منذ 31 عاما عاش العالم كله وشعوب منطقة الشرق الأوسط والدول العربية على أمل أننا قد نكون أمام لحظة تاريخية استثنائية عندما جمع الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر بين كل من الزعيم الفلسطينى الشهيد ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل الأسبق إسحاق رابين فى احتفال التوقيع على اتفاق أوسلو مما اعتبره البعض نقطة فاصلة ما بعدها يختلف جذريا عما قبلها.. بعد لقاء الأعداء التاريخيين سمح الاتفاق لياسر عرفات بالعودة الى وطنه بعد تغريبة استمرت عشرات السنين للعمل بهمة فى إقامة حلم الدولة الجديدة ولكنه سرعان ما اكتشف الحقيقة ان كل بند فى الاتفاق يحتاج الى جولة مفاوضات جديدة وأن المرحلة الانتقالية تم تضمينها فقط لمجرد التسويف وأن السلطة التى حلم بها تعيش تحت حصار كامل صلاحيتها محدودة وتتلاشى يوما بعد يوم.. ولم يحتمل الشعب الفلسطينى إجهاض حلمه فخرج فى الانتفاضة الثانية عام 2000 فى 28 سبتمبر منذ 24 عاما بالتمام والكمال واستمرت إسرائيل فى مخططاتها باتجاه توسيع المستوطنات وزيادة أعداد المستوطنين وتهويد الأماكن المقدسة كما زادت معدلات العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة فى أعوام 2002 و2009 و2014 و2019 و2021 والعام الماضى حتى وصلنا الى العدوان الأخطر المستمر حوالى عام كامل وهو الأكثر دموية ودمارا على قطاع غزة وأخرج المواجهات من إطار الفلسطينيين والإسرائيليين الى ساحات أخرى مع توقعات بتوسيعها الى حرب إقليمية. وهذا الملف محاولة سريعة لرصد ما جرى من خلال التركيز على الوضع فى لبنان واستمرار العدوان على غزة نتوقف خلالها عند (الحصاد المر) لاتفاقية أوسلو مع رصد الانتصار السياسى الأخير الذى أحرزته السلطة الفلسطينية فى ساحات الأممالمتحدة.. وعلى المستوى اللبنانى نرصد التصعيد الأخير من خلال مناقشة شكل الرد من حزب الله ولماذا سعت واشنطن لتبرئة نفسها من ذلك العدوان؟ وتداعياته على الداخل الاسرائيلى، وتأجيل استقالة وزير الدفاع بعد تخطيط نتنياهو لذلك. من قاعة الأممالمتحدة.. نصر سياسى فلسطينى جديد انتصار فلسطينى مدعوم عربيا ودوليا ولكن هذه المرة فى ساحة أخرى بعيدة آلاف الكيلومترات عن الصراع العسكرى فى ساحات القتال الممتدة فى قوس الأزمة من غزة والضفة والقدس الى لبنان وسوريا والعراق جنوبا الى اليمن وحتى العاصمة الايرانية طهران.. موازين القوى هنا مختلفة مع اختلاف أدوات المواجهة، هنا ساحة الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث السياسة تحكم والحق يعلو أحيانا فوق طائرات الغدر وصواريخ العدوان التى تتسبب فى سقوط عشرات الالاف من الضحايا، حيث تمكن الوفد الفلسطينى منذ أيام فى اول ممارسة للمزايا التى حصل عليها فى مايو الماضى من تمرير قرار مهم حظى بموافقة 124 صوتا مع اعتراض 14 وامتناع 43 صوتا عن التصويت حيث يدعو القرار الى انهاء الوجود غير القانونى لإسرائيل فى الاراضى الفلسطينية خلال 12 شهرا ويرحب بالرأى الاستشارى الصادر عن محكمة العدل الدولية فى يوليو الماضى. لم يكن تمرير القرار سهلا ولا هينا فى ظل الضغوط الامريكية التى مارستها واشنطن وتنوعت أسباب اعتبار صدور هذا القرار نصرا سياسيا لفلسطين الدولة وللحق الفلسطينى ونتوقف عند بعضها وهى كالتالى: أولا: انه اول تطبيق فعلى للامتيازات التى حصلت عليها فلسطين من قرار مايو الماضى والذى دخل حيز التنفيذ منذ بداية هذا الشهر ومنها الحصول على مقعد وتقديم مقترحات وإدخال تعديلات على مشاريع القرارات واثارة الإجراءات الإجرائية دون المرور على دولة أخرى عندما كانت فلسطين دولة مراقب فى الأممالمتحدة وان كان لم يمنحها حق التصويت. ثانيا: يكفى رصد فعل كل من تل ابيب وواشنطن على القرار كنموذج على انه أصابهما فى مقتل واحدث حالة من الصدمة والغضب الشديد حيث وصف المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية اورين مارمورستاين الأممالمتحدة بالمسرح السياسى والسياسة