على خلاف ما سجله التاريخ العام من حلقات الصراع السياسي والعسكري بين العالم الإسلامي وأوروبا خلال العصور الوسطى، يحكى تاريخ الفن سيرة مغايرة لتلاقح حضارى، وتأثير جمالى، وشغف متبادل بإبداعات الآخر، سرى ضمن طبقة عميقة من التفاعل، متجاوزا اختلاف العقائد، وصراع المصالح والنفوذ، وكاشفا عن وجه آخر للقاء الساخن بين الحضارتين، تمثل فى عناق جمالى، وتمازج إبداعي، أنتج أعمالا صارت ضمن روائع التراث الإنساني. ◄ قبة الصخرة والجامع الأموى أهم مظاهر التلاقح بين الفنين ◄ قصر عربى لإمبراطور الروم وزخارف إسلامية فى كنائس أوروبا ◄ أطنان من المشغولات الفنية استوردتها بيزنطة من المسلمين ■ الملوك الستة جدارية من قصير عمرة بتأثيرات بيزنطية بدأ العالم الإسلامى الوليد بالتوسع سريعا منذ القرن السابع الميلادى، على حساب مناطق كانت تحت النفوذ البيزنطى، كمصر وبلاد الشام، وبقيت القسطنطينية عاصمتهم الحصينة طوال قرون لاحقة، ومركزا للحضارة الرومانيةالشرقية. وبينما كان لبيزنطة تراث فنى يمتد لقرون، بدأ المسلمون حقبة إبداع حضارى برؤية مختلفة، على أراض مشبعة بالروح البيزنطية، فكيف كان اللقاء؟ ■ جدارية من داخل قصير عمرة بالأردن ◄ اللقاء الساخن فى دراسة بعنوان «التبادلات بين بيزنطة والعالم الإسلامى: الفن البلاطى والثقافة المادية» للباحثة اليونانية «آنا باليان» عام 2013 إشارات إلى أن البيزنطيين خاضوا المواجهات العسكرية مع العالم الإسلامى بمشاعر التفوق الثقافى، باعتبارهم ورثة الحضارة الرومانية والثقافة الكلاسيكية، على عكس نظرة الاحترام التى أبدتها النخبة المسلمة المثقفة لثقافة وفنون بيزنطة، ورغبتهم فى الاستفادة منها ضمن الإطار الذى تسمح به العقيدة. ■ صورة للخليفة الوليد الثاني من قصير عمرة بالأردن وهى الموازين التى انقلبت خلال قرنين، مع توسع الدولة الإسلامية فى العصر العباسى، ورغبتها فى الهيمنة الثقافية، حيث تحول الأمر إلى سباق للحصول على نفائس الفنون والمخطوطات، فضلا عن محاولات استقطاب العلماء والفنانين من الآخر. وبلغ الأمر أوجه فى عهد الخليفة المأمون الذى عرف عنه الولع بالحصول على التراث اليونانى، كما دعا عالم الرياضيات «ليو» إلى بيت الحكمة فى بغداد. ■ قصير عمرة بالأردن وعلى الجانب الآخر، دخل الإمبراطور «ثيفوليس» على خط المواجهة الثقافية بالحصول على بعض المخطوطات من بغداد، أحضرها له يوحنا سينكولوس، كما بنى قصرا بطراز إسلامى على الجانب الآسيوى من البوسفور إثباتا لجدارته. ووصل الشغف بالطرز الفنية الإسلامية إلى حد اتهام بعض الأباطرة البيزنطيين باتباع المسلمين، خصوصا خلال الخلافات حول فن الأيقونة. ودخلت السلالة المقدونية التى حكمت بيزنطة خلال القرنين العاشر والحادى عشر فى حوار مباشر مع الجمالية الإسلامية، واعتمدت بعض خصائصها، من الزخارف العربية، والخط الكوفى الزائف بحروفه التى لا تشكل كلمات ذات معنى. ■ كاتدرائية أمالفي متأثرة بأقواس مسجد بن طولون بالقاهرة بناها تجار كانوا يتعاملون مع مصر كما احتفظ البيزنطيون بنفائس من الفن الإسلامى، حصلوا عليها كغنائم، وأحيانا كهدايا. وشملت أعمالا من العاج والمعادن النفيسة المرصعة بالأحجار، والمينا والحرير المخصص للنخبة. كما أولى البيزنطيون اهتماما خاصا بالخزف الإسلامى من