يُخطئ مَن يعتقد أن محاولات تمزيق الشرق الأوسط إلى دويلات صغيرة والتخطيط لإسقاط دولها المركزية وإعادة رسم خرائطها قد توقفت. ما نراه أمامنا اليوم فى سوريا مرتبطٌ بشكل وثيق بأحداث 2011 وقبلها سقوط بغداد 2003، وكأن المطلوب من هذه المنطقة أن تعيش متوالية من التشظى والفوضى، تنطفئ نار لتشتعل أخرى جديدة على الأرض العربية، القاسم المشترك فى كل ذلك هما طرفان على ارتباط وثيق بالنشأة والتنسيق، الأول هو إسرائيل بما تُمثله من تجسيدٍ لمفاهيم الاحتلال والاستعمار، أما الطرف الثانى فيتمثل فى تنظيم الإخوان الإرهابى المادة الخام للشر المستدام، كلاهما يبحثان عن توظيف حالة الفوضى وتمدد جماعات الإرهاب للتمكين وتدمير من يقف أمام مشروعهما الاستعمارى. لم ينتهِ المشروع التدميرى بعد، وواهمٌ من يتصور أن الاتفاق مع الميليشيات أو الارتكان إلى الهدوء فى وجود تنظيم إرهابى مثل الإخوان - أيًا كان مسماه - قد يفضى إلى استقرارٍ، حتى لو كان هشًا، الإخوان لا عهد لهم، فهم المادة الخام للخيانة والعمالة لقوى الاستعمار، أينما حل التنظيم خرجت الدولة الوطنية ولم تعد. ثنائية الاحتلال أو الإسقاط من الداخل تهدد دول الطوق العربى، وتنظيم الإخوان وتفريعاته الإرهابية هو ذراع إسرائيل لتدمير ما تبقى من دعم عربى للدولة الفلسطينية، تأمَّل خريطة الشرق الأوسط الآن، ثم فكَّر قليلًا واسأل نفسك: ما الذى تبقى من مفهوم الدولة الوطنية، وهل جاءت الميليشيات المسلحة بالديمقراطية، أم أنها فتحت الباب أمام ضياع ما تبقى من استقلال وسيادة للدولة العربية بعد تحررها من الاستعمار. إما دولة أو لا دولة.. تلك هى المسألة لحماية الإنسان والمحافظة على حقه فى الحياة، وذلك فى منطقة دموية اعتادت على أصوات المدافع وزخات الرصاص. لم يتبقَ سوى مصر.. أيقونة الدولة الوطنية بحسب المفهوم الذى استقر عليه العالم عقب معاهدة وستفاليا عام 1648، التى رسَّخت لمفهوم الدولة ذات السيادة الوطنية المطلقة داخل حدودها، وامتلاكها لسلطة صُنع القرارات دون تدخل خارجى، فى وجود سلطات تخضع للدستور والقانون، وتعمل لخدمة شعب يُقدس انتماءه للتراب الوطنى. لم تتوقف عواصف الإقليم منذ بداية الألفية الجديدة، دفع الشرق الأوسط ثمن إسقاط البرجين فى نيويورك، ثم زلزال سقوط بغداد، وظهور مفهوم الفوضى الخلّاقة لصناعة شرق أوسط جديد، يتحكم فيه الإخوان، فى ظل خلافة إسلامية مزعومة بمفهوم العصور الوسطى، باركتها إدارة الرئيس الأمريكى باراك أوباما، وانتهت بقطع داعش وجبهة النصرة للرؤوس، التنظيمات المتطرفة لا تعرف سوى لغة القتل، ولا تعترف بالديمقراطية أو بدولة وطنية تخضع لدستور وقانون. مثلما اتفق الغرب على إبعاد اليهود واختار فلسطين وطنًا لهم بوعد بلفور، اتفق الغرب أيضًا على تدليل تنظيم الإخوان ليأمن شره، ولاستخدامه فى الوصول إلى مصالحه، ثم استخدمته إسرائيل لتنفيذ مخططها التوسعى، نتنياهو هدَّد الرئيس بشار الأسد، وفى اليوم التالى هاجمت جبهة النصرة حلب واحتلتها، لا مكان للمصادفة فى الشرق الأوسط. هناك مصلحة غربية إسرائيلية فى التخلص من سوريا باعتبارها داعمًا رئيسيًا للقضية الفلسطينية، الاستقرار الهش فى سوريا ومحاولة التعايش مع وجود ميليشيات إخوانية لديها ولاءات أخرى أثبت فشلة للمرة المليون، وانقلب الإخوان على تعهداتهم، بعدما صدرت لهم الأوامر بالتحرك، وتوفرت