شهدت الدراما التلفزيونية في السنوات الأخيرة اهتماما ملحوظا لإنتاج مسلسلات تتناول عالم القانون والمحاماة، حيث أصبحت هذه النوعية من الدراما محور اهتمام واسع من قبل الجمهور وصناع الفن على حد سواء, وتميزت بمزيج من الإثارة والتشويق، مع حبكة درامية معقدة تضع المحامين والقضايا القانونية في قلب الأحداث, لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا تحظى هذه المسلسلات بشعبية كبيرة؟، و"ما السر وراء انجذاب الصناع والمشاهدين لصراعات المحامين وخبايا المحاكم؟, و"هل تعكس تلك الأعمال الواقع فعلا أم أنها تعتمد على المبالغة لجذب انتباه الجمهور؟". في هذا التحقيق، نلقي نظرة على الأسباب التي جعلت مسلسلات القانون تتصدر المشهد الفني، ونستعرض أراء المتخصصين حول تأثير هذه الأعمال على الوعي القانوني للجمهور. في البداية ترى الناقدة الفنية خيرية البشلاوي، إن إقبال صناع الفن على المسلسلات القانونية يرجع إلى احتوائها على 4 عناصر مهمة: "الإثارة، التشويق، اللغز الذي يحتاج إلى حل، الشخصيات القوية والشريرة التي تثير حيرة وتفكير المتلقي", وتقول: "لكل مرحلة من التطور الاجتماعي مناخا خاصا يلهم بالأفكار، وفكرة القانون أصبحت محورية بسبب انشغال المجتمع بها، خاصة في مراحل معينة قد يفقد القانون فيها هيبته واحترامه، مما يؤدي إلى غياب دوره في ضبط إيقاع المجتمع الذي يعاني من حالة تفكك وتسيب، مما يجعل فكرة الأمان - المرتبطة بالقانون – مهمة". وتؤكد البشلاوي أن رواج هذه النوعية من الأعمال الفنية يزداد كلما تفاقمت نسبة الجريمة، وتتابع قائلة: "أفلام الجريمة والمافيا وعالم القانون تشكل مادة موضوعية جذابة للغاية ومثيرة، وقد كانت كذلك منذ بداية صناعة السينما, هذه الأفلام غالبا ما تتميز بشخصيات معقدة ومركبة تثير حيرة المتفرج وتدفعه للتفكير العميق في دوافعها وأفعالها, ومثل هذه الشخصيات تجذب الجمهور لأنها تقدم جوانب نفسية وإنسانية متناقضة، وتضع المشاهد في موقف يتطلب منه التحليل والاندماج مع تعقيدات القصة، مما يعزز من إثارة وتشويق هذه الأعمال". وتؤكد: "ليس بالضرورة ارتباط هذه الأعمال برسائل حقيقية تتجاوز فكرة الترفيه أوالربح، وإلا كنا قد لاحظنا تأثيرا واضحا على وعي الجمهور أو رادعا فعليا للمجرمين واللصوص, فلو كانت هذه الأعمال تساهم بشكل فعال في تحسين الأوضاع، لكان المجتمع اليوم أكثر استقرارا وأمانا مما عليه في الواقع.. حتى أن أحد أساتذة القانون الدولي المعروفين أعلن توقفه عن تدريس القانون، مشيرا إلى تناقض تعليم القانون للطلاب في وقت يتم فيه انتهاك القانون ولا يطبق كما ينبغي, فنحن في أمس الحاجة إلى رسائل حقيقية تقدم من خلال القوى الناعمة، مثل الفن والإعلام، لتعزيز الوعي بأهمية القانون ودوره في تحقيق العدالة وإستقرار المجتمع, خاصة في ظل انتشار الجريمة بكل مكان حول العالم, فالواقع يقدم مادة درامية غنية لصناع الفن الذين يهتمون بهذا النوع من الأعمال". أما فيما