من يتابع تطور العلاقات بين روسيا والغرب وعلى رأسه الولاياتالمتحدة منذ تفكك الاتحاد السوفيتى السابق ونهاية الحرب الباردة التى يفترض أنها سبقت عملية التفكيك (إن جاز لنا التعبير بشكل أكثر دقة) – من يتابع هذه التطورات منذ بداية التسعينيات من القرن الماضى وحتى يومنا هذا يجب أن يتوصل لنتيجة لا أعتقد بأنه يختلف عليها اثنان وهى مواصلة الحرب الباردة بأشكال ووتائر متعددة إلى جانب استمرار أسباب الصراع وتأصيل العداء حتى وإن كان فى بعض الأوقات بشكل غير معلن. فى مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتى ورثت روسيا ليس فقط مقعد الاتحاد فى الأممالمتحدة وممتلكاته الخارجية وقدراته النووية بل وكذلك ديونه الخارجية ومجموعة كبيرة جدا من المشاكل الاقتصادية والسياسية والأمنية، وظنت القيادة الروسية وقتها بقيادة باريس يلتسين أن الحل للخروج من هذه الأزمات الطاحنة والتى يئن الشعب بشدة تحت وطأتها إنما يكمن فى التقارب مع الغرب تحت أى مسمى وبأى شكل من الأشكال. ◄ الخطة الغربية ولقد استغل الغرب هذه الرغبة من جانب روسيا للتلويح للقيادة الروسية آنذاك بمكاسب ومساعدات لمساندة الاقتصاد الروسى ولكن كانت هذه التحركات ضد مصلحة بقية دول الاتحاد السوفيتى السابق وهو الأمر الذى رتب له الغرب بشكل دقيق جداً ومحنك لبناء حواجز نفسية بين روسيا والدول الشقيقة لها فى الاتحاد السوفيتى السابق ومنطقة شرق ووسط أوروبا، حيث نجح كثيرا فى تحقيق هذا الهدف، وربما أن السياسات التى اضطر الغرب روسيا لتبنيها فى هذه الفترة أو حتى من خلال دفع الغرب روسيا لتجاهل أوضاع هذه الدول هو الذى أصّل نوعا من مشاعر النفور بين شعوب العديد من دول الاتحاد السوفيتى السابق والدول الحليفة السابقة فى حلف وارسو تجاه روسيا، حيث يمكن القول بأن هذه المشاعر مازالت قائمة حتى اليوم وتعد حقيقة محرك سياسات هذه الدول تجاه روسيا حتى فى ظل غياب الأسباب الموضوعية لها فى الوقت الراهن. كما شهدت مرحلة ما قبل حكم الرئيس الروسى الحالى فلاديمير بوتين سياسات ثابتة يصر عليها الغرب فى مجال التحقير من شأن روسيا والعمل على إذلالها داخليا وخارجيا، ولنا أن نتذكر حقبة الرئيس الروسى الأسبق بوريس يلتسين الذى كانت الولاياتالمتحدة وبعض دول الغرب تتعمد إظهاره بمظهر ساخر ومهين على مرأى من العالم أجمع، ويمكن القول بكل ثقة أن تبنى سياسات معادية لروسيا أو القيام بأعمال للاستخفاف بها وإهانتها أمام العالم كان هو العامل الرئيسى والشرط الأساسى لمنح هذه أو تلك من هذه الدول للمساعدات والقروض والهبات المختلفة، كما كان الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة يغرى قيادات مختلف دول الاتحاد السوفيتى السابق على إعلان التمرد على روسيا والابتعاد عنها، بل واختلاق المشاكل والخلافات معها دون أية مقدمات أو دواعٍ، وكأن هناك سباقًا بجوائز مجزية لمن يمعن فى إذلال روسيا وشعبها. ◄ الإعلام الغربي وكان للإعلام الغربى دوره الرئيسى فى إمعان تثبيت الصورة الذهنية السلبية لدى الشعوب الغربية عن كل ما هو روسي، بما فى ذلك عن المواطنين الروس، حيث ساعدهم فى ذلك انتشار المافيا الروسية فى كافة الدول الغربية وتوغلها وسط عالم الجريمة، وجاءت فترة كان الكثيرون يعتقدون بأن مشاكل الغرب الأمنية تنبع من المافيا الروسية التى كان ينسب لها كافة