لهم الموارد والعتاد والموافقة الغربية الضمنية. فى نفس اليوم سعى الإخوان المتربصون بمصر إلى إثارة الرأى العام، وذلك بفيديو مفبرك لاقتحام مزعوم لمقابر بإحدى مناطق القاهرة، وقامت منصاتهم بإخفاء جرائم جبهة النصرة فى حلب تحت أكوام من الفيديوهات المفبركة والبوستات الرابطة بين مصيرى مصر وسوريا، والقصد واضح، وهو إرباك آخر دولة وطنية قوية و قادرة فى المنطقة. لقد قاومت مصر محاولات الإرباك المستمرة منذ أكثر من 10 سنوات، قرأت السيناريو مبكرًا، وصارحت الشعب بكل التفاصيل، أتذكر جيدًا حملات انتقاد استهدفت تسليح القوات المسلحة، وكان السؤال: لماذا تتسلح مصر؟! حتى اتضحت التحديات مع اقتراب النار من حدود مصر، فى السودان وليبيا وغزة والشمال، حيث ثروات مصر فى مياهها الاقتصادية، تسلحت مصر حتى تكون قادرة على مواجهة تحديات المستقبل. كان استشراف مصر المبكر هو طوق النجاة اليوم، المخطط موضوع على الطاولة، وتنفيذه يجرى بوتيرة متصاعدة، التوسع الإسرائيلى يمتطى الجرافة الإخوانية، من يقف ضد المخطط يتم دعسه من الداخل بإشعال الأوضاع الداخلية والحصار الاقتصادى والهجوم المتواصل عبر منصات إعلامية مقيمة فى الغرب، ولا أحد يسأل عن مصادر تمويلها، ولا من يقف وراءها، وما هى مصلحته، والإجابة معروفة.. تنظيم الشر المستدام لا يُريد مصر قوية وقادرة. أصرت مصر على مكافحة الإرهاب واستئصال ميليشيات الإخوان الإرهابية من كامل التراب الوطنى، وحققت انتصارًا فريدًا على الإرهاب، وكانت تلك هى الخطوة الأولى على طريق تثبيت الدولة الوطنية. ثم حافظت مصر على مفهوم السيادة، برفض أى تدخل خارجى فى قراراتها، واختبرت ذلك برفضها العلنى لسيناريوهات التهجير القسرى لأهالى غزة نحو سيناء، بهدف حماية أمنها القومى وقطع الطريق أمام محاولات تصفية القضية الفلسطينية. رفضت مصر الانزلاق والتورط فى الصراعات الإقليمية المختلفة، وقررت بشرف وفروسية فريدة أن تلعب دور وسيط السلام فقط، وأن تفتح أبوابها أمام الفارين من جحيم الصراعات المسلحة، لتكون وبحق عاصمة الأمان فى الشرق الأوسط. التزم الرئيس عبد الفتاح السيسى بمنهج الصراحة، وفرض على الحكومة الشفافية فى إطلاع الشعب على ما تواجهه الدولة من تحديات وضغوط، وشرح المخاطر المحيطة وتأثيرها المباشر على مصر، وتعاملت مصر مع الضغوط الاقتصادية بمرونة، وسعت لتلبية الاحتياجات الاجتماعية للمواطنين بشتى الطرق، سواء من خلال العمل على توفير بدائل للسلع المستوردة التى يمكن إنتاجها محليًا، وأبرز نموذج هو عودة مصانع النصر للسيارات للعمل، والتركيز على حزم المساعدات والحماية الاجتماعية للفئات المستحقة، بما يساعدها على تحمل تبعات سياسات الإصلاح الاقتصادى، والانطلاق فى المشروعات الخدمية، مثل «حياة كريمة» والذى استفاد من مرحلته الأولى أكثر من 18 مليون مواطن. ألزمت مصر نفسها بأن تكون أيقونة الدولة الوطنية، ونموذجًا لدولة التنمية المستدامة، لقد كانت الدولة المصرية واعية لنماذج الدول التى غابت عنها التنمية، وكيف تحولت إلى دول فاشلة، لأنها لم تُحقق لشعبها جودة الحياة المأمولة. فى ظل الصراعات الدموية التى فجَّرت الإقليم أصبح نموذج الدولة الوطنية مرادفًا واحدًا ووحيدًا للأمن والاستقرار، وعلى الشعوب أن تُراقب ما يدور حولها بعمق، وأن تزن الأمور بميزان من ذهب، فالدول حينما تسقط لا تعود.