يتعلق بقدرة هذه الأعمال على نقل صورة واقعية عن عالم المحاماة، ترى البشلاوي أنها غالبا ما تستند إلى قشور الواقع وتغلب عليها المبالغة لصالح الترفيه, كما أن المجتمع الطبقي ينعكس بوضوح على فئة العاملين في القانون, هناك المحامي البسيط الذي يمارس مهنته من مكتب متواضع، والمحامي الأنيق الذي يتقاضى مبالغ طائلة نظير مرافعته في قضية واحدة, وبجانب هؤلاء، نجد المحامي السوي الذي يعمل بضمير، والذي يتلاعب بثغرات القانون لتحقيق مكاسب غير مشروعة, هذا التنوع في الشخصيات والمواقف يوفر خلفية خصبة للأعمال الفنية التي تسعى لتقديم صورة أكثر دقة وواقعية عن عالم القانون. "حوار مجتمعي" بينما يرى الناقد رامي المتولي إن انتشار ورواج الدراما التي تتناول عالم القانون والمحاماة لا يعود إلى سبب محدد، وإنما لأنها نمط درامي محبوب من الجمهور, ويقول: "تتنوع هذه الأعمال بين أنماط عدة، منها المسلسلات التي تركز على الصراعات بين المحامين داخل مكاتبهم، مثل مسلسل (Suits بالعربي)، وأخرى تركز على ساحات المحاكم، مثل مسلسل (الميزان) لغادة عادل، حيث كانت معظم المشاهد مرتبطة بالمحكمة, فهذا النمط الدرامي ينشق عنه فروع كثيرة، ويجذب الجمهور بسبب السجلات القانونية وخبايا القانون، سواء في الأفلام أو المسلسلات، حتى منذ أيام الأبيض والأسود, ومن أبرز الأعمال في هذا المجال على المستوى العالمي فيلم (12 Angry Men)، حيث تدور جميع أحداثه داخل غرفة مداولات المحلفين, فالمجال القانوني بشكل عام مليء بالقصص المثيرة والمشوقة التي تجعل منه مادة جاذبة للصناع وللمشاهدين". ويتابع: "مفهوم مطابقة الواقع لا يتماشى مع المتطلبات الدرامية الفنية، فمن الضروري أن تتضمن الأعمال الدرامية بعض المبالغة في سرد الأحداث لإضفاء عنصر الجذب والإثارة, بدون هذه المبالغة، قد تفقد الأعمال الفنية قدرتها على جذب انتباه الجمهور, ومن الطبيعي أن نجد في هذه الأعمال مساحة من الخيال والاختزال، لأنها تهدف إلى تقديم قصة درامية شيقة وليس نقل الواقع بحذافيره, الاستثناء الوحيد لذلك هي الأعمال الوثائقية التي تسعى إلى تقديم الحقيقة كما هي، أما في الأعمال الروائية، فإن الانحراف عن الواقع قليلا ضروري لخلق تجربة درامية تلامس مشاعر الجمهور وتثير اهتمامه". ويضيف المتولي: "أما عن الفروقات في المسلسلات المعربة من أعمال أجنبية قد تكون محدودة في بعض الأحيان، لأن المهنة واحدة في أي دولة حول العالم, في الدول الأجنبية، نجد نماذج مشابهة لتلك الموجودة فى مصر، مثل المحامي الذى يحمل حقيبته ويعمل أمام أو داخل المحكمة في انتظار القضايا، وأيضا النموذج الآخر الذي يتميز بالأناقة والمكاتب الفاخرة, هذا السلوك جزء من المهنة فى كل مكان، ولكن الفارق يكمن في كيفية رصد هذه النماذج من خلال الدراما". ويستكمل حديثه بالقول: "بالطبع، هناك بعض المبالغة في تجسيد هذه الشخصيات لزيادة الجاذبية والإثارة، ولكن هذا لا ينفي أن تلك النماذج لها أساس في الواقع, فنموذج