أحمد اللباد برحيله، تفقد مصر واحدا من أسطواتها الكبار، الفنان التشكيلى حلمى التونى (1934-2023) صاحب المواهب المتعددة، والبصمات المميزة فى مجالات الفن والإبداع، سواء فى التشكيل، والتصميم الجرافيكى ، وملصقات المسرحيات والأفلام، والرسوم الكاريكاتيرية، وأغلفة الكتب، فضلا عن صناعة كتب الأطفال. ساهم التوني، رفقة عدد من زملائه فى تأسيس مدرسة مصرية ذات ملامح خاصة فى فن صناعة الكتاب، وتصميم الصحف والمجلات. كانت رسوماته مصرية خالصة، حيث أعاد صياغة مفردات الثقافة الشعبية المصرية واساطيرها ورموزها، مفردات نطالعها يوميا، ولكنها قدمها بخطوط وألوان تخصه وحده: الأشجار والنخيل والأهرام والأسماك والورود، الأغنيات والمواويل. ولد التونى فى محافظة بنى سويف فى 30 إبريل عام 1934، حصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة. تخصص ديكور مسرحى عام 1958، وشارك مع الفنان محمود شكوكو فى تأسيس مسرح خاص للعرائس، ودرس فنون الزخرفة والديكور، تولى العديد من المناصب، وأقام العديد من المعارض سواء المحلية أو الدولية. وقد حصل على عدة جوائز دولية منها. هذا الملف تحية حب وتقدير لمنجزه الخاص. حلمى التونى رئيس تحرير فنى برحيل حلمى التونى (1934-2024) تُطوى آخر صفحة من كتاب «الجيل الذهبي» الذى رسّخ التطبيقية الجرافيكية المصرية الحديثة، الجيل الذى حوَّل صفحات الجرائد والمجلات وأغلفة الكتب والملصقات وغيرها من المطبوعات الجماهيرية كثيفة النسخ إلى أسطح بصرية تحمل الرسائل المؤثرة للعين والعقل والقلب، وتربط النظرى بالبصرى لجماهير لا تتوافر لمعظمها مصادر «الفنون التشكيلية» -بالذات فى عالمنا الثالث- بآلياتها النخبوية، وظروفها وإمكانياتها البعيدة عنه، وتوفر للقارئ العام منتجات بصرية عصرية بروح تعتمد بالأساس على صياغة نبرتهم الخاصة وثقافة بلادهم وأبجدية منطقها. عرفت مصر فى النصف الأول من القرن الماضى أسماء فنانين سيبقون فى الذاكرة الجمعية كرموز شاهقة مخلصة، فظهر فى مجال الإبداع «الجرافيكى التحريري» الحديث، أسماء أطلقت الروح المصرية الجديدة فى الإخراج الصحفى للجرائد والمجلات، وفى صناعة الكتاب، وتصميم الإشعارات، وفى المطبوعات التحريرية المتنوعة، وحرروها من «اغتراب» وجمود وقولبة تلك المنتجات من روح الثبات والتقليد الباهت الذى ساد فيما سبقهم بحكم احتكار أسطوات الأرمن والجريك والأجانب المتمصرين للحرفة، وبحكم اعتبار تلك المهنة وقتها مجرد خطوة تقنية فى مسيرة طباعة المنتج، لا تطرح على نفسها مسئولية تقديم روح المطبوعة وأهدافها بعمق وذكاء، ولا تشتبك بالأساس مع هذا المحتوى، بالكثير كانت تقدم تصميمات لطيفة مريحة «تفى بالغرض» عبر عُمَّال يقظين، الشاطر منهم سيراعى الدقة والإحكام فى التنفيذ بقدر المستطاع. يتقدم الفنان المصرى بشجاعة مؤمنًا بقدرته ومنتبهًا لقدرة هذا الوسيط الحديث الذى سطعت أهميته ومدى تأثيره الواسع العميق أثناء وبعد التغير الدراماتيكى الكونى من أثر الحرب الرهيبة، التى فجّرت بالموازاة فكرة الدعاية وتنوع الاستهلاك والترويج وحجم حضور وزيادة الطباعة والتواصل البصرى الأكثف مع سهولة أزيَّد فى الحركة والشحن والتبادل. وسيكون هؤلاء الفنانون منطقيًا من الذين درسوا الفنون الجميلة، ك «حسين بيكار وعبد