رئيس حماية المستهلك يلتقي وزير الطيران لبحث تعزيز ثقة السائحين الأجانب    التموين تسمح للمصطافين بصرف الخبز المدعم حتي هذا الموعد    ترامب: قد نتدخل لمساعدة إسرائيل للقضاء على البرنامج النووي الإيراني    من أجل سواد عيون الصهاينة…حكومة الانقلاب تعتدى على قافلة الصمود وترحل 200 مشارك وتتحفظ على جوازات سفر العشرات    إمام عاشور: داخل أعمل العملية.. والإحساس اللي جوايا مش سهل    محافظ الإسكندرية يعتمد نتيجة الشهادة الإعدادية بنسبة نجاح 85.5 %    المشدد 15 عاما لقاتل شيخ خفراء قرية بالشرقية    بعد أن زيف مشهدًا من الحرب.. ما هو «VEO» أداة جوجل الجديدة التي أربكت الجميع؟    "فات الميعاد" والسجن العاطفي.. العلاقات التوكسيك ليست حكرًا على الرجال.. ماما "عبلة" نموذجًا    برج العذراء.. حظك اليوم الأحد 15 يونيو 2025: عرض زواج    «قرية قرب الجنة» يحصد خمس جوائز في مهرجان الفيلم النمساوي بفيينا    السفير رخا أحمد حسن: اشتعال صراع إيران وإسرائيل يهدد أمن المنطقة بأكملها    رسميًا.. جاتوزو مدربًا للمنتخب الإيطالي    رئيس جامعة المنوفية يرأس لجنة مقابلات لتجديد مناصب مديري العموم وأمناء الكليات    دعاء دخول امتحان الثانوية العامة لراحة القلب وتيسير الإجابة    مدبولى: مخطط طرح أول المطارات المصرية للإدارة والتشغيل قبل نهاية العام الجاري    مانشستر يونايتد يواجه ضربة بسبب تفضيل جيوكرس لأرسنال    الجريدة الرسمية تنشر قرارا جديدا ل رئيس الوزراء (تفاصيل)    رئيس مجلس الدولة يفتتح فرع توثيق مجمع المحاكم بالأقصر    صحيفة أحوال المعلم 2025 برابط مباشر مع الخطوات    خالي قتل أمي بكوريك.. القصة الكاملة لجريمة بالغربية سببها علبة سجائر    تحريات لكشف تفاصيل اتهام موظف بسرقة أدوية فى الطالبية    السيسي يصدق على إطلاق مبادرة «مصر معاكم» لرعاية أبناء الشهداء    إيران تنفي إرسال أيّ طلب إلى قبرص لنقل «رسائل» إلى إسرائيل    تأجيل نهائي كأس أمير الكويت لأجل غير مسمى بسبب أحداث المنطقة    رئيس الوزراء العراقي: العدوان الإسرائيلي على إيران يمثل تهديدا للمنطقة    ما يقرب من 2 مليون.. تعرف على إجمالي إيرادات فيلم "المشروع X"    لطيفة تؤجل طرح ألبومها الجديد بعد صدمة وفاة شقيقها نور الدين    مكتبة الإسكندرية تطلق أحدث جوائزها للمبدعين الشباب    محافظ الشرقية يستقبل أسقف ميت غمر ودقادوس وبلاد الشرقية والوفد الكنسي المرافق    لطلبة الثانوية العامة.. تناول الأسماك على الغداء والبيض فى الفطار    طب قصر العيني تُحقق انجازًا في الكشف المبكر عن مضاعفات فقر الدم المنجلي لدى الأطفال    مجلس النواب يُحيل 5 قوانين للبحث والتنقيب عن البترول للجان المختصة    في عيد ميلاده ال33.. محمد صلاح يخلد اسمه في سجلات المجد    "لا للملوك": شعار الاحتجاجات الرافضة لترامب بالتزامن مع احتفال ذكرى تأسيس الجيش الأمريكي    النواب يحذر من تنظيم مسيرات أو التوجه للمناطق الحدودية المصرية دون التنسيق المسبق    شكوك حول مشاركة محمد فضل شاكر بحفل ختام مهرجان موازين.. أواخر