الدولية بانها مشينة واعتبر القرار منحازا ومنفصلا عن الواقع ويشجع الإرهاب ويضر بفرص السلام.. وتبجح المندوب الاسرائيلى فى الأممالمتحدة دانى دانون وقال انه قرار مخز يدعم الإرهاب الدبلوماسى للسلطة الفلسطينية ووصف ما جرى بانه مهزلة ومؤيدى القرار بانهم ليسوا مجرد متفرجين بل متعاونون فى دعم العنف ويشجعون الذين ينبذون السلام.. السفيرة الامريكية توماس جرينفيلد وصفت النص بانه متحيز لا يعتبر حماس إرهابية وتملك السلطة فى غزة كما انه لا يساهم فى تحقيق تقدم نحو حل الدولتين. ثالثا: ان القرار يكرس حقيقة ان إسرائيل فى حرب حقيقية ضد المنظمة الدولية خاصة فى الأشهر الأخيرة بالهجوم على أمينها العام وكبار المسئولين فيها وتتهمها بمعاداة السامية وتتعامل معها بازدراء وتكيل الاتهامات لمنظماتها فى مقدمتها وكالة غوث اللاجئين والمحكمة الجنائية والعدل الدولية. رابعا: ان القرار هو خطوة جديدة باتجاه الانحياز للحق الفلسطينى الذى يأخذ منحنى متصاعدا يمكن رصده بسهولة خلال الأشهر الماضية فمنذ أكتوبر الماضى اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا بوقف العدوان بأكثرية 120 صوتا. وشهد مايو الماضى خطوة متقدمة بموافقة 143 دولة ومعارضة تسع دول وامتناع 25 عن التصويت قررت الأممالمتحدة منح فلسطين امتيازات عديدة، وما تختلف فيه عن العضوية الكاملة هو منعها من التصويت باعتبارها دولة مراقب وجاء الدور على محكمة العدل الدولية والتى اعتبرت فى يوليو الماضى استمرار الوجود الإسرائيلى غير قانونى ودعت الى انهائه فى اقرب وقت ممكن والوقف الفورى لكل النشاطات الاستيطانية الجديدة واجلاء المستوطنين ودعت كل الدول الى عدم الاعتراف بهذه التغييرات مع دعوة الأممالمتحدة ومجلس الامن للنظر فى سبل وإجراءات انهاء هذا الوجود غير القانونى مع إقرار يطالب بإعادة أملاك الفلسطينيين والسماح بعودة اللاجئين ووقف تصدير السلاح الى تل ابيب واتخاذ اجراءات عقابية فى حال عدم التزامها بالتنفيذ.. كما اعترفت فى مايو الماضى ثلاث دول اوربية بالدولة الفلسطينية هى ايرلندا والنرويج واسبانيا حيث قدم السفير حسنى عبد الواحد أوراق اعتماده الى ملك اسبانيا فيليب السادس منذ أيام. وبعد فدعونا نشير الى ان القرار والرأى الاستشارى لمحكمة العدل الدولية قد لا يكونان ملزمين ولكنهما جزء من تكريس عزلة إسرائيل قد يساعد فى المسعى العربى الذى تم اقراره فى اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب فى مايو الماضى لتجميد عضوية إسرائيل فى الأممالمتحدة وهناك سابقة لذلك عام 1974 ضد جنوب افريقيا فى زمن الفصل العنصرى كما انه خطوة مهمة على طريق الالف ميل لنيل الشعب الفلسطينى حقوقه المشروعة فى إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. فلسطين.. مخاوف على القدس وتغييب للسلطة إنها الذكرى الواحد والثلاثون لاتفاقية أوسلو التى وُقعت فى البيت الأبيض بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل يوم 13 سبتمبر من عام 1993، بعد سلسلة من المحادثات، جاءت نتاجًا لمفاوضات مدريد التى سبقت الاتفاق بعامين. وقد أدى اتفاق السلام المزعوم إلى إنشاء السلطة الفلسطينية، التى تهدف إلى توفير حكم ذاتى مؤقت لمدة خمس سنوات فقط بينما تحل المفاوضات القضايا الأساسية العالقة فى الصراع. نظرت منظمة التحرير الفلسطينية إلى الفترة الانتقالية باعتبارها ممرًا لإقامة دولة فلسطينية فى الضفة الغربية وقطاع غزة كخطوة أولى نحو التحرير الكامل لفلسطين. أُنشئت السلطة الفلسطينية ومؤسساتها فور توقيع الاتفاقية، كان من المفترض أن يتم استبدال السلطة الفلسطينية بحكومة منتخبة، تدير دولة مستقلة فى الضفة الغربية وقطاع غزة، وعاصمتها القدس الشرقية. فخلقت الاتفاقية لدى الفلسطينيين الأمل فى بعض الاستقلالية، لكن تبين لاحقا أن ذلك لم يكن إلا وهما، خاصة فيما يتعلق بمدينة القدس التى هُمشت وأُجّلت ضمن ما أطلقت عليها حينذاك «قضايا الحل النهائى»، وهو الأمر