بعد أن تعودنا منه على الروايات الطويلة؛ فاجأنا الروائى الكبير أشرف العشماوى بتجربة جديدة عبر أحدث أعماله «مواليد حديقة الحيوان» الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية والتى تضم ثلاث روايات قصيرة تتشابك فيها الأحلام والطموحات مع الأمل واليأس فى واقع ملىء بالخداع والمفاجآت، وبين الواقع والخيال؛ وبإسلوب روائى يعتمد على الإثارة والمتعة والتشويق؛ تأتى: «كابينة لا ترى البحر»، و«مزرعة الخنازير»، و«مواليد حديقة الحيوان»، تعكس الصراع الإنسانى داخل نفوس البسطاء؛ ومحدودية إمكانياتهم فى مواجهة حياة تقسو عليهم رغم أحلامهم العادية والبسيطة، وعن هذه التجربة يقول العشماوى إن أفكار هذه الروايات الثلاث كانت حاضرة لديه منذ أربع سنوات، وأن اختيار مكانها وزمانها مرتبط بالفكرة دون قصدية لأى فترة بعينها، ويرى أن غالبية أبطاله ضحايا مجتمع شرس وغادر، وأنه لا يحب محاكمتهم، ويؤكد أن حبه للعبة الكلمات المتقاطعة التى يمارسها يومياً؛ دفعه لاستخدام المعانى - مثل اللعبة تماماً - عناوين للفصول، وأن ما يربط بين روايات «مواليد حديقة الحيوان»، هو أن كل الصور خادعة؛ بالإضافة إلى خيط رفيع غير مرئى بين قلة الحيلة وعناد الأحلام. أشرف العشماوى؛ من مواليد عام 1966، أصدر عدة روايات منها: «زمن الضباع»، «سيدة الزمالك»، و«تويا»، «بيت القبطية»، «صالة أورفانيلى»، «السرعة القصوى صفر»، وحصل على جائزة أفضل رواية بمعرض القاهرة الدولى للكتاب عام 2014 عن روايته «البارمان»، وجائزة أفضل رواية تاريخية من ملتقى البحرين عام 2019 عن روايته «كلاب الراعى»، كما فاز بجائزة كتارا 2023عن روايته «الجمعية السرية للمواطنين». فى «مواليد حديقة الحيوان» تجربة جديدة يخوضها الروائى أشرف العشماوى، ويقدم ثلاث روايات قصيرة، بعد مسيرة أدبية تميزت بنمط الروايات الطويلة، ما الفارق فى التجربة ما بين كتابة الرواية القصيرة والرواية الطويلة، وهل ثمة تحديات واجهتك فى هذه المرة لاختلاف الأسلوبين؛ أم الأمر مسألة حجم فقط؟ الفارق بين كتابة الروايات والنوفيلات أن الأخيرة فى الكتابة لأول مرة ربما تكون أصعب، خاصة أننى روائى قادم من مدرسة تكتب الرواية الطويلة وتهتم بالتفاصيل ، كما تعلم الرواية قماشة عريضة تحتمل الحكى المفصل، لكن النوفيلا على النقيض، اهتمامها بالحدث وسرعة تطوره هو الأساس أما بقية التفاصيل فلا تهم، لكن هذا لا يعنى أن المسألة متعلقة بالحجم فقط، ربما هناك خطأ شائع فى دلالة ومعنى التكثيف فى الأعمال الأدبية، التكثيف يعنى حذف كل ما لا لزوم له، وكلما حذفت ولم يؤثر ما تم حذفه على بناء النص وإنسابية السرد، وقوة الحبكة وتماسكها، تتأكد أنه كان حشواً بالفعل، مثل الحشائش الضارة لابد من جزها، لكن المسألة غيرمتعلقة بحجم الرواية حسبما يظن البعض، فمن الممكن أن تكون 700 صفحة لكن لا يمكنك حذف فقرة منها، ومن الممكن أن تكون 200 صفحة لكن نصفها يمكن حذفه بسهولة، الحقيقة أن الفكرة هى صاحبة اليد العليا