على الرغم من أن نقل تمثال ديليسبس من بورسعيد الى متحف الاسماعيلية تم فى يونيو 2020 بقرار سيادى نفذه اللواء الوطنى المحترم عادل الغضبان محافظ بورسعيد السابق، الا أنه مع تعيين المحافظ الجديد اللواء محب حبشى، قامت مجموعة من المنتفعين من أبناء يورسعيد بإثارة موضوع عودة التمثال الى بورسعيد عساهم يظفروا بتأييد المحافظ الجديد لهم. فى البداية أود أن أوضح أن موضوع تمثال ديليسبس ليس حكرا على البورسعيدية وحدهم، ولكنه مسألة وطنية تهم المصريين جميعا، ولذلك ينبغى أن يكون القرار فيها للمفكرين المصريين، ولأساتذة التاريخ والخبراء والوطنيين فى ربوع مصر. ولعل الخلاف الناشب بين البورسعيدية الآن مرجعه إما الى مصلحة ضيقة، أوعدم المام بهذه الحقبة من تاريخ مصر، يتجلى ذلك فيما كتبه م. على سعدة الذى خرج علينا بمقال فى أخبار اليوم بتاريخ 9 سبتمبر الحالى لم يقدم فيه أية حقائق أو أسانيد، وانما اعتمد فيه على مغالطات تاريخية، وعلى الهجوم على رموز مصرية وطنية أمثال الكاتبة الكبيرة الأستاذة سكينة فؤاد (بنت بلده) أطال الله فى عمرها، التى ينبغى أن يجلها ويفخر بها كل بورسعيدى، والتى نفخر بها نحن النساء كرمز مشرف للمرأة المصرية. فالسيدة التى يعايرها م.على سعدة بأنها أشرفت على الثمانين، مازالت تكتب وتفكر وتبدع، وتحمل هموم أبناء بورسعيد على كاهلها، ولاتتوانى عن العمل لحل مشاكلهم كلما التجأوا اليها.. فمنذ متى كان كبر السن مذمة أو عيبا، فالأستاذ محمد حسنين هيكل أهم كاتب صحفى فى مصر والشرق الأوسط، ظل يعمل حتى توفى عن عمر يناهز 93 عاما، ولم يجرؤ أى أحد أن يعيره بعمره، ومن قبله مصطفى أمين الذى توفى عن 83 عاما وأمينة السعيد 85 عاما، والرئيس حسنى مبارك 92 عاما. أول تلك المغالطات التى وقع فيها م.على سعدة قوله عن فرديناند ديليسبس أنه "المهندس العبقرى" الذى نجح فيما لم ينجح فيه قدماء المصريين الذين فشلت منهم قناة سيزوستريس"، انه لم يكلف نفسه عناء البحث فى كتب التاريخ ليعرف أن ديليسبس لم يدرس الهندسة، بل انه لم يحصل على مؤهل جامعى، وأنه لم يكن أبدا مهندسا، وانما كان دبلوماسيا بدرجة قنصل عام فى مصر- وفى غيرها من الدول- اكتسب مكانته من والده ماثيو ديليسبس، الذى كان مبعوثا شخصيا لنابليون بونابرت فى مصر، وأصبح مقربا لشيوخ الأزهر، ومحمد على بعد توليه الحكم ، وكان آخر ماطلبه ماثيو من محمد على هو أن يأخذ بيد ابنه فرديناند ديليسبس. وتصف الانسكلوبيديا البريطانية ديليسبس بأنه دبلوماسى فرنسى شهير، ولم تقل أنه كان مهندسا، وكان كل دوره-بوصفه دبلوماسيا- أنه قام بالوساطة بين المهندسين الفرنسيين الذين خططوا ووضعوا مشروعات القناة وبين الحكام المصريين، وكان من بينهم ج.م لوبير أحد كبار مهندسى بونابرت، الذى قدم لدليسبس تقرير المسح الذى أعده للمنطقة بين البحرين الأبيض والأحمر، ثم المساحان الفرنسيان لينان بيلفوند، وإى موجل اللذان وضعا مخططا لتوصيل البحرين المذكورين، وتمكن ديليسبس بعد رفض الخديوى عباس من الحصول على موافقة الخديوى سعيد عام 1854 على عقد امتياز انشاء قناة السويس، وشرع ديليسبس فى حث الشعب الفرنسى على الاكتتاب بأكثر من نصف المال اللازم لتأسيس شركة قناة السويس. وعلى الرغم من أن الانجليز حاولوا منع انشاء القناة لشكوكهم فى نوايا الفرنسيين، الا أن ديليسبس تعاون معهم بإخلاص، وسهل لبريطانيا نقل ملكية أسهم الخديوى اسماعيل فى القناة، وبعد ذلك فشل ديليسبس فى مشروع قناة بنما، فقامت الحكومة الفرنسية بمقاضاته، وحكمت عليه هو وابنه بالسجن خمس سنوات. فهل سأل م.