كثيرًا ما نتحدث عن الاستقلال الاقتصادي، لكن السؤال الجوهرى هو: هل نحن فعلاً مستعدون لدفع الثمن وتحمل التبعات للوصول إليه؟ فالتصريحات الأخيرة للرئيس عبد الفتاح السيسى حول تقليل الاعتماد على صندوق النقد الدولى وضرورة مراعاة البعد الاجتماعى تسلط الضوء على مسألة حيوية. هذه التصريحات ليست مجرد خطاب عابر، لكنها تعكس نقلة نوعية فى التفكير الرسمى وعقل الدولة، ورغبة حقيقية فى بناء مصر أقوى وأقدر على مواجهة التحديات. المساعدات الخارجية ليست حلاً دائمًا، بل هى حلول مرحلية مؤقتة.. السؤال هنا: هل مصر قادرة فعلاً على مواجهة التحديات التى تصاحب التخلى عن الدعم الخارجي؟ يجب أن نعترف بأن تحقيق الاكتفاء الذاتى ليس مجرد أمنية؛ إنه مشروع طويل الأمد يتطلب قرارات صعبة قد تكون مكلفة على المدى القريب. علينا أن ننظر بواقعية: من سيواجه التبعات الأولى لتلك القرارات؟ غالبًا المواطن العادي، الذى سيتأثر بارتفاع الأسعار أو نقص السلع فى حال قررنا تقليل الواردات بشكل جذري. ومع ذلك، فإن الطريق نحو الاكتفاء الذاتى ممكن، فقد استثمرنا فى مشروعات قومية خلقت فرص عمل تدعم الاقتصاد الوطنى. كل المؤشرات تؤكد أن المشروعات القومية الكبرى، مثل العاصمة الإدارية الجديدة، ومشروع «حياة كريمة» لتطوير الريف المصري، ومشروعات الطاقة المتجددة مثل مجمع بنبان للطاقة الشمسية، ومشروع محطة الضبعة النووية، تساهم فى رسم مسار جديد لمصر. هذه المشروعات ليست مجرد استثمارات حكومية، بل تمثل رؤية استراتيجية تهدف لخلق كيانات اقتصادية وإنتاجية مستقلة. إن مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، على سبيل المثال، لا يهدف فقط لتخفيف الضغط عن القاهرة، بل يُعد حافزًا للاستثمار المحلى والأجنبي، ويوفر بنية تحتية حديثة للشركات. أما «حياة كريمة»، فهو مشروع رائد يسعى لتحسين جودة حياة ملايين المصريين فى القرى والمناطق النائية، مما يعزز الإنتاجية ويدعم التنمية فى كافة المحافظات، بدلاً من تركزها فى المدن الكبرى. كذلك، يفتح مجمع بنبان للطاقة الشمسية آفاقًا جديدة للطاقة النظيفة التى يمكن أن تقلل من الاعتماد على مصادر الطاقة المستوردة. أما مشروع محطة الضبعة النووية، فهو خطوة نحو تحقيق أمن الطاقة، مما يمهد لاقتصاد مستدام يعتمد على موارد محلية. هذه المشروعات تخلق فرص عمل وتدعم الاقتصاد المحلي، هذه خطوات على الطريق الصحيح، وما نحتاجه أكثر من مشاريع مستدامة تعتمد على تطوير الزراعة والصناعة والابتكار التكنولوجي. وهذا هو توجه الدولة، ألا نكتفى ببناء مدينة جديدة أو شبكة طرق حديثة، بل نخلق امتدادًا عمرانيًا واقتصاديًا يمكنه تحقيق الاكتفاء الذاتي. إن بناء اقتصاد مستقل يتطلب بجانب المشروعات الحكومية؛ تغييرًا فى عقلية المجتمع. المجتمع المصري، وللأسف، لا يزال يستهلك أكثر مما ينتج. كم من المنتجات نستوردها يوميًا رغم قدرتنا على تصنيعها محليًا؟ لماذا ننتظر دائمًا حلاً يأتى من الخارج بدلًا من تطوير الحلول بأنفسنا؟ يجب أن نفكر فى هذا السؤال بجدية. إن تحقيق استقلال اقتصادى حقيقى ليس مستحيلاً، ولكنه مسار شاق يتطلب التزامًا وإرادةً حقيقية من الدولة والمجتمع معًا. فالتخلى عن القروض والمساعدات ليس خطوة يمكن اتخاذها دون استعداد، بل هو مسار يجب أن نبنى له أساسًا قويًا يعتمد على الإنتاج المحلي، والتكنولوجيا، والتعليم الذى يؤهل أجيالاً قادرة على تحمل المسؤولية. فى النهاية، علينا أن ندرك أن الاستقلال الاقتصادى ليس مجرد مسألة سيادة، بل هو مسألة كرامة أيضًا. كم مرة سنسمح لأنفسنا بأن نكون تحت رحمة شروط الدائنين؟ حان الوقت لنبدأ فى بناء مصر التى تعتمد على نفسها، التى لا تنتظر من الخارج من ينقذها، والتى تواجه مصيرها بيدها.