كشفت عن أن هناك تشابهاً بين جيناتهم وجينات المصريين الحاليين»، مشيراً إلى أن تحليل الحمض النووى للمومياوات ، كشف عن أن المصريين الحاليين يتشاركون نسبة كبيرة من الجينات مع أسلافهم القدماء، وهذا يشير إلى أن المصريين لم يخضعوا لتغيراتٍ جذرية فى تركيبتهم الجينية على مر العصور، على الرغم من الهجرات التى شهدتها البلاد والتفاعلات مع حضارات أخرى.. ولا يعنى التشارك بنسبة كبيرة حدوث تطابق تام، حيث يؤكد د. جاد على أنه « لا يمكن إنكار أن هناك بعض الاختلافات البسيطة التى ظهرت نتيجة لتأثير الهجرات الخارجية التى مرت بها مصر على مر التاريخ، مثل: الاحتلالات الرومانية واليونانية، وكذلك الهجرات العربية خلال الفتح الإسلامي، إلا أنها تعتبر روافد جينية جديدة تُضاف الى الوعاء الجينى الكبير أو ما يمكن ان يُطلق عليه الهوية الجينية للمصريين». ويخلص د. جاد من ذلك للقول: إن «المصريين الحاليين يمثلون امتداداً طبيعياً لجذورهم القديمة، فرغم تاريخ مصر الطويل كمركز للحضارات والتفاعلات البشرية، مما جعل من سكانها مزيجاً وراثياً يعكس تلك الحضارات، إلا أنهم لم يفقدوا صلتهم بجذورهم الأصلية، ومن هنا تأتى أهمية فهم الخريطة الجينية للمصريين ودورها فى الكشف عن التفاعل الحضارى والوراثى بين المصريين والشعوب الأخرى عبر آلاف السنين». وأضاف: أنه « عند دراسة هذا التفاعل، يُلاحظ أن مصر كانت دائماً مستقطبة للهجرات والتأثيرات الخارجية، لكن تلك التأثيرات لم تكن قادرة على طمس الهوية الجينية المُميزة للمصريين، بل أضافت إلى التنوع الجينى الذى يُميزهم حتى اليوم، وهذا التنوع ليس مجرد انعكاس للتاريخ، بل يمثل القوة الجينية التى جعلت المصريين قادرين على التكيف مع التغيرات البيئية والثقافية على مر العصور». وبعد هذا التأصيل العلمى والتاريخي، تحدث د. جاد بنبرة بدت مرتفعة بما يعكس غيرته على حضارته المصرية، عندما سُئل عن الجدل القائم عن أصول المصريين،حيث قال: «هذا الموضوع أخذ مساراً غير محمود وكأننا شعب يعانى من أزمة فى الهوية القومية، ولا يليق بنا كمصريين ونحن أبناء حضارة عريقة احتضنت الأديان السماوية والتيارات الفكرية البشرية الكبرى والشعوب مختلفة الأعراق، أن ننزلق إلى منحدر التعصب الوطنى أوالادعاء بنقاء العنصر أو التعالى على مجموعاتٍ بشرية شقيقة أخرى، فنحن أبناء هذه الأرض الطيبة التى شهدت حضارة عظيمة على مدار آلاف من السنين احتضنت خلالها كل أجناس البشر، مما أهلها لأن يُطلق عليها أم الدنيا». ومن التلميح إلى التصريح اختتم حديثه قائلاً: « من الناحية الجينية، البشر جميعاً ينحدرون من إفريقيا، ومن المُتفق عليه علمياً أن الإنسان الحديث خرج من إفريقيا منذ مئات الآلاف من السنين ليستوطن باقى القارات، والعديد من النظريات تشير إلى أن مصر فى قلب هذه الرحلة التاريخية، حيث كانت نقطة مرور رئيسية فى هذه الهجرات التاريخية، مما يوضح ارتباط مصر بقارتها الإفريقية».