محمد عبد النبى هذا العام تَحوَّلت رواية اللص والكلاب إلى وسيط فني حديث يقترب من عالَم نجيب محفوظ لأوَّل مرة؛ وهو الرواية المصوّرة أو Graphic Novel، ما يَعدُ بجذب جمهورٍ من نوع مختلف إلى عالَم محفوظ. قد لا تكون هذه هي الرواية المُصوَّرة الأولى في سوق الكتاب المصري، فقد أصدرت دار الشروق، في سنة 2009، رواية المحاكمة لكافكا، في صيغة جرافيك نوفل، برسوم لا تُنسَى لشانتال مونتلييه، وإعداد النص ديفيد زين ميروفيتز، بعد ترجمتها على يد فادي عوض. ثم أتت مِن بعدها تجربة شحاذون نبلاء، سنة 2018، عن رواية الروائي المصري الفرانكفوني ألبير قصيري، ولرسَّام الكومكس الفرنسي المعروف جولو، وصدرت عن مطبوعات الفن التاسع، بترجمة للعربية د. منى صبري. لكنَّ اللص والكلاب، في حدود معرفتي، هي أوَّل نَص أدبي مصري مكتوب باللغة العربية يتم تحويله كاملًا إلى رواية مصوَّرة وتصدر في كتاب منفصل، بمشاركة جهات وفنانين مصريين تمامًا، لذلك وجبت التحية لهم جميعًا، ولسياق كامل متواصل خرجَ هذا العمل كثمرة طبيعية له، في تطوير الكومكس والروايات المصوَّرة في مصر منذ نحو عشر سنوات، سواء بمجهودات فنانين مستقلين أو مشاريع جماعية وإصدارات دورية، أو مهرجانات تحتفي به وجوائز مخصصه لصنَّاعه. صَدَرت الرواية المُصوَّرة بالتعاون بين أكثر من جهة؛ أولًا الناشر الأساسي الذي يملك حقوق أعمال محفوظ في الوقت الراهن وهي دار ديوان، إلى جانب دار المحروسة التي تبنَّت منذ فترة مشروعًا لتحويل بعض كُتب محفوظ الأدبية إلى كُتب مصوّرة، بالتعاون بينهما وبين الفنان البصري والمُصمم ميجو (محمد علاء)، وهو على ما يبدو رأس الحربة في هذا المشروع، وصاحب الفكرة الأساسية، بغير تقليل من دور جميع شركائه الفنانين: الرسَّام الشريك معه جمال قبطان، وكاتب سيناريو هذه الرواية محمد إسماعيل أمين، وشاركَ الرسَّامَين في التحبير حسين محمد، ورسمت الخطوط مها عيداروس، وصمم العنوان علي جلال وجرافيك: ريهام السيد. وربما لو كان محفوظ حيًّا يُرزق حتَّى الآن، لربما شاركَ فيها بالنُصح والتشجيع، كما عبَّر ميجو عن الأمر في لقاءٍ معه. منذ أكثر من عشر سنوات حتَّى الآن، ظلَّ يراود ميجو حلم تحويل روايات محفوظ إلى كوميكس، وبدأ فعلًا بالعمل على رواية أولاد حارتنا، وظهرَ جزءٌ يسيرٌ منها في مجلة توكتوك (المتخصصة في القصص المصورة)، قبل نحو عشرة أعوام، لكنَّ المشروع تعثر فترةً ثمَّ انتعشَ من جديد، وكانت باكورة أعمال مشروع نجيب محفوظ، هي روايته اللص والكلاب، ولم يزل العمل جاريًا على ميرامار (بحسب ما فهمت) وبالطبع المشروع الملحمي الضخم أولاد حارتنا، تليهما أعمالٌ أخرى مختارة. قد يشعرُ المرء في بعض الأحيان مع تَصفحه للكتاب المُصوّر، وتعرّفه على الشخصيات، أنَّ فيلم كمال الشيخ يلوح في الخلفية، ولو بدرجة خفيضة للغاية. مثلًا، شخصية عليش بحسب وصف محفوظ لها، بعد خروج سعيد مهران من السجن: «ودخلَ عليش سدرة في جلباب فضفاض منتفخ حول جسم برميلي، رافعًا وجهًا مستديرًا ممتلئ اللغد...»