حوار: خابيير أوراس ترجمة: مها عبد الرءوف ثمة كُتّاب يبدو أنهم لا يهتمون كثيرًا بالتصنيفات الفكرية أو العلاقات بين الأجيال. إنهم يخطون مسارات خاصة بهم ولا يتوافقون جيدًا مع رفاق الطريق المفترضين. إدواردو ميندوثا روائى ذو مسيرة خاصة، وأسلوب مميز وطبيعة متفردة، إذ تكشف سيرته الذاتية عن مسار فريد بدأ بتعليم دينى غير تقليدي، ثم قاده إلى دراسة القانون، ليصبح مترجمًا فى الأممالمتحدة وينتهى به المطاف ككاتب، وهى مهنة دخلها عن حب، ولكن بدون تطلعات للبقاء لعقود طويلة. أما أعماله، فهى كما يشير بعض النقاد، فإنها تترك القارئ أمام مكتبة ذات وجهين. فمن ناحية تبدو أنها أعمال جادة بعمق، ومن ناحية أخرى، هى روايات تحمل حسًا فكاهيًا، كما أنها فى جوهرها مشبّعة بنظرة حكيمة للعالم، ربما لأن من تلك الزاوية فقط، زاوية السخرية والابتسامة، يمكن كشف جميع جوانب الإنسان، حتى تلك التى لا يمكن تسميتها. كان مندوثا أعلن أنه سيعتزل الكتابة، وسيترك كل شيء، لكنه بقي، بل وخرج لنا هذا العام برواية جديدة هى «ثلاثة ألغاز للمنظمة»، وهى حبكة ذكية من الأحداث والشخصيات التى تستحضر روايات الجاسوسية القديمة. قلت إنك ستتوقف عن الكتابة ولكن ها أنت تعود برواية جديدة.. (يضحك) نعم، نعم، أعتقد أن كل شيء له علاقة بالسبب والنتيجة. لو لم أقل شيئًا، ربما لم أكن لأعود إلى الكتابة أبدًا. عندما أدليت بهذا التصريح، وكان صادقًا، كنت مقتنعا بأنه على التوقف عن الكتابة، لأننى كنت قد نشرت الكثير من الكتب، ولأن ثمة لحظة يواجه فيها الكاتب خطر تكرار نفسه، ويبدأ الناس فى ملاحظة الحيل. باختصار، من الأفضل للكاتب أن يتقاعد فى الوقت المناسب، كما يفعل لاعبو كرة القدم ومصارعو الثيران. وماذا حدث إذن؟ الحقيقة أنه ما إن اعترفت بذلك، سألت نفسي: «وماذا سأفعل الآن خلال الأربع والعشرين ساعة من بقية الأيام التى سأعيشها؟» ليس لأننى أفتقر إلى الهوايات، لا تسئ فهمي، لكن بالطبع بدأت أتخيل بقية حياتى أشاهد المسلسلات التلفزيونية وأتحدث عن كرة القدم مع الأصدقاء... وعندما فكرت فى هذا المستقبل، بدأت فورا فى كتابة رواية أخرى. فورا، وبحماس أكبر من أى وقت مضى. (يضحك) كتبت بحماس لا يُصدق. كتبت بنفس الحماسة التى كانت لدى عندما كنت مراهقًا وأرغب فى كتابة روايتى الأولى، إلا أننى الآن فعلت ذلك لأننى لم أرغب فى التوقف عن الكتابة. وهل تكتب بشكل أفضل عندما لا ينتظر منك الناس رواية؟ الحقيقة أنى فى هذه الحالة أكون أكثر حرية فى الكتابة، أعترف بذلك. الكتابة تصبح أسهل بدون ضغط، نعم، هذا صحيح. فى الواقع، لم يكن لدى أى فكرة، ولم أكن أتعامل مع أى أفكار. هكذا بدأت، من أجل المتعة، لملء الساعات، وبمرور الوقت بدأت أتحمس لما كنت أفعله. وعندما انتهيت من الكتابة، التى أنهيتها بسرعة كبيرة، شعرت بخيبة أمل شديدة، لأننى فى نهاية الكتاب وجدت نفسى أواجه نفس المشكلة التى كانت لدى عندما بدأت: «وماذا سأفعل الآن؟». الحقيقة أن هذا الكتاب يحقق نجاحا كبيرًا، والمدهش أنه مر بنفس ما مر به كتاب آخر كتبته فى ظروف متشابهة «لا أخبار من جرب» وكتبته لصحيفة الباييس لنشره فى صفحات الصيف فى أغسطس. حينها فكرت: هذا الكتاب لن يقرأه أحد، وإذا قرأوه، سيقرؤونه على الشاطئ، مع الحبار والبيرة، لذا كانت لدى حرية أن أفعل ما أشاء». وها أنت ترى: بعد ثلاثين عامًا، لا يزال هذا الكتاب أكثر ما أوقّع عليه للقراء. دعنى أقول لك شيئًا. فى الفترة الأخيرة التقيت بالعديد من الكتاب الذين أبدوا الرغبة فى ترك الكتابة، مثل جون بانفيل الذى قابلته قبل عام وها هو يعود بكتاب جديد، حتى أننى بت أفكر فى أن الأمر أصبح استراتيجية. (يضحك). أنا أيضا أظن أنها استراتيجية. الأمر واضح، ولكنها ليست استراتيجية تجارية، بل أنها استراتيجية نفسية. هناك فرق كبير بين ما يظن المرء أن عليه فعله وبين ما سيفعله بعد ذلك. إذا فعل المرء ما يعتقد أنه يجب عليه فعله، فإنه بلا شك سيخطئ. أول ما يجب فعله هو ألا يبدأ بالكتابة أبدًا، ولكن بعد ذلك، إذا بدأ، فعليه أن يتوقف فورا. هذه أمور يفكر فيها المرء دائمًا. فى الحقيقة، أنا شخصيًا لم أكن أتصور أبدًا أننى سأصنع مسيرة أدبية، خاصة عندما بدأت. لم أعتقد أبدًا أننى قد أتمكن من ذلك. لا؟ على الإطلاق. أولًا لأنه فى تلك الفترة لم يكن هناك ما يسمى «بالمسيرة الأدبية» أصلًا؛ لم يكن ثمة أى كاتب يكسب قوت يومه من الكتب. كنا جميع نعمل فى الصحافة وبعضنا فى وظائف حكومية أو فى شركات. الكُتّاب الذين كنت أعرفهم فى تلك الفترة لم يكونوا يبيعون سوى عددًا قليلًا جدًا من النسخ. عندئذ فكرت فى الأمر وتقبلت فكرة أننى أحب الكتابة، ولكن قلت لنفسي: «سأمارس الكتابة، ولكن على البحث عن عمل أكسب منه قوت يومى وفى أوقات فراغى أتفرغ للكتابة». وعندئذ أصبحت مترجمًا؟ نعم، لكننى درست القانون أولًا لأن ذلك كان ما يجب فعله فى ذلك الوقت. كان يجب الذهاب إلى الجامعة. انظر، الذين لم يكن لديهم أى ميول للعمل فى أى مجال، كانوا يذهبون إلى كلية الحقوق. هناك كان يجتمع الناس، كانوا يقولون إن كلية الحقوق فى برشلونة مقهى تحيط به قاعات دراسية شبه فارغة. مقهى مفتوح طوال الوقت، مليئا بالناس الذين يتحدثون بلا توقف ويريدون أن يصبحوا مخرجين سينمائيين، مغنين، راقصين. كل شيء إلا أن يكونوا محامين. ومع ذلك، كنا ندرس القانون لأنه كان تخصصًا يوفر لنا وظيفة. وهذا ما فعلته. ثم جاءتنى الفرصة لإجراء امتحان للعمل كمترجم فى الأممالمتحدة، فقمت بذلك. انتقلت إلى نيويورك، وهذه كانت رغبتي. عشت هناك لمدة 11 عامًا. ثم واصلت العمل كمترجم للأمم المتحدة بشكل مستقل فى جنيف وفيينا، حتى قررت أنى كسبت ما يكفي. فى كتابك، تقول إحدى الشخصيات إننا «نحمل الماضى معنا». ما الجزء من ماضيك الذى تحمله معك؟ هل هى مثلاً التربية الدينية التى تلقيتها؟ أعتقد أن التعليم الذى تلقيته كان جيدًا من بعض النواحي، لأن التعليم القائم على الحفظ والثقافة الرفيعة الذى كان موجودا فى الماضى كان جيدًا جدًا. الانضباط الذى كانوا يغرسونه أيضًا، ولكن فى المقابل، ثمة ما يتعلق بالشعور بالذنب والمسؤولية، مثل عدم رمى حتى ورقة صغيرة على الأرض، أو التنازل دائما عن المقعد –الآن عندما أركب الحافلة أجد نفسى أتنازل عن مقعدى لأشخاص أصغر منى وأصحاء أكثر مني– لا أدري. هذا الإحساس بالتضحية، بأنك دائما مخطئ وتتحمل الذنب عن كل شيء، وأن ملاكك الحارس الذى من المفترض أن يحميك، هو فى الواقع يقوم بتدوين كل شيء سيئ تفعله ليأتى العقاب لاحقا، هذا بصراحة لا يمكنك التخلص منه. تقول شخصية أخرى فى روايتك إن الأبطال الخارقين هم أبطال لأنهم يعرفون روح الفريق، على عكس البشر. هل حقًا هذا ما يميزهم عنا، أننا أقل طموحًا فى تضامننا؟ بالطبع، يمكنهم السماح بذلك فهم يقولون لأنفسهم: «لنرى من يستطيع إزعاجي». لذا، يمكنهم أن يكونوا كرماء للغاية. الإنسان لا يعرف أبدًا من قد يأخذ منه الكرسي، أو الحبيبة، أو العمل، ليس لديه فكرة، ولكن البطل الخارق، لا أحد يستطيع أن يأخذ أى شيء من باتمان. هذا موضوع آخر لطالما أضحكني. الأبطال الخارقون هم أحد المواضيع المتكررة لدي. الآن ثمة تضخم هائل فى عدد الأبطال الخارقين، وثمة أفلام تحتوى على 7 أو 8 منهم. أعتقد أن البطل الخارق الذى يرتدى هذه الملابس هو بطل، من بين أمور أخرى، لأنه يجرؤ على الخروج بهذا الزي. أعتقد أن هذه هى بطولته الرئيسية. دائما ما أضحكونى بسبب ذلك، لأنهم عادة ما يكونون أغبياء جدا. إحدى خصائص الأبطال الخارقين هى أنهم أغبياء جدًا. سوبرمان هو الرجل الأكثر غباء فى العالم. هل تعتقد أن الفكاهة يمكن أن تتجرأ على قول أشياء عن الإنسان لا يمكن قولها بالجدية؟ الفكاهة لها عدة جوانب. أحدها النكتة والملاحظة الطريفة، التى يجب أن تكون موجودة وهى جميلة لأن الجميع يحبها. كثيرون عندما يتحدثون عن دون كيخوتيه يؤكدون أن الفكاهة فيها ضعيفة لأنها تعتمد على الضربات أى أنها نوع من الفكاهة الجسدية. لكن الفكاهة الجيدة فى دون كيخوتيه تكمن فى النظرة التى يلقيها على كل ما يوجد من حوله: الشرف، الفروسية، إسبانيا، المؤسسات، الرجال والنساء. هذه هى الفكاهة العظيمة التى يملكها. وأعتقد أن هذه هى الفكاهة التى تسمح بقول كثير من الأشياء لا تسمح بها الجدية بنفس القدر.