الذى أفسح المجال أمام إسرائيل لتهويد كل القطاعات فى العاصمة المحتلة، ووأد حل الدولتين الذى يَعتبر الشطر الشرقى من المدينة عاصمة لدولة فلسطين. كانت موافقة الجانب الفلسطينى على تأجيل القدس لقضايا الحل النهائى منوطة باستئناف المفاوضات بعد 3 أعوام من توقيع الاتفاقية، وسُميت آنذاك «مفاوضات الوضع الدائم» من أجل التوصل لتسوية دائمة حول من يتحكم بشرقى القدس والأماكن المقدسة وسكان المدينة، لكن إسرائيل دأبت منذ توقيع الاتفاقية فى تغيير الواقع على الأرض، فأحكمت قبضتها على القدس، ومنعت أى حضور للسلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير فى أى مؤسسة أو نشاط بالمدينة. كان دخول اليهود إلى المسجد الأقصى منوطًا بشراء تذكرة من دائرة الأوقاف الإسلامية بصفتهم سياحا، ولم تكن ترافقهم شرطة الاحتلال لحمايتهم ولا يؤدون خلال وجودهم فيه أى طقوس أو صلوات توراتية. وبعد توقيع الاتفاقية، بدأت تُفرض عدة أجندات: أولاها عام 1994 عندما انطلقت محاولات السيطرة على ما تحت المسجد، ثم التقسيم الزمانى بعد انتزاع أمر قضائى يسمح للمستوطنين باقتحام المسجد عام 2003، ثم مشروع التقسيم المكانى عام 2008. ووصل الوضع حاليا إلى قيام المستوطنين بأداء كل الصلوات والطقوس التوراتية فى ساحات الأقصى خاصة الشرقية منها، بدعم مباشر من بعض المسئولين والحاخامات وعلى رأسهم الوزير المتطرف إيتمار بن غفير الذى قال مؤخرا إنه سيبنى كنيسا داخل المسجد. عندما أُجلت القدس لقضايا الحل النهائى، استغل المحتل هذا البند وبدأ بتوسيع الاستيطان، وكانت أول مستوطنة تمت توسعتها داخل المدينة هى «هار حوماه». وفى عام 1995، تمت مصادرة كثير من الأراضى لصالح توسيع المستوطنات فى منطقتى بيت حنينا وبيت صفافا بالقدس، وهذا أدى لارتفاع أعداد المستوطنين بشكل تدريجى. كان عدد المستوطنين فى الضفة الغربية دون القدس الشرقية عند التوقيع على اتفاقية أوسلو الأولى عام 1993 نحو 115 ألفاً ليصل نهاية العام 2022 إلى أكثر من 500 ألف مستوطن، يسكنون فى 158 مستوطنة إسرائيلية فى الضفة الغربية، بما فى ذلك 24 فى القدس الشرقية، بالإضافة إلى ما يقارب 200 بؤرة استيطانية ومزرعة رعوية إسرائيلية غير قانونية يسكنها نحو 25 ألف مستوطن. وفى المجموع، يعيش الآن أكثر من 500 ألف مستوطن إسرائيلى فى الضفة الغربية بالإضافة إلى 250 ألف يقيمون فى القدس الشرقية، أى أن المجموع تجاوز 750 ألف مستوطن، ما يشكل 7 أضعاف العدد الذى كان عليه الحال فى عام 1993. إذا نظرنا للقدس فى أوسلو، فإن تأجيل البت فيها كان كارثيا من النواحى كافة، لأن ذلك أفسح المجال أمام إسرائيل لتفعل ما تشاء، وتسريع دمج شطرى المدينة الشرقى والغربى وإقامة المؤسسات السيادية فى القدس الشرقية وإنشاء الأنفاق وتوسيع المستوطنات، وتُرك للفلسطينيين 13% فقط من القدس الشرقية التى تقدر مساحتها ب72 كيلومترا مربعا، لأن الأراضى صودرت للمصلحة العامة أو صنفت على أنها مناطق خضراء أو ممنوع البناء فيها أو بسبب شق الشوارع وتوسيع مسار القطار الخفيف. كما أن إعلان الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب القدس عاصمة موحدة لإسرائيل عام 2017، أطلق مزيدًا من العنان لإسرائيل من أجل الوصول للأهداف الاستراتيجية بجعل القدس مدينة موحدة تحت سيادتها، فزادت عمليات التهويد وتسارعت. كذلك فقد ساهمت اتفاقية أوسلو فى سلخ القدس عن محيطها الجغرافى الفلسطيني، وهذا أدى بطبيعة الحال لوأد اقتصادها، وفقا لوزير الاقتصاد الفلسطينى الأسبق مازن سنقرط. حيث عُزلت مدينة «القدس بشكل أكبر بعد بناء الجدار العازل حولها، ومحاصرة بوابات البلدة القديمة بالوجود العسكرى الدائم، ونتج عن ذلك ضعف الحركة الشرائية، خاصة فى أسواق البلدة القديمة التى أغلقت أبواب نحو 450 من حوانيتها من أصل 1450. ولم يتأثر اقتصاد المدينة بضعف الحركة الشرائية فحسب، بل بإنهاك المقدسيين بنحو 12 نوعا من الضرائب والرسوم المختلفة، وهو ما يجعل نحو 80% منهم