يونيو    ماشى بميزان فى سيارته.. محافظ الدقهلية يستوقف سيارة أنابيب للتأكد من الوزن    قرارات إزالة لمخالفات بناء وتعديات بالقاهرة وبورسعيد والساحل الشمالي    حزب العدل والمساواة يعقد اجتماعًا لاستطلاع الآراء بشأن الترشح الفردي لمجلس الشيوخ    نظام غذائي متكامل لطلبة الثانوية العامة لتحسين التركيز.. فطار وغدا وعشاء    حسين لبيب يعود إلى نادي الزمالك لأول مرة بعد الوعكة الصحية    "برغوث بلا أنياب".. ميسي يفشل في فك عقدة الأهلي.. ما القصة؟    يسري جبر يوضح تفسير الرؤيا في تعذيب العصاة    جامعة القاهرة تنظم أول ورشة عمل لمنسقي الذكاء الاصطناعى بكليات الجامعة ومعاهدها    محافظ أسيوط يشهد فعاليات اليوم العلمي الأول للتوعية بمرض الديمنشيا    تحرير 146 مخالفة للمحلات لعدم الالتزام بقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    «خلافات أسرية».. «الداخلية» تكشف ملابسات مشاجرة بالأسلحة البيضاء في البحيرة    البابا تواضروس يترأس قداس الأحد الثاني من بؤونة بكنيسة العذراء والشهيدة مارينا بالعلمين (صور)    أخر موعد للتقديم لرياض الأطفال بمحافظة القاهرة.. تفاصيل    توافد طلاب الدقهلية لدخول اللجان وانطلاق ماراثون الثانوية العامة.. فيديو    الأردن يعلن إعادة فتح مجاله الجوي بعد إجراء تقييم للمخاطر    متى تبدأ السنة الهجرية؟ هذا موعد أول أيام شهر محرم 1447 هجريًا    الغارات الإسرائيلية على طهران تستهدف مستودعا للنفط    أصل التقويم الهجري.. لماذا بدأ من الهجرة النبوية؟    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 15-6-2025 في محافظة قنا    هاني رمزي: خبرات لاعبي الأهلي كلمة السر أمام إنتر ميامي    موعد مباراة الأهلي وإنتر ميامي والقنوات الناقلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قلوب كأفئدة الطير
يوميات الاخبار

أتحداك أن تستمع إلى خطبة جمعة واحدة منه، دون أن يهتز قلبك، وتتخدر حواسك، وتغسل وجهك بدموع الخشوع، ولا تحرص على أن تكون أول الحاضرين فى الخطبة التالية.
سيرة ال «جمال»
أسكن فى المنطقة منذ سنوات طويلة، إلا أننى تعرفت على الرجل بالصدفة قبل عامين فقط، لم أكن من رواد المكان، ولا أتذكر من أرشدنى إليه، بعد دخولى بدقائق، وجدته يصعد بضع درجات سلم قصير، قال: «السلام عليكم»، ثم جلس على مقعد مرتفع. رد الجميع السلام، وبعدها لاذوا بالصمت.
قام، وتدفقت الكلمات من فمه كالسيل، صوته أحياناً يعلو إلى أقصى درجة، كأنما ينادى على ابنه المفقود، ثم ينساب ناعماً وقوياً كأنه يناجى صديقاً بالقرب منه، أو ينخفض كأنه يهمس بشيء لا يود أن نسمعه، وكلما مضت دقيقة يدخل رجال جدد، يمسكون بنعالهم التى خلعوها على الأبواب، ويبحثون لها عن موضع، قبل أن يبحثوا لأنفسهم عن مساحة صغيرة تسمح لهم بالجلوس والإنصات.
هو الوحيد المسموح له بالحديث فى ذلك المبنى الواسع بجدرانه العالية وأبوابه المفتوحة، والمئات أمامه جلوس، يحلق فوق رءوسهم الطير، يتطلعون نحوه، برقاب ممدودة، وآذان مفتوحة حتى لا تفوتهم كلمة مما يقول.