المحامي الذي يشبه (العرضحالجي) موجود بالفعل، وكذلك المحامي ذو المكاتب الفخمة, هذا التوازن يظهر في الدراما المصرية كما يظهر في الدراما العالمية، بغض النظر عن اختلاف الأنظمة القضائية بين الدول". ويستطرد المتولي قائلا: "الدور الذي تلعبه هذه الأعمال الفنية في تعزيز وعي الجمهور يتلخص في فتح حوار مجتمعي يدعو المشاهدين للاشتباك مع القضايا المطروحة, من خلال هذا الحوار، يبدأ الجمهور في التعبير عن أرائه، مما يؤدي إلى تضاد بين وجهات النظر, هذا التضاد يفتح المجال للنقاش، والذي بدوره يمكن أن يصل إلى نتائج مفيدة دون تعمد تقديم رسائل توعوية مباشرة". اقرأ أيضا: بعد «برغم القانون».. محمد القس: لهذا السبب أبتعد عن دراما رمضان 2025| حوار "رأي القانون" لكن كيف يرى المحامون تصوير مهنة المحاماة بالدراما, وهذا السياق يقول المستشار محمد الموافي، المحامي بالنقض: "تصوير مهنة المحاماة في الدراما ليست دائما بالشكل اللائق أو المقبول, إذ تظهر بعض الأعمال شخصية المحامي بشكل سلبي، كإنسان شرير أو محتال يتلاعب بثغرات القانون لتمويه العدالة, وفي المقابل، توجد أعمال أخرى تقدم صورة المحامي كشخص محترم وشريف يدافع عن القيم والمبادئ، مما يعكس الرسالة الحقيقية للمحاماة". "وقد يبدو للمشاهد أن الموضوع مركز على مهنة المحاماة، لكن في الحقيقة الأمر أوسع من ذلك, وأعتقد أن الأعمال الدرامية، حتى تتمكن من تضمين عناصر الإثارة والتشويق، تحتاج إلى نقل المشاهد من حدث إلى آخر بشكل سلس, ولخلق أحداث مثيرة، يتم رسم شخصية المحامي لتكون محور العمل، مما يجعله الشخصية الأساسية أو البطل, وبالتالي، يسلط الضوء على المحامي كعنصر مركزي في السرد، مما يسهم في جذب انتباه الجمهور وإثراء تجربة المشاهدة". ويضيف الموافي: "مهنة المحاماة تعتبر في جميع الدول ذات مكانة مرموقة وسلطة كبيرة, ويحترم المحامي لأنه يمثل صوت المواطن ويعمل على استعادة الحقوق لأصحابها, ودائما ما يسعى الناس وراء مفهوم الحق وانتصار الخير على الشر, لذا، إذا كانت الأعمال الدرامية تجسد نموذج المحامي المدافع عن الحق، فسوف تجد الجمهور يتفاعل بشكل إيجابي ويسعى لمتابعة مثل هذه الأعمال, وعلى العكس، إذا تم تصوير المحامي بصورة سلبية، قد يؤثر ذلك على صورة المهنة ويجعل الناس يتجنبونها". "وأرى أن العمل الفني يجب أن يكون ذا مغزى ويحتوي على رسائل بطريقة غير مباشرة، حتى لا يساء إلى المحامين ومهنة المحاماة, ويمكن للفن أن يعكس الواقع ويعبر عن قضايا مجتمعية مهمة دون أن يظهر الصورة النمطية السلبية أو يفرغ المهنة من قيمتها, فمن الضروري أن يبرز العمل الفني الجوانب الإيجابية للمحاماة ويشجع على فهم أعمق لدور المحامي في المجتمع". ويختتم الموافي حديثه بالقول: "بشكل عام، يجب إعادة النظر في تصوير مهنة المحاماة بالدراما، بحيث تبرز الجوانب الإيجابية والمبادئ السامية لهذه المهنة، مع الأخذ في الاعتبار الظروف الاجتماعية التي تؤثر على هذا التصور".