11 عامًا مرت على الحكم القضائى التاريخى بحظر نشاط تنظيم الإخوان الإرهابى، وفى منطوق الحكم عبارات وجب التوقف عندها وتأملها بعمقٍ، أهمها وصف التنظيم بأنه سرى، لديه انتماء غير وطنى، يُمثل تهديدًا للأمن القومى المصرى، وأن أفراده لديهم انتماء مزدوج، ففى الوقت الذى يأتمر فيه العضو بتعليمات التنظيم الداخلى يلتزم فى ذات الوقت بتعليمات التنظيم الدولى القادمة من الخارج. بعبارات بسيطة قام ذلك الحكم التاريخى بتشريح التنظيم، وتحديد مكمن خطورته، فهو تنظيم يُعادى فكرة الدولة، ويرفض مشروعها الوطنى، بل يرى الوطن حفنة من تراب عفن- بحسب وصف سيد قطب - . ذلك العداء لفكرة الدولة الوطنية متأصل داخل تنظيم الفوضى والخراب، وأزيد أن لديه استراتيجية عسكرية تقوم على حرب العصابات الإرهابية، نجحت القوات المسلحة والشرطة المدنية فى مواجهتها والقضاء عليها، وضحّى شهداء كثيرون بأرواحهم من أجل الخلاص منها، لكننا قطعنا رأسًا واحدًا للوحش، وتتبقى عدة رؤوس تتبع تنظيمًا دوليًا، لديه استثمارات ودعم وخطة لإسقاط كل الدول الوطنية بعد أكثر من 100 عام من كفاح النخب السياسية العربية لبنائها. نجحت الدولة الوطنية فى إخراج الاستعمار، ثم فوجئت بوحش يُنازعها فى الدين وحركة المجتمع وفرض القيم، وظهرت داخل كل الدول العربية دولة أخرى موازية اسمها دولة الإخوان، تقوم على احتكار كل شىء، بدايةً من السياسة والاقتصاد وانتهاءً بحركة المجتمع ذاته، جربت الدولة التعايش وكان خطأ فادحًا، لأن التنظيم لا يتعايش بل يستعد للتمكين، يمد أذرعه للاستيلاء على كل شىء، انتشر فى مجتمعاتنا بشكل سرطانى، مستغلًا ضعف المؤسسة الدينية، واستسلام كثير من الشيوخ المعتبرين لما يطرحه التنظيم من أفكارٍ خاطئة، تُحرّض على العنف والكراهية. استغل التنظيم الحرية السياسية فى بعض البلدان لبناء شبكات اجتماعية واقتصادية، واستخدم هذه الشبكات للتأثير على السياسة الوطنية، ويُنظم الإخوان أنشطتهم بسرية، ويعتمدون على هياكل تنظيمية متعددة، يصعب الكشف عن بنيتها الكاملة، كما يملكون تنظيمًا دوليًا، يُنسق بين أعضائه حول العالم، ويستغلهم من أجل التأثير فى القرار الدولى، ومعاقبة الدول الرافضة لوجود التنظيم. أدرك التنظيم أن الفوضى تتبع الفتنة، وأن تقسيم المجتمعات العربية واتهام الحكومات بالفساد والتعاون مع قوات الاحتلال الإسرائيلى هى طريقه لإشاعة الفوضى ومن ثم جلب الخراب، وامتلك التنظيم مبكرًا أدوات تشكيل الرأى العام الجديدة، وتمكّن من التأثير على أدوات السوشيال ميديا، فحاصر الجميع بأفكاره الظلامية، حتى أسقط بالفعل الدولة فى تونس ثم مصر، وغيرها من الدول التى سقطت فى براثن الفوضى، ولم تتمكن الدولة من العودة إلا فى تجارب استثنائية، وكانت مصر بوعى شعبها صاحبة الإنجاز بنجاح ثورة 30 يونيو ومكافحة الإرهاب واستئصال ذيوله وتحرير سيناء للمرة الثانية. وحتى أُوضّح الفكرة.. تخيل أن ميليشيات الإخوان المسلحة كانت متواجدة فى سيناء حينما وقعت هجمات 7 أكتوبر، هل كانت مصر ستتمكن من معارضة خطة التهجير القسرى وتصفية القضية الفلسطينية على حساب سيناء؟