عنوان هذه المقالة التى بين يديك هو نفسه عنوان الرواية الفائزة بجائزة بوكر العربية هذا العام للكاتب الأردنى الفلسطينى الأصل إبراهيم نصر الله. حرب الكلب الثانية صدرت طبعتها الأولى فى بيروت عام 2016 عن الدار العربية للعلوم ناشرون, وفى مارس من هذا العام صدرت عن دار تنمية طبعة من الرواية خاصة بجمهورية مصر العربية, ويتصادف أن اليوم الجمعة 23 نوفمبر الذى تقرأ فيه هذه السطور يقوم إبراهيم نصر الله بالتوقيع على الطبعة المصرية من روايته فى حفل بمكتبة تنمية (هدى شعراوى, وسط البلد, القاهرة). الرواية هى السادسة ضمن مشروع إبداعى للكاتب أطلق صاحبه عليه اسم «الشرفات» وبدأه عام 2005 بصدور روايته شرفة الهذيان, ويتناول الحاضر العربى من منظور فانتازى سيريالى عبثى. وهو مشروعه الروائى الكبير الثانى؛ إذ هناك آخر مواز لسلسلة الشرفات, وهو الملهاة الفلسطينية الذى يتناول 250 عاماً من التاريخ الفلسطينى الحديث من منظور كوميدى سوداوى, وأصدر إبراهيم نصر الله فى إطاره حتى الآن سبع روايات. تنتمى حرب الكلب الثانية لنوع أدبى سبق أن تناولنا أحد نماذجه أخيرا وهو الديستوبيا أو أدب المدينة غير الفاضلة, الذى يقدم رؤية تشاؤمية للمستقبل بناءً على قراءة للحاضر تلمح إرهاصات لتلك المدينة الكابوسية الفاسدة التى يصورها العمل. وأشهر نماذج هذا النوع الأدبى رواية 1984 لجورج أورويل التى كتبها عام 1949. وقد تناولنا فى هذه المساحة الشهر الماضى نموذجاً آخر ينتمى للديستوبيا, وهو رواية قصة الخادمة لمارجريت آتوود. أما فى هذا النموذج الثالث، حرب الكلب الثانية الشرفة السادسة فى سلسلة شرفات إبراهيم نصر الله التى نطل منها لنتأمل ما يحدث للإنسان العربىّ ونستشرف ما سيحدث فالصورة تجريدية؛ لا تصف مكاناً معيناً من العالم أو زمناً محدداً, بل تصّور مستقبلاً تفاقم فيه فساد البيئة وتلوثها فى الكرة الأرضية بأسرها إلى حد أن كلمة عفن صارت مرادفاً لكلمة هواء, وجثث الطيور تتساقط طوال الوقت على الشوارع كالمطر الاستوائىّ, وزرقة السماء وقرص الشمس من ذكريات كبار السن, والنهار خمس ساعات فقط, والعتمة لها كثافة الجدران, وفصول السنة تداخلت واختلطت, والحياة النباتية اختفت أو تقزمت, ويستعيض الناس عنها بمستنسخات للفواكه والخضر, والدنيا تحكمها مؤسسات أمنية تتشابه فى كل البلاد وتحمل نفس الاسم: القلعة. وقد امتد الوباء إلى نفوس الناس, فصار الواحد منهم يقتل الآخر لأنه لا يتحمل اختلافه عنه. هكذا نشبت حرب الكلب الأولى كما تنبئنا الحكاية لأسباب واهية وانتشرت لتغطى كل مكان, فاتخذ القائمون بالأمر قراراً بإلغاء الماضى كى لا تقوم حرب ثانية. لكنها قامت فى نهاية الرواية, وكانت حرباً أشد, قتل الإنسان فيها الإنسان لأنه يشبهه بعد أن كان يقتله لأنه يختلف عنه. وكان من نتائج الحرب الأولى أن صارت سُكنى الضواحى غير آمنة, لتوحش الكلاب بعد أن صاروا يكرهون الإنسان ويرفضون صحبته, ولهذا سميت حرب الكلب. وأحداث الرواية تصف نتائج الحرب الأولى ومقدمات الحرب الثانية. فبعد أن شهد الناس ويلات اختلافهم, صاروا يسعَون للتشابه؛ كل واحد يريد أن يكون نسخة ممن يراه أجمل أو أنجح أو أغنى أو أذكى. وتصور الرواية أن هذا التشابه صار سهلاً ميسوراً بتقدم طب الاستنساخ وبتراجع الأخلاقيات والضمير المهنى وغير المهنى. فإذا بالناس يصحون يوماً ليجد الواحد منهم ألف شبيه وشبيه له, هم نسخة طبق الأصل منه, وكل واحد يدّعى أنه الأصل والباقى نسخ مزورة. فقامت الحرب الثانية وكانت أشد تدميراً وهولاً. هذا هو الإطار الفانتازى لعمل هو فى جوهره شديد الواقعية؛ لأنه ثبْت وسِجِلّ لما يمكن أن تصنعه الأنانية والحماقة والوحشية الكامنة فى الإنسان بالإنسان!. لمزيد من مقالات بهاء جاهين