يعيشون تحت خط الفقر. كما يمنع على المقدسيين العيش خارج المدينة خشية فقدان حقهم بالإقامة فيها، فإنهم يتكدسون فى شقق يبلغ متوسط مساحتها 40 مترا مربعا خاصة بالبلدة القديمة التى يتشارك 12% من سكانها مع جيرانهم فى الخدمات الصحية، و14% يتشاركون مع جيرانهم فى المطابخ. بعد كل هذه السنوات التى مرت على الاتفاق، واستمرار جولات المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وجولات المواجهة بينهم سواء كانت شعبية أو مسلحة، لا تزال الوقائع تؤشر إلى انسداد فى الأفق السياسى، ولم يبق من اتفاق أوسلو غير جدل الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة للمناطق الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية بموجب الاتفاق. فهل أصبح سقف الطموح والحلم الفلسطينى راهناً إعادة أوسلو، والمحافظة على بقاء السلطة الفلسطينية ليس أكثر، من خلال السياسة الرسمية الحالية التى تعمل لإعادة إنتاج أوسلو باعتباره أقصى ما يمكن تحقيقه! إسرائيل.. زيادة المستوطنات وتوغل المستوطنين بعد مرور 31 عاما على اتفاق أوسلو الذى تم توقيعه فى البيت الأبيض بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل فى 13 سبتمبر 1993، أصبحت احتمالات السلام والمصالحة أبعد من أى وقت مضى، فعلى الرغم من أن هدف الاتفاقية كان حل الصراع الإسرائيلى الفلسطينى بحلول مايو 1999، إلا أن التعقيدات التى كانت وراء عقود من الأعمال العدائية أدت فى النهاية لإخراج العملية عن مسارها وتركت القضايا الأكثر تحديًا لتشتعل فى القرن الحادى والعشرين. ففى انتهاك للقانون الدولي، توسعت المستوطنات الإسرائيلية فى معظم أنحاء الضفة الغربية، وقسمت الأراضى الفلسطينية بطرق جديدة وولايات قضائية احتفظت بها للمستوطنين اليهود. وتحت الأرض، يتم تحويل طبقات المياه الجوفية إلى المستوطنات، مما يفرض نقصاً مزمناً فى المياه على الفلسطينيين. وأصبحت القدس الشرقية، العاصمة المفترضة للدولة الفلسطينية المستقبلية، موطناً لأكثر من 200 ألف مستوطن يهودي؛ ويواجه العديد من السكان الفلسطينيين هناك حملة ضمنية لطردهم من الأحياء التى عاشوا فيها لأجيال. ولا يظهر الحكم العسكرى الإسرائيلى الراسخ على ملايين الفلسطينيين أى علامة على التراجع. استفادت إسرائيل بلا شك من اتفاقيات أوسلو. فقد أدت الاتفاقيات إلى تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد، مما ساعد فى إطلاق طفرة التكنولوجيا التى دفعت نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى فى إسرائيل إلى مستوى أعلى من نصيب الفرد فى معظم الدول الأوروبية. وفى الوقت نفسه، وتحت وهم عملية السلام الراسخة، رسخت إسرائيل سيطرتها الفعلية على الأراضى الفلسطينية. لقد أعطتنا اتفاقيات أوسلو ما وصفه الكاتب فى صحيفة نيويورك تايمز توماس فريدمان مؤخرًا بأنه «الخيال المشترك بأن احتلال إسرائيل للضفة الغربية كان مؤقتًا فقط». كما أن إجراءات وسياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تناغمت فيما بينها فى كل ما يتعلق بالتحلل التدريجى من اتفاقية أوسلو وتفريغها من مضمونها، وعدم الالتزام بملاحقها إلا بما يتناسب مع المصالح الاستراتيجية للكيان المحتل. ووفقا لقراءات المحللين وتقديرات مراكز الأبحاث فى تل أبيب، فإن حكومات إسرائيل أبقت على اتفاقية أوسلو عالقة منذ اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، وبالمقابل اعتمدت إجراءات مختلفة وفرضت وقائع على الأرض تحول دون إقامة دولة فلسطينية بالضفة الغربية ضمن حدود الرابع من يونيو 1967. ورغم أن جوهر اتفاقية أوسلو ارتكز على مبدأ التعاون والتنسيق والثقة المتبادلة بين الجانبين، إلا أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تحللت من كافة المراحل والإجراءات والخطوات لتطبيق الاتفاق. فقد استغلت إسرائيل اتفاق أوسلو لتنفيذ كل المشاريع التى كانت موجودة ومجمدة ضمن مخططاتها ومنها المخططات الاستيطانية فى