الجرائم والموبقات، ورغم أنه كان يوجد فى الغرب مافيا أوكرانية وتشكيلات عصابية أخرى من مختلف دول الاتحاد السوفيتى السابق وكذلك من شرق ووسط أوروبا ولكن كون هؤلاء يتحدثون اللغة الروسية أو حتى يعرفونها يكفى لوصفهم بالمافيا الروسية وإلصاق جرائمهم بالروس. وكان من أهم وأخطر ملفات الخلاف بين روسيا والغرب هو ملف الإرهاب حيث كان الغرب ومن خلال بعض الدول يدعم الحركات الانفصالية التى تتبع أساليب الإرهاب فى روسيا، والأكثر من ذلك هو أنه لم يكن يخفى ذلك أو حتى يحاول إخفاءه، وكان يطلق على ما يجرى داخل روسيا من عمليات إرهابية تطيح بحياة العشرات والمئات من البشر بأنها عمليات نتاج الخلاف بين القيادة الروسية وبين القوى الوطنية الانفصالية التى لم يطلق الغرب عليها لفظ الإرهاب ولكن ظل يبرزها على أنها قوى مسلحة أو مقاتلة، وعندما يتعرض الغرب لأية عمليات من ذات القوى والقوميات كان ينسبها إلى روسيا ويطلق عليهم «إرهابيين روس». وحتى عندما تعرض الولاياتالمتحدة لسلسلة من العمليات الإرهابية فيما يعرف "بأحداث سبتمبر" فى عام 2001 كانت روسيا فى مقدمة الدول التى أدانت العمليات الإرهابية وأعلنت التضامن مع الولاياتالمتحدة بل وتنشيط التعاون بين البلدين فى مواجهة الإرهاب، واضطرت إما إلى الموافقة أو غض الطرف عن التحركات الأمريكية فيما حاولت إيهام العالم بأنها لمكافحة الإرهاب الدولي، وذلك على أمل خلق الفرص بين البلدين للعثور على نقاط ودوائر لتلاقى المصالح والتوصل لتفاهم مشترك انطلاقًا نحو تعزيز العلاقات والتعاون، ولكن كان لدى الغرب والولاياتالمتحدة رأى آخر، حيث أمعنا فى مواصلة سياساتهما الاستفزازية تجاه روسيا سواء من ناحية دعم ومساندة الإرهاب داخل روسيا وتقديم الملجأ لزعماء هذه الحركات، ومواصلة توسعة عضوية حلف الناتو على حساب دول شرق ووسط أوروبا والاتحاد السوفيتى السابق وكانت أهم أسس العضوية فى الحلف هى "الصدق فى معاداة كل ما هو روسي"، وفيما يخص الدول التى لا يسعى الحلف لضمها فى صفوفه أو لا يتعجل ذلك فقد أنشأ لها برنامجًا خاصًا تحت عنوان "الشراكة من أجل السلام"، وباسم مكافحة الإرهاب أقدم الحلف والولاياتالمتحدة على إنشاء ركائز وقواعد لهم فى بعض دول الاتحاد السوفيتى السابق وذلك استغلالًا للظروف القائمة وقتها وعدم اللياقة من جانب روسيا لرفض هذه التحركات فى ظل مكافحة الإرهاب وإن كان غالبية هذه الخطوات إن لم يكن جميعها يهدف إلى الاقتراب من الحدود الروسية. ◄ برامج تعاون وفى العقد الثانى من الألفية الثالثة توسع الغرب بشكل كبير جدا فى برامج التعاون العسكرى الفنى وغيرها من البرامج مع عدد من دول الكومنولث، حيث زادت كثافة تواجد قوات حلف الناتو فى البحر الأسود وهو ما كاد ينذر أكثر من مرة بإمكانية وقوع الصدام، حتى وإن كان عن طريق الخطأ أو الصدفة وكاد أن يهدد البشرية بحرب عالمية ثالثة، رغم أن هذه الاحتمالية لم تنته حتى الآن. ولبيان مدى إصرار حلف الناتو بقيادة الولاياتالمتحدة على استفزاز روسيا على مدار مختلف السنين يكفى أن نشير إلى أن السفن العسكرية التابعة لحلف الناتو قضت فى البحر الأسود فى عام 2018 وحده عدد 120 يومًا وقبلها وفى عام 2017 قضت به 80 يومًا، مع العلم بأن الدول المطلة على البحر الأسود كانت قد أبرمت فيما بينها معاهدة فى سويسرا لتنظيم تواجد السفن العسكرية التابعة