البصرة، ثم بالخزف ذى البريق المعدنى القادم من القاهرة الفاطمية، والذى قاموا بتقليده خلال القرن الثانى عشر، نظرا للطلب الشديد عليه من الطبقة الثرية. كذلك حملت سفن «رودس» أطنانا من الخزف والمنسوجات والمنتجات الفنية المعدنية من سواحل سوريا ومصر وفلسطين إلى بيزنطة، وبعضها أكمل طريقه حتى البندقية. ◄ اقرأ أيضًا | قصر الأميرة تتر ومدرسة الأيتام.. تراث إنساني وتعليمي في قلب القاهرة التاريخية ■ مسجد سليمان في اسطنبول وتأثر بالفن البيزنطي ◄ فن ديني عرفت الإمبراطورية البيزنطية كدولة دينية مسيحية، تعتبر امتدادا مسيحيا للحضارة الرومانية. ونشأت فى لحظة انقسام الإمبراطورية الرومانية، إلى شرقية وغربية، بعد وفاة الإمبراطور «ثيودوسيوس»، وتقسيم تركته بين نجليه «أركاديوس»، و»هنوريوس» عام 395م. ولذلك فالفن البيزنطى دينى بامتياز، ويكاد يكون ترجمة للاهوت المسيحى. ■ من زخارف قصر المشتى بالأردن وغلب عليه التقليد الصارم والالتزام تحت سلطة وتحكم الكنيسة. بل إن الكنائس نفسها صارت بمثابة تعبير فنى عن العقيدة بعمارتها ورسومها، فمثلت قبابها السماء، ورسم عليها المسيح بوصفه حاكم العالم، وأسفله عند قاعدة القبة رسم الملائكة ورؤساؤهم. ورسمت العذراء غالبا على نصف قبة، بينما احتل القديسون الجدران. كما صورت الأيقونات مشاهد من حياة المسيح والعذراء. ولأن الفن مثل الإلهى المطلق والثابت، فقد غلبت عليه الخطوط الواضحة والمساحات اللونية بديلا عن تفاصيل الأشكال، مع المباشرة، والتسطيح، والبعد عن التجسيد ثلاثى الأبعاد. وتم قمع الاختلافات الفردية لصالح نموذج قياسى. واعتمدت الوضعية الأمامية للأشخاص، بعيون واسعة، ونظرة ثاقبة مباشرة، مع خلفيات مذهبة، مثلت السماء، وجعلت الأشخاص المرسومين يبرزون للأمام. وندر النحت، وظهر بعضه كأشكال بارزة صغيرة فى العاج المستخدم فى أغلفة الكتب وصناديق الذخائر المقدسة. وفى مجتمع النخبة شاع استخدام الأشكال المصغرة والتطريز، والأعمال الذهبية، والمينا، كما انتشرت المخطوطات المزخرفة. ولما كان العالم الإسلامى الناشئ، يتطلع إلى إقامة حضارة قائمة على عقيدته ومثله ورؤيته للعالم، فقد جرت عملية فرز واسعة، خلال فترة التأسيس، استبعدت كل ما يتناقض مع العقيدة، مع الانفتاح على المعايير والرؤى الجمالية، حتى بدأ خلال فترة وجيزة تكوين طابعه الخاص. وهو الآخر نشأ كفن دينى، أبدى بعض التحرر أحيانا. ◄ روافد ينتقد البعض الفن الإسلامى بأنه هجين، وقام على فنون حضارات سابقة، والحقيقة أن الفن البيزنطى نفسه نشأ معتمدا على الفن الهيلنستى الذى بدوره كان هجينا من فنون الرومان واليونانيين والبلدان الواقعة ضمن الإمبراطورية الرومانية. وكلاهما قام بعملية فرز وانتقاء لمواءمة العقيدة فى حقبة التأسيس. وبقيت هنا وهناك مساحات خرج فيها الإبداع عن الطابع الدينى وصرامة القواعد. وكلاهما صار له هوية بصرية مميزة. وكلا الفنين تخلى عن محاكاة الواقع إلى الرمزية، والتجريد. وهو ما فسره «جورجيو فازارى» فى عصر النهضة فيما يتعلق بالفن البيزنطى بأنه مظهر لاضمحلال المهارات والذائقة الفنية، مقارنة بالفن الكلاسيكى، واتفق معه المؤرخ الفنى من القرن التاسع عشر «برنارد بيرنسون». لكن آخرين أنصفوا ذلك الفن، واعتبروه مرحلة ضمن الجدلية بين التمثيلية والتجريدية. وقد