وجدتها وسط أسرة ريفية بسيطة، تجلس على حصيرة، وتدون على طبلية ملاحظاتها بحماسةٍ، وخلفها فرن بلدى مصنوع من الطين، لم يفلح فى طهى أوقات المعاناة، وحول الطبلية رب أسرة وصغاره، ينظرون بعيون تنضح بالأمل، وحين سألتها عن هذه الصورة؛ ابتسمت الكاتبة الصحفية «صفية مصطفى أمين» مدير تحرير «أخبار اليوم»، وقالت: هى صورة، مر عليها أكثر من 25 عامًا، التقطت لى وأنا أدون بيانات أسرة بسيطة من البحيرة، حققت «ليلة القدر» أمنيتها فى امتلاك جاموسة عُشر وبعض المساعدات الأخرى. وتابعت: الصورة تعكس جزءًا يسيرًا من مساهمات «أخبار اليوم» التى نحتفل بعد غد بمرور 80 عامًا على ميلادها وصدور العدد الأول منها فى 11 نوفمبر عام 1944. وخلال هذا العمر الطويل عاشت هذه الجريدة - التى ولدت عملاقة - بسبقها الصحفى، كأول مطبوعة أسبوعية يتخطى توزيع العدد الأول منها 110 آلاف نسخة، فى سابقة لم تتكرر قبلها فى منطقة الشرق الأوسط. متى بدأ النشاط الخيرى ل«أخبار اليوم»؟ جاءت الفكرة بالصدفة بعد جلسة بين التوأمين مصطفى وعلى أمين، يوم الاحتفال بعيد ميلادهما فى 21 فبراير عام 1955 حيث كانا يدونان أمنياتهما المقبلة التى تحققت فى الماضي، وهنا كان التساؤل منهما بفكرة: اقرأ أيضًَا| 80 عاماً و«أخبار اليوم».. صاحبة الجلالة لماذا لا نُرسل إلى القراء ونسألهم عن أمنياتهم ونلبى منها ما نستطيع؟ وبالفعل أعلنا ذلك على صفحات العدد التالى من الجريدة لجلستهما، وكان رد الفعل كبيرًا، إذ استقبلت «أخباراليوم» زكائب من الأمانى، حتى أنه من كثرتها لم تسعها المكاتب، وخصصوا لها غرفًا مستقلة! واختاروا منها بعض الأمانى بطريقة عشوائية تماما، ثم قررا إجراء دراسة وبحوث ميدانية بمعرفة كتيبة من المحررين، تقصوا على أصحابها لضمان تحقيق الحلم لمستحقيه، وبدأ العمل الخيرى بتبرع شخصى مناصفة بين التوأمين بمبلغ 4 آلاف جنيه، وكان هذا مبلغا ضخما وقتها. وبمرور الوقت توسع هذا المشروع الإنسانى، بفضل تبرعات أهل الخير من داخل مصر وخارجها، وتفرع منه «أسبوع الشفاء»، وهى فكرة على أمين التى اقترحها وهو على فراش الموت، وما زال المشروع قائمًا يقدم العلاج للمحتاجين. وفى عام 1983 ولد مشروع «لست وحدك»، للمساعدات الإنسانية السريعة، واستمرت «أخبار اليوم» فى التوسع بمشروعاتها، فابتكر مصطفى أمين باب «نفسى» و«يوم اليتيم» وآخر مشروعات ليلة القدر «دار أيتام» أقيم فى أوائل التسعينيات من القرن الماضى، وهو أكبر دار لرعاية الأطفال فى مصر. وعلى الصعيد الصحفى، تم تخصيص جوائز مصطفى وعلى أمين للصحافة، ومستمرة منذ أن أنشأها مصطفى أمين وأكمل أبناؤه المسيرة حتى الآن لتشجيع الموهوبين من أبناء المهنة. كيف تم اختيار توقيت توزيع الأمانى على أصحابها فى ليلة القدر؟ - بعد أن تأكدا من الحالات بالبحوث الميدانية؛ تصادف اقتراب موعد ليلة القدر فاختارا هذا التوقيت واستمر بشكل دائم حتى الآن، وبعدها نشرا قصص هؤلاء المستحقين، فجاءت تبرعات كثيرة وبدآ يتوسعان فى الفكرة حتى صارت مؤسسة خيرية مستقلة بذاتها يرعاها التوأمان. حتى إن لليلة القدر حاليا مجموعة من المتبرعين مستمرين معنا منذ نشأتها ويرفضون ذكر أسمائهم، وهدفنا من ليلة القدر ليس المساعدة المادية «إلا فى حالات ضيقة جدا» ولكن بناء الإنسان وتهيئته للكسب ولو بمشروع متناهى الصغر. وتابعت: ضمن مفارقات لا أنساها حين ساعدنا ميكانيكيا لم يكن معه رأس مال، وبعد المساعدة من «ليلة القدر» فتح ورشة أدرَّت عليه ربحًا وفيرًا؛ فتحول من مستفيد إلى متبرع منتظم ويساهم معنا سنويا بمبلغ خصصه لفعل الخير، وهنا تكتمل رسالة «أخبار اليوم» الخيرية بخلق فرص العمل. كيف جاءت فكرة الأعياد التى اقترحها مصطفى وعلى أمين؟ ابتكر مصطفى أمين عيد الأم، وجاءت فكرته حين دعا فى كتابه «أمريكا الضاحكة» الصادر فى ثلاثينيات القرن الماضى للاحتفال بعيد الأم ولكن لم تخرج الدعوة للنور إلا بعد 20 عامًا حين جاءت امرأة تشكو لمصطفى وعلى أمين جحود ابنها الوحيد، فاختار له على أمين يوم عيد الربيع 21 مارس من كل عام. قصة عيد الحب رأى مصطفى أمين جنازة بميدان السيدة زينب ولا يشيعها سوى ثلاثة رجال فقط! فاقترح فكرة عيد الحب واختار القراء توقيته فى الرابع من نوفمبر كل عام. عيد الأب عام 1958 كتب عدد كبير من الآباء يطالبون بعيد للأب أسوة بعيد الأم فتم تحديد 12 يناير من كل عام للاحتفال بهذه المناسبة وبدأ الاحتفال به عام 1959 ولكنه لم يحظ بنفس النجاح. مصطفى أمين «الإنسان» لم تشعر «صفية أمين» بأن لها أبًا واحدًا أبدا، وحين سألتها عن سر ذلك قالت: كان أبى مصطفى حاسمًا، قويًا، مرتبًا، دقيقًا، قليل الكلام، حنونًا بأسلوب يخصه، وله هيبة لم تفارقه حتى رحيله، وهناك أمور لا يتسامح فيها أبدا، كان منها: حصولى على الشهادة الجامعية، وعدم الزواج قبلها مطلقا، وبالفعل نفذ ما أراد، ومن شدة حسمه كنت اختبئ فى عطف أبى الثانى «عمى على»، فكانا شخصين مختلفان فى الطباع، رغم تطابق الشكل الذى قد يوحى بخلاف ذلك كما كثير من التوائم. وما زلت استحضر طيفه لأراجع كل تصرفاتى وأتساءل: هل لو كان أبى موجودًا كان سيبارك قرارا ما اتخذته أم لا؟! ولحظتها أشعر بألم ذكرى، وأسقط فى فخ انتظار الإجابات المستحيلة. تواصل «الأفكار» تأثرت «صفية أمين» بقلم والدها الصحفى جدا، ومشت على دربه، ولكنها استعانت ب «فكرتها» لتكون امتدادا ل «فكرة» أبيها، تناقش خلالها مشاكل اجتماعية بسطور قليلة وافية، وتكتب مقالا مليئا بالقيمة والنصيحة، ولكنها أكدت أن أباها عارض اشتغالها بالصحافة وحين سألتها عن السبب قالت: لم يكتفِ أبى بعدم تشجيعى على العمل بالصحافة، بل تعمد إبعادى عن هذا المجال، وأخبرنى حينها إنها مهنة «أشغال شاقة»، ولكن