للدول غير المتشاطئة على البحر، بحيث لا يزيد تواجد أية سفينة عسكرية أجنبية فى البحر الأسود عن ثلاثة أسابيع وألا تزيد حمولتها عن ثلاثين ألف طن مع تحديد نوعيات تسليح هذه السفن والإفصاح مسبقا عن هدف تواجدها، وغيرها من التفاصيل التى ظلت دول حلف الناتو تمعن فى مخالفتها على مدار الكثير من السنوات، ويكفى أيضاً أن نشير إلى أن الفترة من 2013 وحتى 2020 شهدت أكثر من 2900 حادثة بين روسيا وحلف الناتو، بما فى ذلك 85% من هذه الحوادث هو انتهاك للمجال الجوى بشكل مباشر أو ردًا على انتهاك أحد الطرفين للمجال الجوى للطرف الآخر، وتؤكد المصادر الاستخبارية الروسية أن الحدود الروسية المختلفة تعرضت فى الفترة من 2019 – 2020 لأكثر من 2600 مهمة سرية فى مجال الاستطلاع والتجسس على الأراضى الروسية، واضطرت الطائرات الروسية للتحليق 491 مرة فى هذه الفترة لمطاردة طائرات التجسس التابعة لحلف الناتو والولاياتالمتحدة وهو ما كاد ينذر بكوارث أكثر من مرة . وكان من أخطر الحوادث التى وقعت بين الجانبين هو حادث انتهاك المدمرة البريطانية ديفيندر المياه الإقليمية الروسية فى 22 يونيو من عام 2021 وهو ما دفع القطع البحرية الروسية لفتح النار عليها للتحذير، وحرص الجانب البريطانى فى غضون ذلك على نفى انتهاك المياه الإقليمية لروسيا وادعى أن هذه المنطقة تعتبر من مياه أوكرانيا، حيث وقع هذا الحادث عشية المناورات البحرية الكبرى التى نفذها حلف الناتو فى البحر الأسود دعما لأوكرانيا تحت مسمى Sea Breeze 2021، وهى المناورات التى شاركت فيها 32 دولة بقيادة الأسطول السادس الأمريكى إلى جانب 32 سفينة عسكرية من مختلف الدول و40 طائرة مقاتلة وأكثر من خمسة آلاف جندى بما فى ذلك 18 فريقًا من القوات الخاصة، فيما يبدو كنوع من استعراض القوة لإرهاب الدولة الروسية. ◄ حوادث مختلفة هذه النوعية من المناورات والحوادث المختلفة لم تجبر روسيا على تغيير مواقفها ولكنها تمسكت بها بل وزادت من صلابتها وهو ما يدل على أن هذا الأسلوب لا يصلح مطلقا لتهدئة الأوضاع وتحقيق المصالحات ونشر السلام والاستقرار، وإنما هو أسلوب يصر عليه الغرب لإذلال الدب الروسى رغم فشله، ومع ذلك يصر عليه الغرب وفى سبيله لذلك يضحى بهذه أو تلك من الدول، فقد سبق وخسرت جورجيا أجزاء عزيزة من أراضيها دون طائل وها هى أوكرانيا تواصل خسارة أراضيها وخيرة شبابها وأيضا دون طائل. لا شك فى أن أسلوب تعامل الولاياتالمتحدة والغرب مع روسيا لن يقود فى النهاية سوى إلى الحرب الكبرى التى ستتسبب فى دمار رهيب للبشرية حتى ولو لم يرغب الجانبان فى نشوبها، ويكفى للغرب الذى يعتقد بهيمنته على العالم أن يدرك أن أحدًا فى العالم لم يعد يطيق هذه الأساليب التى لا تختلف فى شيء عن الاستعمار القديم، وأصبح يلفظ التعاون معهم ويسعى بكل قوة لبناء نظام عالمى يسوده العدل والمساواة والإنصاف حيث أعرب ما يسمى بعالم الجنوب عن ذلك خلال القمة الأخيرة لبريكس، تلك القمة التى حرص المشاركون خلالها على مواجهة الغرب بالحقيقة كاملة وأن النظام الذى يؤصلون له لا مكان له فى العالم وأن بريكس ربما ستكون النواة لقيام نظام عالمى جديد رضى من رضى أو أبى من أبى، فهل سينصت الغرب لصوت العقل ويتجاوب مع رغبة الأغلبية أم سيواصل تحدى العالم واستفزاز الدب الروسى وقيادة العالم نحو حرب جديدة لا تبقى ولا تذر.