كافة الضفة الغربية وفى قطاع غزة آنذاك، حيث ارتفع عدد المستوطنين من 110 آلاف عام 1993 إلى نحو 516 ألفا فى الضفة الغربية فى 2024، إضافة إلى 230 ألف مستوطن داخل القدس. ورغم أن اتفاقية أوسلو أبقت نحو 60% من أراضى الضفة تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة وصنفت «ج»، فإن إسرائيل اتخذت مؤخرا قرارا بإخضاع المنطقة «ب» التى يفترض أن تخضع للسلطة الفلسطينية مدنيا، للسيطرة المدنية والعسكرية الإسرائيلية. وفى القدس ازداد الاستيطان بهدف دمج القدس الغربيةوالشرقية وتقطيع أوصال الأحياء الفلسطينية بالبنى التحية والأنفاق والجسور وفرض أمر واقع يجعل من المدينة عاصمة لإسرائيل. ووفق معطيات الجهاز المركزى للإحصاء الفلسطيني، بلغ عدد المواقع الاستيطانية والقواعد العسكرية الإسرائيلية فى نهاية عام 2022 فى الضفة الغربية 483 موقعا «منها 151 مستعمرة و25 بؤرة مأهولة تم اعتبارها كأحياء تابعة لمستعمرات قائمة، و163 بؤرة استعمارية. ولا تتوقف طموحات إسرائيل عند تعزيز المستوطنات فى الضفة الغربية؛ فقد دعا بعض المتطرفين لإعادة بناء مستوطنات داخل غزة. ما تقدمه الحكومة الإسرائيلية للمستوطنات لا يقتصر على الدعم المالى والحماية العسكرية، بل يمتد لتسليح المستوطنين المتطرفين بحجة تمكينهم من حماية أنفسهم. وفى الواقع، استخدموا هذه الأسلحة لمهاجمة الفلسطينيين والاستيلاء على ممتلكاتهم. وبحسب تقارير الأممالمتحدة، ارتفعت هجمات المستوطنين عام 2023 إلى أعلى مستوى لها. وشهدت الضفة الغربية تسارع وتيرة الهجمات بعد حادثة طوفان الأقصى، حيث وثقت الأممالمتحدة أكثر من 700 هجوم للمستوطنين من 7 أكتوبر 2023 حتى أوائل أبريل، شارك فيه الجيش الإسرائيلي. كان الهدف المعلن لاتفاقية أوسلو هو العمل على استعادة الأراضى المحتلة عام 1967 على مراحل، تمهيداً لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. إلا أن إسرائيل واصلت مشروعها الاستيطاني، واستولت على مساحات شاسعة من الضفة الغربية، ولم يتبق للفلسطينيين سوى نحو 15% من أراضى فلسطين التاريخية. إسرائيل تترقب «الحساب العسير».. وهذه مخططات حزب الله فى الرد تتسارع التطورات على صعيد المواجهة بين إسرائيل وحزب الله جنوبلبنان، فى وقت سياسى بالغ الحساسية لكل الأطراف. وقبل يومين، شنت إسرائيل هجوما على الضاحية الجنوبية فى عملية استهدفت قائد وحدة العمليات الخاصة فى حزب الله إبراهيم عقل. هذا الاعتداء أعقب هجمات متلاحقة على أجهزة النداء اللاسلكى يومى الثلاثاء والأربعاء أدى لإصابة آلاف من عناصر حزب الله. وفى خطاب ترقبته إسرائيل بدقة.. توعد زعيم الحزب حسن نصر الله دولة الاحتلال ب»حساب عسير».. فما الذى يقصده؟ لا شك فى رغبة إسرائيل فى القضاء على حزب الله وهى ترى الفرصة الآن استثنائية ومواتية تماما لتدمير قدراته العسكرية والتخلص من تهديداته المتكررة وتأمين حدوده الشمالية من مرمى صواريخه. لكن ما يمنعها عن ذلك هو عدم كفاية جيشها وترسانتها المنهكة فى غزة ومن ثم فسيكون اعتمادها بالكامل على القدرات العسكرية الأمريكية فى أى حرب ضد حزب الله. كما إن تهديدات البيت الأبيض وتحذيراته تلاحق إسرائيل خوفا من توسيع الحرب فى هذا الوقت السياسى الصعب قبل أقل من شهرين على انتخابات الرئاسة الأمريكية.. وكانت صحيفة يديعوت أحرونوت قد كشفت فى تقرير سابق لها عما يمكن وصفه بخطوط حمراء وضعتها القيادة المركزية الأمريكية للجيش الإسرائيلى تضمن له فيها التأمين الكامل من أى هجمات من إيران أو حزب الله على إسرائيل مقابل عدم سعيه لتوسيع نطاق الحرب بما يشمل هذه الأطراف الأخيرة.. وفى حال التزامها، ستتمكن إسرائيل، بحسب تقرير الصحيفة، من الاستفادة الكاملة من الاستخبارات والعوامل العسكرية الأخرى التى نشرها الأمريكيون فى جميع أنحاء الشرق الأوسط. وأمام هذه الضغوط، لا يعقل أن تقوم إسرائيل بضربة أولى مدمرة على الضاحية الجنوبية تستهدف ترسانات وقواعد صواريخ حزب الله، إلا أن يكون ما