، بينما يبدو عليش في الكتاب نحيلًا بوجه كوجوه الذئاب، في صورة تُذكّر بالممثل زين العشماوي الذي لعبَ دوره في الفيلم. حتى شخصية رؤوف علوان، ورغم محاولة إبراز وجهه المستدير الممتليء وأنفه الأفطس قليلًا، فَمِن الصَعب عدم استحضار كمال الشناوي عند النظر إليه، خصوصًا مع شاربه الرفيع المُنمق. لكن حتَّى شكري سرحان في الفيلم لم يكن بجسمه المربَّع المتين فيه أدنى شبه بسعيد مهران في رواية محفوظ؛ سعيد الرشيق مثل القِردة والقادر على القفز من الطابق الثالث للأرض دون أن يصاب بسوء، والذي عمل فترة بهلوانًا في سيرك جوَّال. لعلَّ هذه فرصة مواتية للتفكير في توالُد الصُور عن بعضها البعض، نفكر أولًا بشأن الصور الفوتوغرافية الأصلية للسفَّاح محمود أمين سليمان، عند ظهورها لأوَّل مرة في الصحف، بنظرته الذكية الجريئة واستفزازه للاستقرار المجتمعي ولخطاب السادة وأصحاب السلطة. وكيف ترجمَ نجيب محفوظ وجهه ونظرته وأفعاله إلى خطاب أدبي متماسك ينتصر للسفَّاح بقدر ما يدينه ويكشف اختياله بنفسه وانتشائه بنظرات الإعجاب والتقديس ممَّن حوله، في مزيج مِن الضحية والجلَّاد. قدَّمت هذه الرواية المُصوّرة رؤيتها البصرية المتميزة لرواية اللص والكلاب، عبرَ تَرجمتها لبعض المعاني المتضمَّنة في النص بشكل مشهدي وبصري، كما في الكادر الذي يبدو فيه منزل الشيخ علي الجنيدي مفتوحًا على السماء تتداخل تحت سقفه السُحب وكأنه صارَ قِطعةً منها، مع الوضع في الاعتبار رمزية الشيخ ومنزله في حياة اللص سعيد مهران، ملاذًا روحيًا ولَمحة مِن ماضيه البريء حيث ليالي الذِكر والإنشاد وخيالات الجنَّة. كما وجدَ رسَّامو العمل فرصة ثمينة أخرى في المشاهد ذات الطبيعة الحُلمية والفانتازية، مثل الكوابيس التي رآها سعيد مهران في نومته القلقة بعد جريمته الأولى، والحوار العَبثي الذي دار في حلمه بينه وبين الشيخ علي الجنيدي. رسم مشاهد الحُلم جمال قبطان. هذه إحدى نقاط قُوّة الروايات المُصوَّرة؛ أي قدرتها على تجسيد أشد الخيالات الأدبية جموحًا، في صُور وكادرات مُتحررة من قوانين المنطق وقيود الواقع، والتي لا تحتاج إلى ميزانيات ضخمة أو تقنيات معقَّدة شأن صناعة السينما. لكنَّ نقطة ضعفها المفهومة هو انصرافها عن قدرٍ كبير من التأمُّلات الباطنية للشخصيات، واكتفائها منها بأقل القليل، وهو المنعطف الذي تبتعد فيه عن الأدب بطبيعة الحال. ساعد فريقَ الشباب في إعداد خريطة محفوظ كلٌ من الناقد الأدبي الكبير د. حسين حمودة والكاتبة والمعمارية المتخصصة في الحضارة الإسلامية د. رضوى زكي، وأعدَّها الكاتب وصانع الكومكس محمد سرساوي وهاجر المهدوي، والخريطة ببساطة كأنها صورة جانبية لنجيب محفوظ، تحوي قطعًا من لغز، بعضها موجود وبعضها لم يظهر بعد، كوسيلة بالأساس لربط الجمهور بسلسلة الأعمال وعالَم محفوظ المصوَّر. لم تزل تجربة أعمال نجيب محفوظ المُصوَّرة في بدايتها، ولم نزل ننتظر أعمالًا أخرى ستصدر قريبًا هي الآن قيد التحرير والنشر، ثم بقية المختارات، ننتظر أن ينفخ هؤلاء المبدعين الشباب من نفوسهم الفتية ورؤيتهم المغايرة في روائع نجيب محفوظ روحًا جديدة ويمنحونها حياة أخرى موازية. لذلك تحديدًا نتمنى أن يتحرّوا مزيدًا مِن الدِقة والحِرص في صياغة النص وتركيبه على الصور، وأن ينطلقوا وراء خيالهم بجموح وبلا قيد، في استكشاف آفاقٍ جديد لعالَم محفوظ المترامي حتَّى لَيبدو كأنَّه بلا نهاية.