لا تضع تل أبيب حدودًا أمام جموحها العسكرى فى لبنان ولا فى غيره من «دول الجوار»، فإذا كانت حماس ذريعة للعدوان على قطاع غزة والضفة الغربية، فمواجهة حزب الله باتت مبررًا لغزو لبنان، والانطلاق منه إلى جبهات عربية أخرى، تفكَّكت دولها وشعوبها منذ ما يُعرف ب «الربيع العربي». ويتغذى الجموح العسكرى الإسرائيلى على أيدلوجيات متطرفة، تعتبر العدوان على لبنان خطوة أولى على مسار التمدد الجغرافي، لخلق ما يُسمَّى ب«إسرائيل الكبرى». اقر أ أيضًا | التفاوض تحت النار... هل تتغير سياسات تل أبيب تجاه التهدئة؟ حتى مع نفى إسرائيل الرسمية خططًا غير معلنة فى هذا الخصوص، تتبارى الدوائر المتطرفة داخل حكومة «الليكود» بخطواتها العسكرية، الرامية إلى إحراز الهدف القديم الجديد؛ وربما كان ذلك واضحًا فى كلمة وزير المالية الإسرائيلى بيتسلئيل سيموتريتش، حين اعتبر فى مؤتمر بالعاصمة الفرنسية باريس أن «الشعب الفلسطينى مجرد اختراع لا مكان لوجوده»، وتلويحه على المنصة بخريطة إسرائيل التى تشمل الأردن وكامل الأراضى الفلسطينية المحتلة، فضلاً عن لبنان، وسوريا، والعراق، حسب موقع أكسيوس الأمريكي. وإذا كانت بداية الحروب أسهل بكثير من وضع أوزارها، يثبت الواقع العسكرى الإسرائيلى فى قطاع غزة والضفة الغربيةولبنان استلهام اليمين المتطرف فرصة مثالية من تلك الاعتداءات، لتنفيذ خطة «إسرائيل الكبرى»، حسب تعبير صحيفة «لوموند»، التى أعادت مرجعية الأيدلوجيات الإسرائيلية المتطرفة إلى «الفاشية الصهيونية التحريفية» ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأكدت بلورتها فى ديسمبر 2022، بعد تشكيل ائتلاف حكومى من اليمين الصهيونى الدينى المتطرف، الذى وصفه حتى مؤرخ المحرقة الإسرائيلى دانييل بلاتمان ب«النازيين الجدد». وفيما ينحدر حزب القوة اليهودية «عوتسما يهوديت»، بقيادة إيتمار بن جافير من حركة «كاخ»، التى أسسها اليهودى العنصرى مئير كاهانا، والذى دعا إلى «النقل» الفورى للعرب من «أرض إسرائيل»، أو بعبارة أخرى، التطهير العرقى لكامل الأراضى من البحر الأبيض المتوسط إلى الأردن، تصدَّر بيتسلئيل سموتريش عناوين الأخبار فى أكتوبر 2021، عندما قال للنواب العرب فى الكنيست: «من الخطأ أن بن جوريون لم يكمل المهمة، ولم يطردكم عام 1948». ربما تحركت المياه الراكدة بشكل أكبر إزاء أيدلوجيات إسرائيل المتطرفة فى منطقة الشرق الأوسط حين نشرت صحيفة «جيروزاليم بوست» مقالًا (حذفته لاحقًا) تحت عنوان «هل لبنان جزء من الأراضى الموعودة لإسرائيل؟»، وحسب مجلة «ذى ويك» البريطانية، زعم كاتب المقال المنشور فى 25 سبتمبر الماضي، بالتزامن مع اجتياح جيش الاحتلال جنوبلبنان، أن « لبنان يدخل فى إطار أرض بنى إسرائيل الموعودة، فهذه الأرض التى تحدثت عنها التوراة تشمل الضفة الغربيةوغزة وأجزاء من لبنان، وسوريا، والأردن، والعراق، وتركيا». واعتبر موقع «ميدل إيست مونيتور» (MEM) نشر المقال وتوقيته دليلاً على طموحات اليمين الإسرائيلى المتطرف التوسعية فى المنطقة. ولا يرى المراقبون بدًا من اعتزام إسرائيل احتلال لبنان، لا سيما فى ظل مخاوف مجلس الأمن الدولى الجادة من استهداف آلة حرب الاحتلال قوات «اليونيفيل» فى جنوبلبنان. وفى لقاء مع مجلة «ذى ويك»، أكدت الباحثة كيارا روفا أن «استهداف الجيش الإسرائيلى قوات «اليونيفيل»، يعود بالأساس