تفعله هو بنظر الأمريكيين، «دفاع عن النفس».. ومن ثم، فما يفعله الآن الإسرائيليون هو محاولة لاستدراج حزب الله للحرب.. عبر توجيه ضربات مؤلمة واحدة تلو الأخرى تستفزه للرد.. لكن أمرا آخر يبدو فى حسابات الإسرائيليين، وهو انتخابات الرئاسة الأمريكية. فتل أبيب ربما ترى فى الوقت الحالى فرصة لضرب حزب الله لسببين. إذا فاز الجمهورى دونالد ترامب، فلن يلوم الإسرائيليين على توسيع الحرب بل سيؤمن لهم كل الدعم أمام ما يراهم وكلاء إيران.. وأما إذا فازت الديمقراطية كامالا هاريس، فستظل عملية تحجيم جيش الاحتلال والضغط عليه سارية.. وبالتالى، فالوقت الحالى هو الأمثل بالنسبة لإسرائيل لشن حرب على حزب الله بالنسبة لإدارة الديمقراطيين. فالإدارة الأمريكية رغم ضغوطها هى فى أضعف حالاتها.. ولن يكون أمامها خيارات كثيرة للتصرف حيال اتساع الحرب فى الإقليم.. فى المقابل، فإن حزب الله يبدو أنه يضع كل ما سبق فى حساباته ويضيف عليه. ربما لا يريد حزب الله أن يتم استدراجه لفخ نتنياهو.. كما لا يريد أن يخسر المواقف الأكثر اعتدالا فى أمريكا تجاه المنطقة والتى تمثلها هاريس. إذ يتوقع فى حال فوزها أن تبقى الضغوط سارية على نتنياهو لعدم توسيع الحرب، وهو موقف قد يتبدل الآن فى حال الانفلات لحرب إقليمية.. كما أن هذا الموقف يتماشى مع ميول وتوجهات إدارة إيران الجديدة الإصلاحية - الداعم الأول لحزب الله- والتى ترى فرصا دبلوماسية فى الانفتاح على الغرب عبر إدارة ديمقراطية مقبلة. وبناء على ما سبق، فإن الحساب العسير الذى يقصده حزب الله لا يبدو أنه آلام الحرب الشاملة.. فهو لا يبدو على مشارفها إلا إذا بدأتها إسرائيل.. وفى المقابل يعتبر أن الضربات المتكررة التى تبقى سكان مناطق الشمال نازحين، هى أكثر إيلاما لإسرائيل من حرب مباشرة بين الجانبين لن يخوضها جيش الاحتلال بنفسه فى كل الأحوال.. كما أن معدات وقدرات إسرائيل التى لا تنضب بسبب الدعم الأمريكى المطلق والمستمر، لن تستحق عناء الحرب المدمرة إذا كان هناك بديل «عسير» لتل أبيب. فاستمرار القصف من جانب حزب الله سيكون ضامنا لعدم عودة سكان الشمال لمنازلهم فى إسرائيل.. وسيستمر نزوح مئات الآلاف من منازلهم داخل إسرائيل لعدم وجود منطقة آمنة وسيكون ذلك نتيجة مؤلمة للحكومة، وكان تقرير كتبه دينيس روس نشره معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى أن إيران تسعى لإبقاء إسرائيل تحت ضغط مستمر وإغراقها فى صراعات مستمرة وحروب استنزاف على حدودها دون أن تجر إيران إلى الحروب.. كما صرح نصر الله بعد اغتيال فؤاد شكر بأن «تأخير الرد على إسرائيل جزء من العقاب». أمريكا.. تبرؤ من العدوان على بيروت سارع المسئولون بالإدارة الأمريكية إلى النأى بأنفسهم بعيدا عن الهجوم الذى نتج عن انفجار أجهزة البيجر التابعة لحزب الله، والتى أسفرت عن مقتل ثمانية أشخاص على الأقل، وإصابة ما يقرب من ثلاثة آلاف آخرين. وحذروا من أية خطوة انتقامية تصعيدية قد تجر المنطقة إلى المزيد من الاشتعال. كما قال البيت الأبيض أيضا إنه لم يكن على علم مسبق بأن الهجوم سيقع، ولن يتكهن بمن يقف وراءه، وفقا للسكرتيرة الصحفية كارين جان بيير. وقال الجنرال باتريك رايدر، المتحدث باسم البنتاجون فى مؤتمر صحفي: «على حد علمي، لا يوجد أى دخل للولايات المتحدة فى هذا الأمر على الإطلاق. مرة أخرى، هذا شيء نراقبه». ومن جانبها تعهدت جماعة «حزب الله» اللبنانية بالرد على إسرائيل بعد اتهامها بتفجير أجهزة الاتصال فى أنحاء لبنان، مما أثار مخاوف من التصعيد. ويأتى هذا الهجوم، فى وقت كان يعمل فيه الدبلوماسيون الأميركيون برئاسة مبعوث البيت الأبيض آموس هوكشتاين بشكل مكثف لتجنب التصعيد على الحدود الشمالية لإسرائيل، ووسط مخاوف من أن حربا شاملة بين إسرائيل وحزب الله، يمكن أن تندلع فى أى لحظة وقال المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية سى آى ايه جون برينان، لشبكة إن بى سى نيوز، إنه يعتقد أن أجهزة البيجر