أتحداك أن تستمع إلى خطبة جمعة واحدة منه، دون أن يهتز قلبك، وتتخدر حواسك، وتغسل وجهك بدموع الخشوع، ولا تحرص على أن تكون أول الحاضرين فى الخطبة التالية. سيرة ال «جمال» أسكن فى المنطقة منذ سنوات طويلة، إلا أننى تعرفت على الرجل بالصدفة قبل عامين فقط، لم أكن من رواد المكان، ولا أتذكر من أرشدنى إليه، بعد دخولى بدقائق، وجدته يصعد بضع درجات سلم قصير، قال: «السلام عليكم»، ثم جلس على مقعد مرتفع. رد الجميع السلام، وبعدها لاذوا بالصمت. قام، وتدفقت الكلمات من فمه كالسيل، صوته أحياناً يعلو إلى أقصى درجة، كأنما ينادى على ابنه المفقود، ثم ينساب ناعماً وقوياً كأنه يناجى صديقاً بالقرب منه، أو ينخفض كأنه يهمس بشيء لا يود أن نسمعه، وكلما مضت دقيقة يدخل رجال جدد، يمسكون بنعالهم التى خلعوها على الأبواب، ويبحثون لها عن موضع، قبل أن يبحثوا لأنفسهم عن مساحة صغيرة تسمح لهم بالجلوس والإنصات. هو الوحيد المسموح له بالحديث فى ذلك المبنى الواسع بجدرانه العالية وأبوابه المفتوحة، والمئات أمامه جلوس، يحلق فوق رءوسهم الطير، يتطلعون نحوه، برقاب ممدودة، وآذان مفتوحة حتى لا تفوتهم كلمة مما يقول. يشبه «أنتونى كوين» فى فيلم عمر المختار، ملامح ممغنطة لرجل تجاوز السبعين بأيام، عينان قويتان لصقر عربى تفيضان بالقوة والوداعة والفراسة، ولحية تشع بياضاً صبغتها السنين الطويلة بالهيبة والوقار، وصوت جبلى يرج القلوب، ويدان نحيلتان لا تتوقفان عن التشخيص، وثغر باسم. أنيق من غير إسراف، لا تغيب عن وجهه السماحة، مهيب كأنه صاحب سلطان، ومتواضع مثل مسكين يستحق الصدقة، خلطة من الثقة والزهد من النادر أن تراها فى شخص، ولا تقع فى محبته. اسمه الشيخ جمال عبد المعطى سيد، إمام وخطيب مسجد عثمان بن عفان بمنطقة عرب راشد بحلوان، أتحداك أن تستمع إلى خطبة جمعة واحدة منه، دون أن يهتز قلبك، وتتخدر حواسك، وتغسل وجهك بدموع الخشوع، ولا تحرص على أن تكون أول الحاضرين فى الخطبة التالية. على مدار عامين، لم أضبط الشيخ يكرر افتتاحية مرتين، لا تعرف إن كان ينسخ افتتاحياته من الكتب التى يقرأها ويلقيها على المصلين، أم يأتى بها من بنات أفكاره، ودائماً يربط موضوع الخطبة بالأحداث الجارية، والمعلومات الموثقة بالمصادر والأرقام، وفى كل مرة يحرص على أن يحارب التشدد والمغالاة، بأسلوب صوفى فاتن، وهو يشجع الناس على الاستمتاع بالحياة والتواد والتراحم فيما بينهم. لغة الشيخ فصيحة خالية من الأخطاء النحوية، ينطقها بلكنة أزهرية تنفذ إلى الأرواح، يخففها أحياناً بعامية مرحة، بينما مقاماته الصوتية تمكنك من رؤية ما يقول، وهو يستشهد بقصائد بديعة، وقصص حياتية لم تسمعها من قبل، والمهم أنه يعرف من أين يبدأ وكيف يسترسل ومتى يتوقف، فى حين لا ينظر إلى ساعته أبداً، ومع ذلك ينهى الخطبة فى الوقت المحدد دون إطالة. إذا ذهبت لتصافحه بعد انتهاء الصلاة تجده يسرع إليك فى مكانك، وإذا أثنيت على علمه وبراعته فى الخطابة، يحنى رأسه وكأنك تؤنبه، وهو يسأل الله القبول، فإذا هممت لتقبل يده يفوت عليك الفرصة، وينحنى ليقبّل يدك. يدير الشيخ جمعية خيرية تنفق على عشرات الأسر المحتاجة بما يجمعه من صدقات، يقصده فقراء المنطقة، ولا يرد سائلاً أتى إليه، كأنما جيوبه لا تفرغ أبداً! اعتذار يليق بمعلم عقب