إلى رغبة إسرائيل فى انتزاع وجود أى قوات دولية، ليتسنى له الزحف والتوغل فى لبنان بعيدًا عن أى عوائق من الرقابة الدولية». وتشير الباحثة إلى احتمالية رغبة إسرائيل فى إزاحة قوات «اليونيفيل» لتكرار سيناريو احتلال قطاع كبير من جنوبلبنان، كما فعلت إبان الفترة ما بين 1982 حتى عام 2000. ولا ينكر وزير المالية سيموتريتش جموح آلة الحرب العسكرية والأيدلوجية الإسرائيلية نحو خلق دولة «إسرائيل الكبرى»، وفى سياق مقابلة فى فيلم وثائقى أنتجته وبثته قناة Art تحت عنوان «إسرائيل: المتطرفون فى السلطة»، قال سموتريتش: «أريد دولة يهودية.. تعمل وفقًا لقيم الشعب اليهودي». وفى رد على سؤال حول اعتزام إسرائيل بسط سيادتها من النيل إلى الفرات، رد سيموتريتش بابتسامة: «نعم، ولكن شيئًا فشيئًا». وأوضح الوزير الإسرائيلى المتطرف فى سياق العمل التسجيلى أن «التعاليم التوراتية تنص على توسيع نطاق مدينة القدس ليشمل فى إطاره العاصمة السورية دمشق»، لكن معدى الفيلم الوثائقى الناطق بالفرنسية، قاموا بتشريح وتفصيل خطة وزير المالية الإسرائيلي، التى تعبر عن توجه اليمين اليهودى بشكل عام، وتنص على توسيع إطار الدولة الإسرائيلية لتشمل الأردن، ولبنان، ومصر، وسوريا، والعراق، والسعودية. وتزامن تبجُّح الوزير المتطرف مع قصف آلة الحرب الإسرائيلية للبنان، ودعوة الجماعات الاستيطانية المتطرفة إلى بقاء قوات الاحتلال فى لبنان واستيطان كامل أراضيه. إلا أن فصيلاً من إسرائيل الرسمية، يصر على اقتصار عملية «سهام الشمال» العسكرية على هزيمة حزب الله، ولم تعلن تل أبيب رسميًا أى خطط لاحتلال لبنان وتوطين اليهود فى الأراضى التى احتلتها حديثًا. مع ذلك، تشى آراء شخصيات حكومية مثل سيموتريتش، بالإضافة إلى قاعدة دعم استيطانية كبيرة، باحتمالية جنوح إسرائيل إلى توسيع نطاق إسرائيل عبر غزو الدول العربية المحيطة. على الصعيد ذاته، يجسد فيلم وثائقى آخر، أنتجته وبثته قناة TRT World تحت عنوان «الفداء المقدس»Holy Redemption كشفًا صارخًا للأيديولوجية الصهيونية العنيفة، التى تغذيها أساطير تراثية يهودية، وجماعات استيطانية فى مقدمتها: جماعة «شباب التلال» المعروفة أيضًا ب «دواعش إسرائيل». الفيلم التسجيلى يعكس مدى عنف العقيدة الاستيطانية، وإيمانها الزائف بألوهية أوامر تأسيس « دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات» التى تمتد إلى دول الجوار الإسرائيلي. ولا تضع عقيدة التوسع الاستيطانى فى دول الجوار الإسرائيلى مانعًا أمام كل ما يحول دون تحقيق الهدف، فبينما يجرى الاعتماد على آلة القتل الإسرائيلية، حسب فيلم «الفداء المقدس»، لا تمنع التعاليم والفتاوى اليهودية جماهير المستوطنين من تشريد الشعوب العربية، وهدم المنازل والمدارس، وتخريب أكبر مساحة ممكنة من المزارع، وتدمير شبكات المياه، وتسميم الآبار، وقتل الماشية، بموجب «التعاليم التوراتية»، حسب معتقد المتطرفين اليهود. وتغاير الاسراتيجية العسكرية والأيدلوجية الإسرائيلية ما تعلنه تل أبيب عبر وسائل الإعلام، حين اختزلت أهداف عدوانها فى لبنان على احتلال شريط أمنى لا يتجاوز عشرة كيلومترات من الحدود، وفتح المجال أمام عملياتها المستقبلية فى العمق اللبناني، كلما استدعى الأمر، وفقًا لتقديراتها الأحادية، التى لا تراعى سيادة إقليمية أمام آلتها الحربية الغاشمة.