كانت تحتوى على نوع من المتفجرات بالاستناد جزئيا إلى حجم الهجوم وطبيعته المتزامنة. وتوقع بأن الأجهزة تم اعتراضها فى مرحلة ما ووضع المتفجرات بها. وأضاف برينان أن كل الشكوك يجب أن تقع على إسرائيل كطرف مسؤول. وقال مسؤولون أمريكيون لصحيفة نيويورك تايمز إن المادة المتفجرة، التى لا يقل وزنها عن أونصة إلى أونصتين، زرعت بجوار البطارية فى كل جهاز بيجر، وتم تضمين مفتاح إلكترونى لتفجير البيجر عن بعد. وقالت مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات «إف دى دي» والمعروفة بقربها الشديد من اليمين الإسرائيلى إن ما جرى يعد «أكبر خرق أمنى عانت منه الحركة المدعومة من إيران خلال الحرب المستمرة منذ عام تقريبا مع إسرائيل». وقال الرئيس التنفيذى للمؤسسة مارك دوبويتز إن «ذلك كان مثالا استثنائيا على الاختراق التكنولوجى والاستخباراتي. لا نعرف حتى الآن مدى الضرر وما إذا كان هذا غطاء لاختراق أعمق. وسيتعين على حزب الله استدعاء جميع أجهزة الاتصالات الخاصة به لتقييم مدى تعرضها للخطر. وهذا من شأنه أن يعيق قدرتها التشغيلية خاصة مع وجود كثير من الرجال العاجزين. فى حين أشار ديفيد داوود، الباحث بالمؤسسة، إلى أن «حادث اليوم يظهر، مرة أخرى، مدى نجاح الاستخبارات الإسرائيلية فى اختراق الجهاز التنظيمى لحزب الله. ولا يزال هناك الكثير من الغموض حول نتيجة الهجوم، بما فى ذلك هوية الضحايا، ولكن من غير المرجح أيضا أن يعود العديد من عناصر حزب الله الجرحى إلى ساحة المعركة من ناحية أخرى، غرد السيناتور الديمقراطى من ولاية بنسلفانيا، جون فيترمان، على منصة إكس محتفيا بالتفجيرات، وقال: «أنا أؤيد تماما الجهود المبذولة لاستهداف وتحييد أى تهديد وجودى مثل حزب الله». وذكّرت المنظمة جمهورها بأن حزب الله «منظمة إرهابية وكيلة لإيران»، وأشارت لدوره فى حرب إسناد حركة المقاومة الإسلامية حماس بعد السابع من أكتوبر من العام الماضي، معتبرة أنه وبناء على ذلك «يحق لإسرائيل بالكامل بموجب القانون الدولي، بما فى ذلك على سبيل المثال لا الحصر المادة 51 من ميثاق الأممالمتحدة، ممارسة حقها فى الدفاع عن النفس». كما احتفت افتتاحية صحيفة وول ستريت جورنال بالعملية الإسرائيلية، وقالت: إن «انفجار أجهزة البيجر التى كان يحملها أعضاء حزب الله فى جميع أنحاء لبنان وسوريا يوم الثلاثاء هو «عرض جريء للحرب التكنولوجية الحديثة». كما اعتبرت أنه «تحذير للمليشيا الشيعية الوكيلة لإيران من الثمن البشرى الذى ستدفعه إذا استمرت فى قصف شمال إسرائيل». وأضافت الصحيفة المحافظة المعروفة بقربها من المواقف الإسرائيلية، أنه «فى أفضل الأحوال، ستقنع عملية البيجر هذه قادة حزب الله بأن حياتهم معرضة لخطر كبير إذا اندلعت حرب أوسع، ولا يمكنهم القول إنهم لم يتلقوا رسالة بهذا المعنى». رغم أن للولايات المتحدة تعاونا استخباريا واسع النطاق مع إسرائيل، كما أن الدولتين تصنفان حزب الله جماعة إرهابية، فقد قالت الإدارة الأميركية -فور ورود أنباء الانفجار- إنه ليس لواشنطن دور فى الهجوم الواضح على حزب الله ولم تعرف عنه مسبقا. ورفض المتحدث باسم وزارة الخارجية ماثيو ميلر تقديم تقييم حول من يمكن أن يكون وراء ذلك، قائلا إن الإدارة «تجمع معلومات» عن الحادث. ووفقا لمسؤولين أمريكيين، فقد طلب حزب الله أجهزة البيجر من شركة جولد أبولو فى تايوان وأنه تم العبث بها قبل وصولها إلى لبنان وكان معظمها من طراز «إيه بى 924».. من جانبه، علق الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، على تفجيرات لبنان قائلاً: إن المجتمع الدولى ينبغى أن يتوصل إلى إجماع بشأن حماية أرواح المدنيين فى الحروب والصراعات. لبنان.. قرار العمليات وراء تجميد إقالة يوآف جالانت أفضت عملية تفجير أجهزة اتصال «حزب الله»، التى أسفرت عن مقتل وإصابة العشرات من عناصر الحزب إلى تجميد إقالة وزير الدفاع الإسرائيلى يوآف جالنت، والتأهب لخوض مواجهة عسكرية فى الجنوباللبناني، ربما تشرع