أمام إصرارى وافق بصعوبة، ولكنه اشترط أن أبدأ رحلتى بعيدا عن «أخبار اليوم»، حتى لا يجاملنى أحد من تلاميذه وبالفعل.. بدأت مشوارى مع صاحبة الجلالة فى دار الهلال، التى أعتز بتجربتى فيها كثيرا. موهبتان صحفيتان نادرتان وعن تاريخ عمل عملاقى الصحافة ابتسمت «صفية أمين» وقالت إن التوأمين اشتغلا بالصحافة فى عمر مبكر جدا، ويمكن اعتبارهما أصغر رئيسى تحرير فى العالم، إذ أنشآ «مجلة الحقوق» وهما بعمر ثمانى سنوات، وتحديدا عام 1922. وكانت عبارة عن كراس مبوبة صفحاته بسطور البراءة، خصصوها لأخبار «بيت الأمة»، الذى كان بيتًا آمنًا لأحلام وكواليس ما يخطط له الوطنيون فى مصر خلال مرحلة صعبة من تاريخها، إذ تربيا فى هذا البيت، على يد جدهما سعد زغلول «خال والدتهما»، فحُقنت عروقهما بالعطاء وحب الوطن، وكانا يكتفيان من الأخبار بما تسعه ذاكرة رئيسى تحرير بعمر 8 سنوات، وبعدها توالت الإصدارات التى أسساها أو اشتركا فى تأسيسها برقم ربما لم يحققه غيرهما. وماذا عن حكاية دقائق الميلاد الفاصلة بينهما؟ - خمس دقائق فقط فصلت بين ميلاد التوأمين، إذ ولدا فى 21 فبراير عام 1914 ولكن كما كان ل «على» السبق فى الحياة، شاء القدر أن يكون له السبق فى الموت، بينما لقىَّ «مصطفى» ربه فى أبريل أيضا، ولكن بعد توأمه ب 21 عاما، وتحديدا فى الثالث عشر منه عام 1997، عن عمر ناهز 83 عامًا. تنهدت صفية أمين بحزن وقالت: لم يمارس أبريل «كذبته» معى، إذ شاءت الأقدار أن تكون «حقيقة» وفاتهما المرة فى شهر أبريل، بتاريخين ليومين مختلفين، وكان مقدورا على مصطفى أن يعيش عذابات فقد توأمه «على»، فى الثالث منه عام 1976 عن عمر ناهز 62 عامًا، وأعيش أنا وباقى الأسرتين مرارة رحيلهما. وداعًا يليق بصاحب الدار صباح يوم 14 أبريل عام 1997 وفى جنازة تاريخية شيعت الجماهير جثمان الكاتب الكبير مصطفى أمين إلى مثواه الأخير، واحتشد آلاف البسطاء والوجهاء منذ الصباح الباكر أمام دار أخبار اليوم بشارع الصحافة، وامتلأ بهم ميدان الإسعاف فى انتظار وصول جثمان فقيد الصحافة المصرية والعربية، وفى تمام الساعة الثانية عشرة وصل الجثمان إلى دار أخبار اليوم. ولحظتها تغيرت ملامح الشوارع وعلا هتاف الآلاف بصيحات مزلزلة: الله أكبر ولا إله إلا الله، وتزاحمت مئات الأذرع على حمل الجثمان حتى استقر فى بهو مبنى «أخبار اليوم». وبعدها.. تحرك الموكب الجنائزى بصعوبة بالغة من تهافت محبى الرجل على حمل نعشه، حتى وصل إلى مسجد الشبان المسلمين بالإسعاف وأدى شيخ الأزهر حينها د. سيد طنطاوى صلاة الجنازة على الجثمان. وفى مقابر الإمام الشافعى ظهر فى كادر المشهد الأخير، سيدة بسيطة ترتدى ملابس قاتمة السواد، وبعينين تنهمران بالدموع، كانت تصيح: إلى جنة الخلد يا نصير الغلابة، إلى جنة الخلد يا حبيب المساكين، «إنا لله وإنا إليه راجعون».