السلام الشريف » من الجيل الأول، ثم يليهم جيل عبد الغنى أبو العينين، وسعد عبدالوهاب وحسن فؤاد ثم جيل حلمى التونى ومحيى الدين اللباد، وهو الجيل الذهبى الذى سيقدم التأثير الضافى البعيد بحكم اعتبارات زمنية وظرفية مختلفة، ويقدم تجربة عظيمة الأثر والنتائج وينقلونها من مصر إلى بلاد عربية مختلفة لتشع تأثيرها فى المنطقة كلها. وبصمة خاصة لكل فنان، وهى البصمة التى ستطبع أعمال كل منهم وتشير لتفرده وحتى نهاية مشواره. منذ البداية ومبكرًا كوَّن التونى شخصية خاصة تميزت بتشابه المنطق فى كل مخرجاتها، فكان الرسم للأطفال والرسم الصحفى والإخراج الجرافيكى بها نفس السمت وذات النَفَس، فتستطيع فى أى وقت أن تشير إلى رسم أو غلاف كتاب أو تصميم صفحة مجلة وتقول مطمئنًا إنها للتونى، وفى منتصف السبعينيات ونظرًا لظروف خاصة اتجه التونى لرسم اللوحات الزيتية بالإضافة إلى الوسائط الأخرى. وأنجز منها المئات أو الآلاف. وظل يعمل عليها وحتى قبل وفاته بقليل. بالمتابعة ستجد أن التونى فى لوحاته «التشكيلية» لا يبحث ولا يتورط فى الفعل التشكيلى الخلافي.. لا يرسم لوحات خشنة أو تسجل أسئلة نفسية معقدة، أو تكشف وتصدم. الرموز التى يختارها والخلفيات والأجواء التى تحيط بها كلها تُمسرح اللوحة لتقديم مشهد مستقر بتكوين كلاسيكى هادئ تتجول فيه العين بلا هموم «تكدرها». وتتأكد كلاسيكيته بوجود بطل يحتل معظم مساحة الكادر مع تفاصيل تدور فى مجاله وتتموضع حوله، وسيكون (هذا البطل) مواجهاً للمشاهد فى أغلب الأحيان. سيذهب التونى فى معظم اللوحات إلى جانب غنائى من «الفولكلور» البصرى ليكون منه مفرداته، ويقدم هؤلاء وهاتيك الأبطال والبطلات للوحات: سيدات شابات مدينيات رشيقات بدلال خاص، أو فلاحات و«بنات بلد» بمناديل مدندنشة وسيقان ريَّانة خلاخيلها فضية سميكة، أو رجالًا أصحاء بجلاليب مخططة أو بشوارب مرفوعة وطرابيش قانية، أو فى بذلات تتدلى من صديرياتها سلاسل «كاتينة» لساعات قديمة ثمينة، أو صوانى قلل أمام شبابيك بأشياش مواربة، أو مفتوحة على سماوات صافية تقطعها أحيانًا سحابات صغيرة تضبط التكوين أكثر، أو هداهد وأسماكًا وزهورًا وفواكه متشبعة الألوان ستكون مصدرًا للإضاءة وضبط أثقال التكوين. وليتأكد تمامًا من تجسيمه لباتروناته، سيفصلها بوضوح عن بعضها بخطوط خارجية سميكة، ولن يُخطئ المشاهد بسهولة أن فى عمق هذه الحلول وكل هذه التحيزات التقنية ميله النفسى الأقرب للرؤية الجرافيكية، وهى الأصيلة والأبعد فى تكوينه! لذلك أتصور أن التجريب فى عمقه، وممارسة الانسلاخ والتجدد الحر ستلقاهم متحققين بقوة فى أعماله المرسومة للأطفال وللصحافة، وفى منتجاته الجرافيكية المطبوعة المتنوعة، وستتابع دائمًا بإعجاب تصميماته لأغلفة كتب ومجلات يستخدم فيها قطوعًا حيوية متضادة المقاسات، أو معالجات غير متوقعة لأسطح مجردة سيعتمد عليها هى فقط فى التصميم، أو يستخدم ألواناً فوسفورية شديدة الحداثة فى تلوين رسوم لكتاب نصوصه تدور فى أجواء تاريخية قديمة، أو يقرر بلا تهيُّب الاعتماد على خطه اليدوى المائل للنسخى المسطر فى التكوين الأساسى للتصميم، ويتحرك بين خط خاص مستوحى من خط «الثلث المملوكي» المنتشر فى معظم الجوامع العظيمة لك الفترة، وبين خط عاطفى يتنقل فيه بين الرفيع الممدود