يشبه «أنتونى كوين» فى فيلم عمر المختار، ملامح ممغنطة لرجل تجاوز السبعين بأيام، عينان قويتان لصقر عربى تفيضان بالقوة والوداعة والفراسة، ولحية تشع بياضاً صبغتها السنين الطويلة بالهيبة والوقار، وصوت جبلى يرج القلوب، ويدان نحيلتان لا تتوقفان عن التشخيص، وثغر باسم.
أنيق من غير إسراف، لا تغيب عن وجهه السماحة، مهيب كأنه صاحب سلطان، ومتواضع مثل مسكين يستحق الصدقة، خلطة من الثقة والزهد من النادر أن تراها فى شخص، ولا تقع فى محبته.
اسمه الشيخ جمال عبد المعطى سيد، إمام وخطيب مسجد عثمان بن عفان بمنطقة عرب راشد بحلوان، أتحداك أن تستمع إلى خطبة جمعة واحدة منه، دون أن يهتز قلبك، وتتخدر حواسك، وتغسل وجهك بدموع الخشوع، ولا تحرص على أن تكون أول الحاضرين فى الخطبة التالية.
على مدار عامين، لم أضبط الشيخ يكرر افتتاحية مرتين، لا تعرف إن كان ينسخ افتتاحياته من الكتب التى يقرأها ويلقيها على المصلين، أم يأتى بها من بنات أفكاره، ودائماً يربط موضوع الخطبة بالأحداث الجارية، والمعلومات الموثقة بالمصادر والأرقام، وفى كل مرة يحرص على أن يحارب التشدد والمغالاة، بأسلوب صوفى فاتن، وهو يشجع الناس على الاستمتاع بالحياة والتواد والتراحم فيما بينهم.
لغة الشيخ فصيحة خالية من الأخطاء النحوية، ينطقها بلكنة أزهرية تنفذ إلى الأرواح، يخففها أحياناً بعامية مرحة، بينما مقاماته الصوتية تمكنك من رؤية ما يقول، وهو يستشهد بقصائد بديعة، وقصص حياتية لم تسمعها من قبل، والمهم أنه يعرف من أين يبدأ وكيف يسترسل ومتى يتوقف، فى حين لا ينظر إلى ساعته أبداً، ومع ذلك ينهى الخطبة فى الوقت المحدد دون إطالة.
إذا ذهبت لتصافحه بعد انتهاء الصلاة تجده يسرع إليك فى مكانك، وإذا أثنيت على علمه وبراعته فى الخطابة، يحنى رأسه وكأنك تؤنبه، وهو يسأل الله القبول، فإذا هممت لتقبل يده يفوت عليك الفرصة، وينحنى ليقبّل يدك.
يدير الشيخ جمعية خيرية تنفق على عشرات الأسر المحتاجة بما يجمعه من صدقات، يقصده فقراء المنطقة، ولا يرد سائلاً أتى إليه، كأنما جيوبه لا تفرغ أبداً!
اعتذار يليق بمعلم
عقب تخرجى فى الجامعة اشتغلت لفترة مدرساً، بدأتها بمدرسة الجمالية الابتدائية بإحدى قرى قوص بقنا، وهناك تعرفت على الأستاذ «فرج» الذى فوجئت به ذات مرة - يدخل عليَّ الفصل وأنا أشرح للتلاميذ - مهموماً على غير عادته، ووجه ينزف عرقاً فى الشتاء، وجسده يرتعش، ظننت أنه مريض، انتحى بى مكاناً، وقال: أنا عملت عملة سودا.. مهببه.. اتريقت على عيد وضحكت عليه الناس».. سألته: «عيد مين؟». قال: «مدرس الرسم.. بس أنا كنت بهزر مقصدش أجرحه.. بس حسيته خد فى نفسه». قلت لفرج: «خد فى نفسه إزاي؟». أخبرنى بأن عيد أكبر منه وكان معلمه فى الابتدائية، ولم يكن من المفروض أن يرفع الكلفة بينهم إلى تلك الدرجة.