على سعده وأنصاره أنفسهم عن هدف ديلسبس ومهندسى نابليون بونابرت من انشاء قناة السويس فى ذلك الوقت المبكر، وهل كان ذلك لخدمة مصالح مصر أم لخدمة مصالح فرنسا والغرب، وخدمة مصالح ديليسبس الشخصية؟ وهل سألوا أنفسهم لمذا تحمس الشعب الفرنسى لتمويل المشروع، هل كان ذلك لصالح مصر أم لصالح الامبراطورية الفرنسية، التى كان يأمل بونابرت فى انشائها فى الشرق وجعل مصر مركزا لها، وكان هذا هو السبب وراء الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801). يقول م.على سعدة ان "فرنسا حاولت أكثر من مرة اعادة تمثال ديليسبس، وقدمت استعدادها لعمل ميناء لليخوت مجانا بالمدينة الحرة ببورسعيد"، لكن أصوات وحناجر الغوغاء أخافت المسئولين فى عصر مبارك"، وهذا الكلام مشكوك فيه، أولا لأن فرنسا نفسها لم تكرم ديليسبس فى بلده، وثانيا لأن فرنسا لم تعد تلك الامبراطورية الغنية التى تقدم المساعدات للدول الفقيرة، فقد قلصت فرنسا دعمها لمراكزها الثقافية فى مصر وغيرها من الدول، وتوقفت عن دعم تعليم اللغة الفرنسية بعد أن تراجعت مكانتها الدولية، وثالثا لأنه لم تعد بورسعيد منطقة حرة. وأسأل المهندس على سعدة لماذا تنتظرون أن تقيم لكم فرنسا ميناء لليخوت، والى متى سنظل نعيش عالة على الدول الغربية، وأين هى اليخوت التى ستأتى الى بورسعيد؟؟ أى كلام وخلاص. يقول م.على سعدة " فى الكرملين سترى تماثيل عدة للينين وستالين وغيرهم ممن أثروا بالسلب والايجاب فى تاريخ شعبهم"، وأقول له كلامك صحيح، ولكنهم لم يضعوا تماثيل لشخصيات أجنبية أمثال هتلر وموسولينى، أو ونستون تشرشل وشارل ديجول وغيرهم، مثلما تريد أن تضع فى مدخل القناة تمثالا لأجنبى استفادت بلده من القناة وأضرتنا، بدلا من أن تضع تمثالا للمصرى الذى ضحى فى حفر القناة، أو حتى تمثالا للخديوى سعيد صاحب الفضل فى الموافقة على المشروع والذى دعمه ماليا، أو تمثالا للخديوى اسماعيل الذى أتمه، وكان من أسباب خلعه. ومن الرموز التى هاجمها م.على سعدة بدون مبرر الدكتور مهندس على الحفناوى، فقد قال أن الأستاذة سكينة فؤاد "نقلت نقل مسطرة من كتاب من يدعى د.على الحفناوى، وأن كتابه ملئ بالنفاق والمغالطات والأكاذيب"، فاذا كنت لا تعرف من هو د.على الحفناوى فإعلم أنه ابن الدكتور مصطفى الحفناوى الحاصل على الدكتوراة فى القانون الدولى عام 1951 من جامعة السوربون فى فرنسا عن حق مصر فى استرداد قناة السويس وتأميم شركتها بتأييد من حكومة الوفد ووزير خارجيتها محمد صلاح الدين قبل ثورة 1952، والذى صاغ مع جمال عبد الناصر عام 1956 قرار تأميم قناة السويس. أما ما لا يعرفه م. على سعدة عن الدكتور على الحفناوى أن جدته لأمه كانت فرنسية, وأنه كان يتحدث الفرنسية منذ طفولته، وانه درس الهندسة المعمارية فى فرنسا، وعاش وعمل فى فرنسا نحو ربع قرن، وأنشأ بها جماعة المعماريين الفرنسية العربية، ومنحه الرئيس جاك شيراك "وسام فارس جوقة الشرف" عندما زار القرية الذكية بمصر التى ساهم د.على الحفناوى فى انشائها، وفى انشاء الجامعة الفرنسيةبمصر، كل ذلك كان ينبغى أن يجعل د.على الحفناوى فرنسى الهوى، ولكن هويته المصرية، تغلبت على ثقافته الفرنسية، كما أن موضوعية الباحث ونزاهة العالم تجعله لايحيد عن الحق أو الحقيقة، ولذلك يرفض عودة تمثال ديليسبس لأنه يعرف حقيقة الرجل. أخيرا أظن أن م.على سعدة يجب أن يراجع نفسه، ويدرك أنه أخطأ فى حق اثنين من الرموز المصرية، وأن الواجب أن يعتذر لهما، فالاعتراف بالحق فضيلة، والاعتذار لا يقلل من شأن صاحبه بل يعلى قدره.