، انظر لمصير الأرض التى تسيطر عليها ميليشيا، وكيف تجرّأت عليها قوات الاحتلال، واحتلتها أمام أعين العالم ودون معارضة من أحد. وجود الميليشيا أصبح مقدمة لقدوم الاحتلال وتنفيذ مخططات التوسع.. تلك هى محصلة 7 أكتوبر التى لا شك فيها. لم يستسلم التنظيم لهزيمته فى ثورة 30 يونيو، فبالرغم من ألمه الشديد من نجاح الدولة الوطنية فى مواجهة الإرهاب، وأصوات صرخاته العالية ضد بناء الجمهورية الجديدة - لأنه يعلم جيدًا أن نهايته الحقيقية مرتبطة بنجاح تأسيس الجمهورية الجديدة واستعادة الدولة الوطنية لقوتها وتأثيرها القوى فى الداخل والخارج - حشد التنظيم كل موارده وإمكانياته لهزيمة التجربة المصرية بالشائعات وترديد الأكاذيب. تخيل دولة ورثت - نتيجة خراب الإخوان - فاتورة مثقلة بالخسائر المادية والمالية وتحارب الإرهاب، وفى ذات الوقت تبنى مشروعات قومية ضخمة فى ظل أزمات إقليمية ودولية وموجات تضخم متتالية عصفت بحكومات دول كبرى، وقصف متواصل من أذرع إعلامية لا تخضع لأى قانون أو ضوابط، وتستخدم كل ذلك بهدف إسقاط الدولة مرة أخرى، ومع ذلك تظل صامدة وتقاوم. تتبقى رؤس التنظيم فى الخارج وأذرعه الإعلامية التى تبث سمومها ليل نهار، وهى المعركة المستمرة، ولا أتوقع انتهاءها فى القريب العاجل، لأنها تدور والأذرع الإخوانية تحتمى بحاضنتها الأم فى بريطانيا، وتستغل الأوضاع الاقتصادية الصعبة فى ترويج الشائعات، وتعيد تدوير شائعاتها فى ظل مناخ مضطرب، بسبب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ولبنان، وتحاول توظيف المشاعر الشعبية - الرافضة للجرائم الإسرائيلية ضد الإنسانية، وما يتعرض له الشعب الشقيق من حرب تجويع وإبادة - ضد الحكومات العربية، التى تُقاوم فى ذات الوقت مخطط التوسعة، وتتصدى لمحاولات إسرائيل فرض الأمر الواقع وتصفية القضية الفلسطينية. لا أرى فى استراتيجية التنظيم الإرهابى الإعلامية لتخوين الحكومات العربية سوى تقديم المساعدة لدولة الاحتلال، تخيل أن ساعات البث الإخوانية لا تتحدث عن الجرائم الإسرائيلية نهائيًا، بل تُوجّه أصابع الاتهام دائمًا فى أية جريمة للحكومات العربية، مستغلةً الظرف الإنسانى لإضاعفها وتقليل شعبيتها، وذلك بالتأكيد لا يخدم القضية الفلسطينية بأى حالٍ من الأحوال، وإنما يصب فى مصلحة إسرائيل فى النهاية. اتفق الإخوان ودولة الاحتلال على منهج الاغتيالات، قتل الإخوان كلًا من محمود النقراشى باشا رئيس الحكومة المصرية والقاضى الخازندار والزعيم الراحل أنور السادات، وحاولوا اغتيال كل زعماء مصر المعاصرين والمفكرين الكبار مثل فرج فودة ونجيب محفوظ، نفس الأمر تُطبقه إسرائيل، فالقتل عقاب من يقف ضد تحرك التنظيم نحو التمكين وأيضًا خطة دولة الاحتلال للتوسع. إذا بحثت عن أسباب ضعف الدولة الوطنية العربية بعد خروج الاستعمار ربما تجد أن أهمها هو محاولة التعايش مع ذلك التنظيم، الذى خرج من رحمه القذر كل جماعات الإرهاب والتطرف، والذى قام بتقسيم المجتمعات على أساس دينى، وزرع الكراهية والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد، ورفض إعطاء المرأة أى حقوق، وآذى المسيحيين، وحرّض على القوات المسلحة والشرطة، وبسط سيطرته على المدارس والجامعات والمساجد والجمعيات الأهلية. المعركة تتجدد، لأن قطع الرأس لا يكفى، بل يجب أن تمتد المواجهة إلى باقى الرؤوس، وهذ الأمر ليس فى استطاعة دولة واحدة، ولكنه يتطلب تحالفًا عربيًا موسعًا، يُكافح تلك الفئة الضالة، ويرفع منسوب الوعى الجمعى بخطورتها وفسادها وإفسادها للمجتمعات العربية وتحالفها الشيطانى مع دولة الاحتلال.. لا مفر من إعمال العقل وتذكر جرائمها والتحذير من مخططها المستدام للفوضى والتدمير والخراب.. فالجسد العربى ممزق بما يكفى ولم يعد يحتمل.