span style="font-family:"Arial","sans-serif""بدا حضن أبي كشلال حب جارف .. هكذا شعرت وهو يحتضنني .. شعرت بحنان ودفء لم أعتادهم طيلة حياتي .. نظرت إلى عينيه وتعجبت من ذلك البريق المتلألئ خلف دموع تأبى أن تنزل حتى لا أحد يشعر بضعف صاحبها .. وتساءلت في نفسي لعل البعد هو الذي فجر ينابيع الأبوة الكامنة في قلبه الحجري أو هكذا بدا لي .. span style="font-family:"Arial","sans-serif""لم أعرف لكنني غرقت في دوامة من الحيرة وآلاف الأسئلة تحاصرني تجتذبني في كل اتجاه حتى كادت أن تمزقني .. نظرت إليه وتحجرت عيناي .. تفرست في وجهه لعلني أجد ما بين تجاعيد وجهه تلك المشاعر الضائعة كمن يبحث عن المعنى ما بين السطور .. ولكني تجمدت حينما تذكرت أن خلف كل قسمة من قسمات وجهه جرح غائر مازال ينزف في قلبي .. جرح لا يستطيع الزمن أن يضمده .. span style="font-family:"Arial","sans-serif""وقفت أتسائل كيف يضمد الزمن جراح ابن لم يجد يوما أبا يحنو عليه .. شعرت بوخز في صدري وتعالت نبضاتي وأنا أغوص في أعماق نفسي لعلني أجد موقف واحد يشفع له يقبع خلف ركام من القسوة والظلم الجائر .. بحثت في ذلك الوادي السحيق في أعماق نفسي عن ذكرى واحدة جميلة تحمل بريق نور لتلك الظلمة الموحشة داخل سراديب روحي ولكني فشلت .. span style="font-family:"Arial","sans-serif""وعدت أنظر إلى عينيه الغائرة لكنى أدركت أن فراقي له الذي دام عشر سنوات أنهك تلك الأعصاب الفولاذية .. وأذاب ذلك القلب الثلجي من حرارة الشوق والحنين إلى الابن الوحيد الذي ظن انه سيكون عكازه في وقت العجز والمحن، دون أن يدرك أن ذلك العكاز وتلك الشجرة التي تمني أن يستظل بها في أواخر أيامه كانت بحاجة إلى من يسقيها وهي نبتة صغيرة من رحيق الحب والحنان، بل رحيق الاحترام والتقدير حتى تنبت يافعة ومورقة ومثمرة من ثمار الوفاء، وحفظ الجميل لذلك الأب الذي لم يعرف وهو في ريعان شبابه أن ابنه ليس سلة مهملات التي يلقى بها كل إحباطاته وعصبيته، وأن ابنه ليس مجال صراعاته النفسية مع ذاته أو مع أمي شريكة حياته التي قاست مثلى وتحملت من أجلي الكثير. span style="font-family:"Arial","sans-serif""تركت أبي وأدرت ظهري له ودخلت إلى حجرتي.. بل دخلت إلى مخزن دموع الطفولة ومستوطن إحباطات الصبا .. بل وقبر أحلام الشباب التي استقرت في باطنه دون أمل .. span style="font-family:"Arial","sans-serif""وهنا تذكرت لحظة الرحيل يوم أن أطلق قطار العمر صفارته لتبدأ الرحلة في بلاد الغربة .. رحلة ظننت في بداياتها أنها ستكون رحلة سعيدة مشبعة للنفس والروح معا .. رحلة يرتوي فيها العطش ويشبع الحرمان .. الرحلة طالت لكن دون ارتواء أو شبع .. فما أبشع أن تسير بأقدام عارية في أرض الغربة الموحشة فتحفر فيها أخاديد الألم فتنزف وتنزف دون أن ترتوي تلك الأرض العطشى للدماء .. span style="font-family:"Arial","sans-serif""وجاءت اللحظة التي قررت فيها العودة .. اللحظة التي تعرت فيها كل الحقائق وسقطت ورقة التوت التي تستر خلفها الإنسان منذ بداية الخليقة .. سقطت ورقة التوت لتكشف قبح غدر تلك الإنسانة الوحيدة التي أحببتها.. وظننت أنني معها سأجد ما أفتقده على مر الأيام والسنين .. سأجد الحب الأمان الوفاء التقدير والاحترام.. سقطت ورقة التوت وتركتني مدمر القلب والأعصاب .. وهنا أدركت أن لا مفر من العودة.. فعدت دون أن أدرك أن الآلام تحاصرني من كل اتجاه ....