قلت له: «طيب ما تاخد بخاطره وتعتذر له»، قال: «منا دخلت عليه الفصل وحبيت على راسه». قلت: «طيب خلاص.. منت عملت اللى عليك.. عايز إيه تاني؟». قال بصوت عال: «لاه.. أنا اتمسخرت عليه قدام المدرسين ولازم أعتذرله قدامهم كلهم»!
فى الفسحة، جمع فرج المدرسين والإداريين واعتذر للأستاذ عيد أمامنا جميعا، لدرجة أن عيد نفسه استغرب وهو يقول: «متكبرش الموضوع يا فرج، إحنا كنا بنهزروا يا واد اخوي، وانا ياما بشتمك وانت عمرك ما زعلت.. هاجى أنا وادقق على كلمة لا تودى ولا تجيب؟.. سأله فرج: «يعنى مش زعلان بذمتك؟».. ورد عيد: «والله ما زعلان.. ولا يمكن أزعل منك أبداً».
ابتسم فرج أخيراً، ورن الجرس، وكل مدرس ذهب على فصله، ولم يمر خمس دقائق إلا ووجدت فرج يعود إليًّ مرة أخرى، وهو يقول: «بس برضك يعنى مكنش مفروض اتمسخر عليه واصل»، قلت له: «خلاص يا فرج.. الموضوع بسيط.. وانت راضيته.. وخلصنا»، ورد فرج: «لاه.. ماخلصناش.. الكلمة زى السيف بتجرح وتكتل وتدبح وأنا قليل أدب»، قالها وهو منفعل، فأخذته بعيداً عن العيال وأنا أقول له: «ماتفضها سيرة يا فرج»، فقال»لاه.. والله أبداً».
تركنى وجري، فجريت وراءه، نزل على السلم، وأنا خلفه، دخل على عيد حجرة المدرسين وهجم عليه: «سامحنى يا خال، أنا أستاهل ضرب الجزمة»، زقه عيد وهو يقول له: «ماكفاية يا فرج حديتك الماسخ ده.. زهقتنى يا شيخ»، فقال له فرج: «يعنى إنت مش زعلان بذمتك»، ورد عيد: «عليا الطلاق ما زعلان ياخي.. إنت هتزعلنى بالعافية».
ابتسم فرج من جديد، فوضعت رأسه تحت إبطي، لأصعد به إلى الفصل، لكنه أفلت منى وارتمى على الأرض، وهو يرفس برجليه، ويقول: أنا آسف يا عيد.. أنا آسف ياعيد.. وأغمى عليه!.
أرسل الناظر لشيخ يقرا عليه، حضر الشيخ ووجده ملموماً فى حضن عيد، الذى كان يبكي، ويقول: «فرج راح فى شربة ميه»، غسلنا وجه فرج بالماء، وملأنا أنفه بعطر من زجاجة تبرعت بها إحدى الزميلات، وحين أفاق كان أول ما شاهده وجه عيد، فقال له: «سامحنى يا عيد أنا مقصدتش».. وقاطعه عيد وهو يقول له: «كفاية يا واكل ناسك.. هتيتم عيالك».
تركت المدرسة والتدريس، ومرت سنين على الواقعة، ورأيت فرج صدفة فى إحدى زياراتى للصعيد، وبعد الأحضان والسلامات، قلت مازحاً: «فاكر لما اتمسخرت على عيد يا فرج!؟».
توقعت أن يضحك هو الآخر، لكنى فوجئت بوجهه يتغير وهو يقول: «غلطت يا عبصبور.. ومش عارف أسامح نفسي.. مكنش مفروض أصغره قدام الناس، وهو اللى علمنى وانا صغير».. وشيئاً فشيئاً بدأ صوته فى الارتفاع، حتى ظن الناس فى الشارع أننا نتشاجر، وتزاحموا ليصلحوا بيننا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.