وبين السميك المختصر، وبين المدون منه بحدة فرشاة الرسم والتلوين. حتى الرسم المخصص للنشر سواء للصحافة أو كجزء من تكوين أى تصميم من تصميمات الأغلفة والملصقات أو للأطفال ستجده وهو يقلِّب ويطلق فيهم التجريب ببساطة ممتعة: فتجده مثلاً فى بعض الكتب يعتمد على الرسوم الملخصة المكبرة. وفى كتب أخرى على مضاهاة أسلوب الحفر والطباعة الفنية اليدوية البارزة، بتفاصيل معقدة فى تكوينات مركبة، وهكذا.. لكن فى جميع الأحوال ستجده متدفقًا يمارسه ممارسة المتملك صاحب اللياقة الطيِّعة. لى تجربة شخصية معه أتذكرها دائمًا؛ فى بداية الألفية، وأثناء تصميمى لكتالوج معرض عربى لرسوم ورسامى كتب الأطفال، وكان هو من سيقدم رسم الغلاف، وكيف أنه أثناء لقائنا قد سحب ورقة وبدأ فى الرسم وتلوينه مباشرة، على الطاولة أمامى، بسهولة واسترسال مدهشين، وكانت النتيجة كالعادة لوحة مختصرة تحمل مفرداتها وأجواءها «التونية» الخالصة. ولما أبديت إعجابى، قال لى ببساطة كريمة: «عاجباك فعلا؟ أرجوك احتفظ بها هدية مني». شعرت يومها أن ذلك الكرم ينبع من منطقة غاية فى الجمال أغبطته عليها فعلًا، وهى منطقة «الصنايعية» وأهل الصنعة الشبعانين: «خدها.. انا هاعمل غيرها كتير». فى تصميماته الجرافيكية يستلهم التونى أيضًا التراث ويستعيد الرموز المتنوعة، سواء كانت الشعبية الحديثة نسبيا كشخصيات رسوم لوحات الوشم الشعبى، أو الرموز البعيدة: الإسلامية والقبطية والفرعونية، ويوجدهم فى تصميماته مستقلين وأساسيين، لكنه هنا يمزجهم بحرية لافتة مع بعضهم، ومع عناصر أخرى أحيانًا أخرى، ليحصل على نتائج ذكية ومتجاوزة ومتحررة. تلك الحرية هى واحدة من ملامح تصميماته الجرافيكية: التى ابتعدت من بداياتها عن السائد والمكرر والمنتشر، فأدركت مثلًا أهمية دور المساحات، وأن اللون الأبيض هو لون مهم، وليس مجرد «فراغ» يجب مطاردته وحشوه واعتبار وجوده نقيصة جرافيكية. وأن هذا «الفراغ» نفسه ممكن أن يكون مطلبًا لضبط النَفَس وإيقاع المطبوعة، فتعامل معه بذكاء ورقة، وقدمه كثيرًا فى الدور الرئيسى، وأن البساطة المحسوبة فى إخراج صفحات المجلات والكتب وعلاقة النصوص والعناوين المرتاحة بالمواد المصورة والمرسومة، وحذف كل ما لا لزوم له على السطح المقروء هى الغاية الأمثل والأصح للقارئ والمتفرج، أو كدليل لقراءة العمل أو لحركة العين والوصول للهدف، الذى أصابه فعلاً باقتدار. وفى رأيى أن النقطة المهمة بالفعل أن التونى ظل ممتلئًا فخورًا وعارفًا لدور وعضوية الإخراج والتحرير البصرى فى إخراج المطبوعات التحريرية، وأنا مثلًا وبحكم انتمائى للمهنة لا أنسى سعادتى بجرأة صفته فى «ترويسة» مجلة «الكتب وجهات نظر»: حلمى التوني- رئيس تحرير فنى. ويطوى التونى الصفحة الأخيرة لجيل ظل حتى النهاية مؤمناً بثوابت بلده الوطنية والقومية، وقدَّم عن اقتناع تام تطبيقات لهذا الإيمان فى كل أعماله للصغار والكبار، ويعتبر أن قضية كقًضية فلسطين هى القضية الأولى لمصر ولكل العالم العربى، ويؤمن أنه لا طريق للتحرر الحقيقى على المستوى الشخصى والعام واستعادة أى بلد منها لإرادتها فعليًا إلا بتحرير فلسطين، فرسم التونى القصص للأطفال والملصقات المتنوعة التى ستبقى طويلاً فى الذاكرة العربية، مناصرًا للقضية وللحق العربى حتى النهاية.