وهى الحاكمة فى تصنيف نوع الكتابة من رواية وقصة ونوفيلا، فليست كل الأفكار قابلة لأن تكون روايات طويلة، لكن ما واجهنى من تحد فى هذا الكتاب لم يكن التكثيف إنما كتابة نوفيلا بغير إخلال هو الذى شغلنى؛ وخصوصاً أنها المرة الأولى، وأنا من تعود على قماشة عريضة تهتم بالتفاصيل، كان الأمر صعباً بالطبع فى المسودات الأولى للكتابة، لأننى لا أحذف حشواً بقدر ما أحذف تفاصيل لا تحتاجها النوفيلا من وصف لأماكن وأسماء شخصيات وخلفيات عن تاريخها لن يفيد القارئ منها، باعتبار أن فكرة النوفيلا يمكنها أن تجعلنى أصل لعقل القارئ من طرق أقصر. كتبت الروايات الثلاث فى عام، من الواضح أن أفكارها كانت حاضرة، وذهنك مشغول بها، كيف كانت البداية والكواليس وراء كل حكاية؟ الأفكار الخاصة بكتاب «مواليد حديقة الحيوان» بالفعل كانت حاضرة منذ أربع سنوات تقريباً، وبعضها تولد بمخيلتى منذ كنت أكتب رواية «الجمعية السرية للمواطنين»، وبعضها أتى من انشغالى بظواهر اجتماعية دخيلة علينا، ومع تدنى الذوق العام وهوس السوشيال ميديا وتعاظم المادة على حساب الإنسانيات، تولدت فكرة «كابينة لا ترى البحر»، ومن شخصيات مسودة «الجمعية السرية للمواطنين» سحبت خط «فايز حنا» بشخصيته التى لم أكتبها وقتها فى هذه الرواية بسبب طول أحداثها، لتخرج «مزرعة الخنازير» فى شكل نوفيلا مكتملة. أما «مواليد حديقة الحيوان» فالفكرة أتت من شهادة ميلاد لأحد أصدقاء أخى الأكبر واكتشف أنه من مواليد الحديقة بالفعل، التى كان والده مديراً لها فى العصر الملكى، وكانوا يقيمون فيها حتى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي؛ داخل فيلا صغيرة بالقرب من جزيرة الشاى، وعندما تفكر كروائى بطريقة ماذا لو؟ ستجد أن محفزا صغيرا يمكن أن يخلق عندى فكرة أقرب للفانتازيا؛ عن شاب وخطيبته يواجهان صعوبة فى إيجاد مسكن ووظيفة، ولأنه من مواليد الحديقة وطرد منها بعد وفاة أبيه قرر العودة والإقامة مرة ثانية، لينتهى به الحال نهاية كابوسية بعدما كان الثمن أن يلعب دور الأسد فى القفص كل نهار، ولو تأملت الفكرة وراء كل رواية ستجد أنها أحلام مشروعة بسيطة لأبطالها من الناس العاديين الذين نقابلهم كل يوم فى الشارع، ليسوا مهمشين إنما أفراد عاديون جداً. تدور أحداث الروايات الثلاث فى فترة السبعينيات والثمانينيات، لماذا اخترت هذه الفترة الزمنية تحديداً؟ اختيار الفترة الزمنية للروايات الثلاثة مرتبط بالفكرة دون قصدية، ففى تلك الفترة من تاريخنا المعاصر تعاظم دور التيار الدينى المتطرف، وبانت ثمار الانفتاح الاقتصادى غير المدروس؛ وتضخمت حتى فسدت، وغابت قيم كثيرة نعانى اليوم من فقدانها على مر السنين، تلك الفترة فى نظرى تمثل منعطفاً شديد الحدة؛ ولم ننتبه له مع الأسف. «عارف» فى «كابينة لا ترى البحر»، و«فايز حنا» فى «مزرعة الخنازير»، و«إسماعيل» فى «مواليد حديقة الحيوان»، الثلاثة ضحايا – بشكل ما – إلى أى درجة تتعاطف معهم، وتراهم مسئولين عن مصائرهم؟ أنا فى المجمل أتعاطف مع غالبية أبطال رواياتى؛ ولا أحب محاكمتهم، وأرى أنهم ضحايا مجتمع شرس وغادر، ربما كان لدى كل منهم فرصة للتراجع، وأوضحت ذلك فى الروايات الثلاث؛ لكن بالتدقيق نجد أنها فرصة صعبة للغاية أمام ضغوط مجتمعية تفوق احتمال البشر، وهو ما كنت حريصا على الإشارة إليه من بين ثنايا الحكايات. فى رواية « مزرعة الخنازير» تلقى الضوء على انتشار الجماعات الجهادية فى الصعيد؛ وتكشف الممارسات التى كانت تجرى فى هذا الوقت، ما حدود الواقع والخيال هنا؛ وكيف تمكنت من التضفير بينهما؟ من الصعب دوماً التفرقة بين الواقع والخيال، أنا لدى ذاكرة انتقائية واختار وقائع، أو واقعة حقيقية اتخذها ظلاً للعمل فى نهاية المشهد كخلفية، بينما الأبطال والمشاهد الأساسية تعتمد على الخيال، ومع تطور مراحل كتابة الرواية الواحدة ومراجعة المسودات؛ تتداخل عناصر الواقع مع مفردات الخيال وتصبحان أمراً متماسكاً بلا حدود فاصلة، على سبيل المثال؛ فى السبعينيات وبداية الثمانينيات كانت مئات القضايا تتناول الجماعات المتطرفة وما فعلوه مع المسلمين والأقباط من أهل بلدتهم فى محافظات الصعيد، ومن بينها اخترت واقعة فى الجيزة وأخرى فى المنيا، الأولى لأمير الجماعة يمتطى حصاناً ويجبر رواد المقاهى على الوقوف تحية له، والثانية عن صلب قبطى وجلده فى المنيا، وقمت بتضفير الواقعتين فى أحداث الرواية كأنها فعل واحد متعدد الوجوه، لأننى أكتب نوفيلا بغير إسهاب وشرح لدور الجماعات، والواقعة دالة بذاتها لا تحتاج مزيد من السرد؛ لكن فى العموم أنا أعتمد على نسبة ضئيلة من واقعة أشبه بلمحة، والباقى خيال مثل كل رواياتى. استخدمت لعبة الكلمات المتقاطعة كعناوين فرعية فى رواية «كابينة لا ترى البحر»، وكان ذلك يتسق مع شخصية «الجد»، لكن ما المبرر لتطبيق هذه اللعبة فى الروايتين التاليتين؟ هناك رابط بين الروايات القصيرة فى كتابى «مواليد حديقة الحيوان»؛ وهو أن كل الصور خادعة، وأيضاً هناك خيط رفيع غير مرئى بين قلة الحيلة وعناد الأحلام؛ كما وصفها الإعلامى والكاتب السودانى الكبير حامد الناظر، فى مقال له، لكن بالنسبة للكلمات المتقاطعة التى استخدمتها عناوين للفصول فى كل الروايات؛ فالبداية كانت تشجيعا لى لكتابة ثلاث نوفيلا يربط بينها رابط ما، وكنت أعلم أنه موجود؛ لكنى أردت فى البداية تشجيع نفسى، ولأنى أحب لعبة الكلمات المتقاطعة؛ وأمارسها يومياً قمت باستخدام المعانى مثل اللعبة تماماً عناوين للفصول، ثم أعجبتنى اللعبة فى الرواية الأولى والثانية وبعدها الثالثة، مثلما فعلت فى رواية «السرعة القصوى صفر»، ووضعت مقاطع حقيقية من الراديو الملكى فى بدايات الفصول، كما ألقاها المذيع وقتها، وعند مراجعة الرواية وجدت المحرر الأدبى يشيد بالمقاطع؛ فتركتها من باب المغامرة واللعب مع القارئ، لعلها تجذب انتباهه، وبالفعل وجدت قبولاً لدى القراء وكان لها أثر طيب. نحن إزاء نقد واضح لسلوكيات ما فى فترة السبعينيات؛ فى تقديرك، كيف يمكن توظيف الفن لكشف وفضح أمراض المجتمع، من دون الإخلال بشروط الإبداع؟ الفن مرآة للمجتمع، ومن بين غاياته فضح الأمراض المجتمعية وكشف العوار وتسليط الضوء بكثافة على السلبيات؛ لدفع الناس إلى التفكير والإصلاح والرقى، ربما الفن غايته الإمتاع والتسلية لكن فكرة التفكير مع قارئ لا تعرفه عبر الكتابة هى غاية نبيلة للأدب، وكلما أشرت إلى عتمة الأسود بانت نصاعة الأبيض؛ والعكس غير صحيح، لكن للإبداع شروط؛ وإلا تحول العمل الأدبى إلى مقال أو خطبة رنانة وبالتالى يفقد قيمته، وعلى الأديب الحرص كل الحرص حتى لا يعلو صوته فى العمل؛ ولابد أن يتخفى جيداً وراء شخصياته بعد أن يتقمصها نفسياً، ولا يكتب عبارات إنشائية كناصح أمين، وكلما كان النص الأدبى يطرح تساؤلات ولا يقدم إجابات صريحة تاركاً ذهن القارئ يعمل ليكون رؤيته الخاصة؛ لكان هذا أفضل. كيف ترى وضع الكتابة؛ والثقافة المصرية فى الفترة الحالية، وتأثير دخول وسطاء جدد، مثل «البلوجرز» و «اليوتيوبر» على المشهد الثقافى؟ الثقافة حالياً ليست فى أفضل حالاتها، وأدى انتشار أعمال رديئة كثيرة إلى التأثير على ذائقة القارئ وجعله لا يحسن الاختيار؛ وربما لا يتذوق أعمالاً جيدة فيما بعد، إذا ما فسدت ذائقته تماماً، وبالطبع غياب النقد الأدبى الحقيقى هو الفاعل الأصلى لهذه الجرم الأدبى؛ مما أدى إلى انتشار وسطاء جدد اختلط على بعضهم الأمر وتقمصوا دور الناقد، سواء من مجموعات القراءة أو القنوات الإليكترونية على وسائط تواصل اجتماعى أو منصات رقمية، فظهر لنا ناقد جديد فى الأغلب يعطى انطباعاً شخصياً بعيداً عن الأسس الفنية والنقدية المتعارف عليها، لكن رغم ذلك كله فأنا لست ضد الوسطاء الجدد سواء كانوا «يوتيوبرز» أو «بلوجرز»، وأظن أن لهم أياد بيضاء فى الإشارة إلى أعمال قيمة، والتعريف بكتاب جديد وروائيين جدد، هذا أمر مهم لكن أتمنى أن أرى كتباً غير الروايات، مثل الكتب الفلسفية والفكرية والتاريخية والشعر والقصة القصيرة أيضاً، أعرف أن هناك سلبيات مثل الإشارة إلى أعمال متوسطة نظير مقابل أو من باب المجاملة، ولكن دعنا نتساءل بشفافية؛ ألم يكن ذلك يحدث بصورة مماثلة منذ عشرات السنين، عبر المجلات والصفحات الثقافية بالجرائد اليومية؟ الأمر فقط تطور وواكب التكنولوجيا ولابد من الترحيب بأية وسيط بين الكاتب والقارئ؛ لاكتساب قراء جدد ونشر الثقافة، لاتزال الإيجابيات أكثر. ماهى مشروعاتك القادمة، رواية طويلة أم روايات قصيرة؟ مشروعى القادم مؤجل حالياً، أحتاج لفترة توقف وراحة؛ لاستعادة شغف مفتقد، بعد 15 سنة من نشر أعمالى شعرت أننى أدور فى ساقية مجهدة للغاية، ما بين تجهيز عمل جديد والكتابة والتقاط أفكار والنشر وهكذا، ولابد من احترام عقل القارئ وتقديم جديد يثير الدهشة كل مرة، أشعر أننى أحتاج لبعض الراحة لتقييم التجربة، لكن لدى أفكار تصلح لروايات قصيرة بالفعل، ولدى فكرة لرواية طويلة ولم استقر بعد حتى الآن، وأظن أننى لن أبدأ فى التخطيط لعمل قادم؛ إلا بعد معرض القاهرة الدولى القادم للكتاب.