برع الفن البيزنطى فى الفسيفساء، والتى أخذها المسلمون، وطوروها منذ البداية كما فى فسيفساء الجامع الأموى فى دمشق. وتجنبت الفسيفساء الإسلامية تصوير الكائنات الحية على الأغلب، وركزت على الزخارف الهندسية والنباتية المعقدة، والخط العربى. كما استعارت العمارة الإسلامية فى بدايتها بعض تقنيات البناء البيزنطى باستخدام القباب والأقواس، وتعتبر القبة الأمويّة فى قبة الصخرة بالقدس، والتى بنيت فى القرن السابع مثالا على ذلك، فضلا عن فسيفسائه وزخارفه التى اقتبست الطابع البيزنطى، وطعمته بالخط العربى. ◄ تبادل فى بحث ل«آنى لابات» و«شارلوت أبلى» عام 2000 تحت عنوان «الفن البيزنطى فى ظل الإسلام»، ذكرت أدلة عديدة على تبادل التأثير، منها نقل البيزنطيين للزخارف الإسلامية والخط العربى فى الكنيسة الأولى فى دير «هوسيوس لوكاس» فى «فوكيس» باليونان. كما حمل «البتراشيل» وهو ثوب طقسى كنسى من الحرير - الزخارف العربية، حتى أن الفنانة البيزنطية التى طرزته وقعت اسمها عليه بحروف عربية. كما تورد فسيفساء قصر الحير الشرقى، الذى بناه هشام بن عبد الملك فى القرن الثامن، ببادية الشام والذى يظهر فيه تزاوج أسلوب الفسيفساء البيزنطى مع طابع تجديدى. وهو لم يكن مجرد استعارة فنية، بل رمزا للتسامح والتفاعل الإيجابى، حيث جاء الفنانون الذين عملوا على هذه الفسيفساء من خلفيات ثقافية ودينية متنوعة، مما يعكس بيئة منفتحة على التبادل الثقافى والإبداع المشترك، وهى السمة التى أدت إلى سرعة نضوج الفن الإسلامى. وهو ما يؤكده أيضا قصر المشتى فى الأردن، ومدينة الرصافة فى سوريا، والمسجد الأزرق فى تبريز، وقصر الجوسق الخاقانى فى العراق، وفسيفساء مدينة جرش بالأردن، وصولا إلى جامع قرطبة الكبير، وقصر الحمراء الأندلسى. ◄ من التأثر إلى التأثير للباحث «معن عموش» بحث منشور فى جامعة اليرموك عام 2024 بعنوان «التفاعل الفنى بين البيزنطيين والعرب المسلمين». ويشير إلى علاقات فنية وطيدة، ظهرت منذ العصر الأموى حيث استعان حكام المسلمين بفنانين بيزنطيين أو عرب تعلموا على أيدى البيزنطيين لبناء وتزيين القصور والأبنية الدينية. ومن أبرز تلك النماذج المبكرة المسجد الأموى فى دمشق و«قُصير عمرة» بلوحاته من الفريسك التى تضم رسوما بشرية. وفى كتابها «السرقة من المسلمين» عددت الكاتبة «ديانا دارك» مظاهر تحول الفن الإسلامى إلى هوس فى أوروبا، مع عشرات الأمثلة عن تأثر العمارة القوطية المتأخرة بالهندسة والزخارف الإسلامية كما فى كاتدرائية أشبيلية. كما ذكرت تأثير الأقواس والقباب الإسلامية فى كاتدرائية باليرمو فى صقلية. وحتى فى عصر النهضة امتد التأثير الإسلامى إلى بعض من العمارة والزخارف كما فى قصر «بالازو» فى البندقة. ولم يتوقف الأمر خلال عصر الباروك، كما فى كنيسة «سان كارلو» فى روما. كما امتد الاستلهام إلى الأثاث وزخارف البيوت طوال القرنين 19، 20. وظهر حتى فى العمارة الإسبانية الكولونيالية فى أمريكا اللاتينية، وحتى حركة «أرت ديكو» التى اجتاحت أوروبا وأمريكا فى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين حاملة تأثيرات إسلامية. ويبقى الفن جسرا روحيا بين الشعوب والحضارات. ويعكس تاريخه حسا بالوحدة الإنسانية، وهاجسا عميقا للتواصل مع الآخر مهما بلغت الاختلافات.