تخرجى فى الجامعة اشتغلت لفترة مدرساً، بدأتها بمدرسة الجمالية الابتدائية بإحدى قرى قوص بقنا، وهناك تعرفت على الأستاذ «فرج» الذى فوجئت به ذات مرة - يدخل عليَّ الفصل وأنا أشرح للتلاميذ - مهموماً على غير عادته، ووجه ينزف عرقاً فى الشتاء، وجسده يرتعش، ظننت أنه مريض، انتحى بى مكاناً، وقال: أنا عملت عملة سودا.. مهببه.. اتريقت على عيد وضحكت عليه الناس».. سألته: «عيد مين؟». قال: «مدرس الرسم.. بس أنا كنت بهزر مقصدش أجرحه.. بس حسيته خد فى نفسه». قلت لفرج: «خد فى نفسه إزاي؟». أخبرنى بأن عيد أكبر منه وكان معلمه فى الابتدائية، ولم يكن من المفروض أن يرفع الكلفة بينهم إلى تلك الدرجة. قلت له: «طيب ما تاخد بخاطره وتعتذر له»، قال: «منا دخلت عليه الفصل وحبيت على راسه». قلت: «طيب خلاص.. منت عملت اللى عليك.. عايز إيه تاني؟». قال بصوت عال: «لاه.. أنا اتمسخرت عليه قدام المدرسين ولازم أعتذرله قدامهم كلهم»! فى الفسحة، جمع فرج المدرسين والإداريين واعتذر للأستاذ عيد أمامنا جميعا، لدرجة أن عيد نفسه استغرب وهو يقول: «متكبرش الموضوع يا فرج، إحنا كنا بنهزروا يا واد اخوي، وانا ياما بشتمك وانت عمرك ما زعلت.. هاجى أنا وادقق على كلمة لا تودى ولا تجيب؟.. سأله فرج: «يعنى مش زعلان بذمتك؟».. ورد عيد: «والله ما زعلان.. ولا يمكن أزعل منك أبداً». ابتسم فرج أخيراً، ورن الجرس، وكل مدرس ذهب على فصله، ولم يمر خمس دقائق إلا ووجدت فرج يعود إليًّ مرة أخرى، وهو يقول: «بس برضك يعنى مكنش مفروض اتمسخر عليه واصل»، قلت له: «خلاص يا فرج.. الموضوع بسيط.. وانت راضيته.. وخلصنا»، ورد فرج: «لاه.. ماخلصناش.. الكلمة زى السيف بتجرح وتكتل وتدبح وأنا قليل أدب»، قالها وهو منفعل، فأخذته بعيداً عن العيال وأنا أقول له: «ماتفضها سيرة يا فرج»، فقال»لاه.. والله أبداً». تركنى وجري، فجريت وراءه، نزل على السلم، وأنا خلفه، دخل على عيد حجرة المدرسين وهجم عليه: «سامحنى يا خال، أنا أستاهل ضرب الجزمة»، زقه عيد وهو يقول له: «ماكفاية يا فرج حديتك الماسخ ده.. زهقتنى يا شيخ»، فقال له فرج: «يعنى إنت مش زعلان بذمتك»، ورد عيد: «عليا الطلاق ما زعلان ياخي.. إنت هتزعلنى بالعافية». ابتسم فرج من جديد، فوضعت رأسه تحت إبطي، لأصعد به إلى الفصل، لكنه أفلت منى وارتمى على الأرض، وهو يرفس برجليه، ويقول: أنا آسف يا عيد.. أنا آسف ياعيد.. وأغمى عليه!. أرسل الناظر لشيخ يقرا عليه، حضر الشيخ ووجده ملموماً فى حضن عيد، الذى كان يبكي، ويقول: «فرج راح فى شربة ميه»، غسلنا وجه فرج بالماء، وملأنا أنفه بعطر من زجاجة تبرعت بها إحدى الزميلات، وحين أفاق كان أول ما شاهده وجه عيد، فقال له: «سامحنى يا عيد أنا مقصدتش».. وقاطعه عيد وهو يقول له: «كفاية يا واكل ناسك.. هتيتم عيالك». تركت المدرسة والتدريس، ومرت سنين على الواقعة، ورأيت فرج صدفة فى إحدى زياراتى للصعيد، وبعد الأحضان والسلامات، قلت مازحاً: «فاكر لما اتمسخرت على عيد يا فرج!؟». توقعت أن يضحك هو الآخر، لكنى فوجئت بوجهه يتغير وهو يقول: «غلطت يا عبصبور.. ومش عارف أسامح نفسي.. مكنش مفروض أصغره قدام الناس، وهو اللى علمنى وانا صغير».. وشيئاً فشيئاً بدأ صوته فى الارتفاع، حتى ظن الناس فى الشارع أننا نتشاجر، وتزاحموا ليصلحوا بيننا.