فيها إسرائيل بعملية استباقية، تحول دون رد الحزب على العملية التى تحمل بصمات الموساد، وتسمح فى المقابل بخلق منطقة أمنية بطول 5 كيلو مترات، بداية من الشريط الحدودى نحو عمق الجنوباللبناني، لتزيد مساحة المنطقة التى تصفها إسرائيل ب«الميتة» إلى 10 كيلو مترات، وهى ذات المسافة تقريبًا، التى رفض «حزب الله» الابتعاد عنها خلال مفاوضات تهدئة، لعب دور الوساطة فيها الموفد الأمريكى عاموس ليخنشتاين. وقبل عملية الموساد النوعية بساعات، انشغل وزير الدفاع الإسرائيلى بلملمة أوراقه، بعد تسريب معلومات حول إقالته، وتعيين رئيس حزب «أمل جديد» جدعون ساعر خليفة له على إثر مماحكات سياسية، أثرت تغليب مصالح نتنياهو الضيقة على المصلحة العامة، لا سيما فى ضوء ضلوع زوجة رئيس الوزراء سارة نتنياهو ونجلها يائير فى قرار الإقالة، فضلًا عن وزير المالية بيتسلئيل سيموتريتش، الذى عارض هو الآخر خطة جالنت، الرامية إلى الانسحاب من قطاع غزة، ورفضه محاولات إعادة استيطان القطاع، لتمكين القوات الدولية المقرر نشرها فى القطاع، وفقًا للخطة، من أداء مهامها الأمنية، بالإضافة إلى مهام إعادة الإعمار. وفيما لم يهتم جالنت بغير التطورات الأمنية، وتقديراته قبل الإقالة المجمدة بحتمية نقل رحى الحرب من قطاع غزة إلى الجبهة الشمالية، تأهبًا لتصعيد ربما لا يقتصر على «حزب الله» فقط، أبدى مراقبون فى تل أبيب قلقًا بالغًا من شقاق المستويين السياسى والعسكرى بفعل تداخلات ائتلافية تتبنى مشروعات توسعية على حساب جغرافيا الداخل والخارج الإسرائيلي، ولا تكترث بتوريط إسرائيل فى حرب توصف ب«وحدة الساحات». وتتعزز إرهاصات الحرب على جبهة إسرائيل الشمالية بعمليات شنتها إسرائيل قبل أيام على الجنوباللبناني، وخلفت وراءها حجم دمار هائل، لا يقل عن نظيره فى قطاع غزة، وهو ما جذب اهتمام المجتمع الدولى الذى حذر مواطنيه من السفر إلى لبنان أو البقاء فيه وبينما ترفض إسرائيل الانسحاب من قطاع غزة، ووقف رحى الحرب الدائرة هناك، يصر نصر الله على الربط بين الجبهتين، وأكد غير مرة أن هدوء الجبهة الشمالية مرهون بوقف إطلاق النار فى قطاع غزة. ورغم حتمية الاستعانة بخبرات الجنرال جالنت، خاصة فى أوقات عصيبة تهدد جبهات وعمق إسرائيل، آثر نتنياهو قطع الطريق على جدعون ساعر، للحيلولة دون انضمامه لكتلة حزبية، يتقدمها رئيس «معسكر الدولة» الانتخابي، وزير الدفاع الأسبق بينى جانتس، لتفكيك الائتلاف الحكومى بقيادة نتنياهو وتشكيل حكومة وحدة وطنية. إلا أن اختيار ساعر أثار حالة من السخط السياسى والعسكرى فى تل أبيب، لاسيما وأن رئيس حزب «أمل جديد» يفتقر إلى أدنى مستويات الخبرة العسكرية، ويحتاج وفق الكاتب بن درور يمينى إلى ما لا يقل عن 100 يوم للتدريب على مهام وزارة الدفاع وفى مقاله التحليلى بصحيفة «يديعوت أحرونوت» يقول الكاتب: «ركلة نتنياهو لوزير الدفاع يوآف جالنت ليست ركلة شجاعة، وإنما هى فى الحقيقة ركلة لإسرائيل؛ فكيف يعين نتنياهو وقت الحرب رجلًا ليست لديه أدنى فكرة عن الأمن؟!». وبعيدًا عن صخب إقالة وزير الدفاع وتجميدها، ودخول إسرائيل منعطف خطير بعد عملية تفجير أجهزة اتصالات «حزب الله»، التف نتنياهو وحاشيته حول جالنت للتباحث حول مصير الجبهة الشمالية، خاصة بعد ساعات من عودة المستوطنين إلى منازلهم، وتسلل الذعر إليهم من مصير مأزوم حال اندلاع مواجهة وشيكة مع «حزب الله». رغم ذلك، تقلل تحليلات فى تل أبيب من فرص التصعيد الإسرائيلى ضد «حزب الله»، خاصة فى ضوء ضغوطات أمريكية، تحركها اعتبارات وتحسبات من تأثير اندلاع حرب شاملة فى المنطقة على فرص نائبة الرئيس الأمريكى كامالا هاريس فى هزيمة المرشح الجمهورى دونالد ترامب خلال الانتخابات الرئاسية المقررة نوفمبر المقبل أما السبب الآخر، فهو أن اندلاع مثل هذه الحرب يفرض على إسرائيل تعبئة كاملة للاحتياط، وذلك بعد نحو عام من الحرب فى قطاع غزة، وهو ما يحول دون صمود إسرائيل طويلًا فى مواجهة محتملة على الجبهة الشمالية.