لا تنفصل أسواق النشر عن التغيرات الاجتماعية والسياسية في مجتمعاتها، بل توجد في القلب منها وتتأثر بها سلبًا وإيجابًا، وكثيرًا ما يحدث هذا على نحو غير متوقع، فمن المعلوم مثلًا أن الفترة الرئاسية الأولى لدونالد ترامب (2016 : 2020) شهدت مبيعات استثنائية للكتب السياسية وكذلك لروايات الديستوبيا لدرجة تحولت معها روايات مثل «حكاية الجارية» لمارجريت آتوود و«1984» لجورج أورويل إلى صرعة رائجة يرى فيها الأمريكيون أنفسهم ومجتمعهم، ولا ينظرون إليها كأمر بعيد الاحتمال. وخلال فترة انتشار وباء كوفيد-19، اختبرنا جميعًا تأثيراته السلبية على صناعة النشر في العالم كله، وكيف تسبب في إلغاء معظم معارض الكتب الدولية وأجبر كثيرًا من الناشرين على وقف أنشطتهم وأُغلقت المكتبات في فترات الحظر الكلي، لكنّ قطاعًا بعينه من النشر تأثر أكثر من غيره، وأقصد به النشر المتخصص في السفر والرحلات، وهو لا يعني فقط أدب الرحلات بمعناه المنتشر لدينا، إنما يمتد ليشمل كل ما يخص السفر والارتحال والبلدان الأجنبية. ففي الغرب، وربما معظم أجزاء العالم، هناك دور نشر متخصصة حصرًا في الكتب المتعلقة بالسفر؛ إذ تنشر أدب رحلات وكتيبات إرشادية عن مدن العالم المختلفة وأهم معالمها السياحية، وكيفية زيارة هذه المعالم في أقصر وقت ممكن. ثمة مثلًا كتب عن كيفية الإلمام بأهم ما في باريس أو لندن مثلًا في يوم أو يومين، وكتب أخرى مخصصة لهواة السياحة الرياضية أو الثقافية أو المهتمين بالمطابخ المحلية في البلاد التي يزورونها وهكذا. وتُجدَّد هذه الكتيبات الإرشادية دوريًا كي تواكب التغيرات المتتالية في المدن المختلفة. ومع اجتياح كوفيد-19 العالم من شرقه إلى غربه وتوقف حركة السفر العالمية إلّا في أضيق الحدود، توقف الناس عن اقتناء هذا النوع من الكتيبات وتضررت دور النشر المتخصصة في نشرها تضررًا لم يُحجِّم منه سوى إقبال القراء على قراءة أدب الرحلات التقليدي، الذي يسرد لهم تجارب كُتَّابه في بلاد بعيدة، تعويضًا لهم عن حرمانهم من السفر. حاولت هذه الدور تقليل خسائرها بالتركيز على إصدار كتيبات سياحية عن المدن المحلية في الدول التي تنتمي إليها، كما ركز بعضها على نشر كتب تتناول كيفية السفر مع اتخاذ كافة الاحترازات الصحية اللازمة، أو تلفت النظر إلى أهمية الوعي بالبيئة المحيطة وكيفية رؤيتها بعين جديدة سواء في أماكننا الأصلية أو تلك الأماكن التي نسافر إليها. ورغم افتقار أسواق النشر العربية إلى الإحصاءات الدقيقة، يمكننا ملاحظة أن القراء العرب قد تزايد اهتمامهم، خلال العام الأخير بالكتب التي تتناول الصراع العربي الإسرائيلي وتتمحور حول القضية الفلسطينية منذ بدايتها حتى اللحظة الراهنة. وهناك ناشرون يجيدون الاستفادة من الاهتمام المرتبط بقضايا وتحولات معينة، ويمدون القراء الشغوفين بعناوين مهمة تلبي احتياجاتهم الفكرية، لكن في المقابل قد يؤدي الاهتمام الطارئ بموضوع ما إلى فورة من كتابات استعجالية هدفها الأساسي استغلال حدث ما من أجل الربح المادي دون تقديم الفائدة الثقافية المرجوة للقارئ. على هذا النحو يمكن أن نعتبر أسواق النشر مرآة تنعكس عليها أحوال مجتمعها ومتغيراته. لذا من المهم أن تنتبه دور النشر المصرية لتلك المتغيرات كى تنجح فى تلبية احتياجات القراء المترتبة عليها.