عاش محمود درويش بين المدن، لكنه لم يكن يومًا مقيمًا بالكامل فى أى منها، كل مدينة تركت أثرًا فى شعره، من «حيفا» إلى «باريس»، كانت كل محطة تضيف إلى قصائده عمقًا وتجربة جديدة. المدن فى حياة درويش ليست مجرد أماكن؛ إنها رموز لحالة الإنسان، لحالة الفلسطينى الباحث عن وطنه، ولحالة الشاعر الباحث عن المعنى فى عالم مليء بالأسئلة، كانت المدن محطاتٍ فى رحلة طويلة نحو الوطن الحقيقى الذى كان يسكن قلبه وقصائده. من «حيفا» إلى «باريس»، كانت هذه المدن مصادر إلهام، وأماكن للبحث عن الهوية، النضال، والحقيقة. انعكس تأثير هذه المدن على شعر «درويش» من خلال تحولاته المختلفة، من الحنين إلى الوطن، إلى الانخراط فى القضايا القومية، وأخيرًا إلى التأمل الفلسفى والوجودي. هذه المدن ليست مجرد أماكن، بل هى رموز وأيقونات فى رحلة درويش الشعرية. الجذور والهوية وُلد «درويش» فى قرية البروة بالقرب من مدينة «عكا»، وتعتبر «حيفا» إحدى المدن التى ارتبطت بذكريات طفولته فى شعره، ترمز «حيفا» والقرى المحيطة بها إلى الجذور الضاربة فى الأرض والهوية الفلسطينية التى لم تُقتلع رغم التهجير والاحتلال. فى قصيدته «بطاقة هوية»، يتحدث درويش بلسان الفلسطينى الذى يرفض التخلى عن هويته رغم القمع. والقصيدة تعكس التمسك بالهوية رغم كل محاولات المحو والتهجير، وهو موضوع حاضر بقوة فى أشعاره المرتبطة بالمكان الأول. الانطلاق من القاهرة فى أوائل الستينيات، انتقل «درويش» إلى «القاهرة»، حيث بدأ بالعمل فى مجلة «الآداب»، وأيضًا فى إذاعة صوت العرب. كانت «القاهرة» بالنسبة إلى «درويش» منصة الانطلاق نحو العالمية، إذ نشر فيها العديد من أعماله الأولى، وتأثر بالتيارات الفكرية والسياسية السائدة، وهذا الانفتاح على العالم العربى الأكبر دفعه إلى الكتابة بروح قومية تتجاوز الحدود الفلسطينية، ولكن دون أن ينسى «فلسطين»، وهو ما يظهر فى ديوانه «عاشق من فلسطين». الثورة والصمود شهدت «بيروت» نضج «درويش» الشعرى والسياسي، انتقل إليها فى بداية السبعينيات، حيث عمل فى مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكان شريكًا فى تحرير مجلة «الكرمل». «بيروت» فى تلك الفترة كانت مدينة مشتعلة بالثورة، والحرب الأهلية اللبنانية، وتأثرت قصائد «درويش» بأجواء المقاومة السائدة هناك، حيث كتب عن القتال، الحصار، والموت، ولكنه أيضًا كتب عن الأمل، والصمود، ومن أبرز قصائده التى تعكس روح بيروت قصيدة «مديح الظل العالي». التأمل والانفتاح على العالم وفى الثمانينيات بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من «بيروت» انتقل «درويش» إلى «باريس»، التى كانت ملاذًا بعيدًا عن أجواء الحرب، ومكانًا للتأمل والتفكير، وهناك تأثرت قصائد «درويش» بالتجارب الثقافية، والفلسفية الأوروبية، وانعكس ذلك فى استخدامه للمجازات والأسئلة الوجودية. فى قصيدته «الجدارية»، التى كتبها بعد تجربة مرضية قريبة من الموت، مثلت «باريس» مرحلة جديدة فى حياة «درويش»، حيث أصبح شعره أكثر تعمقًا فى الذاتية والكونية، بعيدًا عن الحماسة الثورية المباشرة، وبدأ فى استكشاف معانٍ جديدة للحياة والموت، والوجود والعدم. وإضافةً إلى المدن التى عاش فيها، شكل المنفى بحد ذاته «مدينة» متنقلة فى حياة «درويش»، كان المنفى المكان الذى يعكس الاغتراب، ولكن أيضًا البحث المستمر عن الوطن، والحلم بالعودة. فى قصيدته «مَديح الظل العالي»، يعبر «درويش» عن هذا الاغتراب والبحث المستمر عن الهوية. المنفى هو حالة دائمة فى شعر «درويش»، حيث كل مدينة يعيش فيها، أو يمر بها، تظل فى النهاية مدينة مؤقتة، حتى الوصول إلى «الوطن». بعد خروجه من فلسطين، تنقل «محمود درويش» بين مدن عديدة، كان منها: «بيروت»و«قبرص»و«القاهرة»و«تونس»و«باريس»، بالإضافة إلى بعض المدن التى زارها لفترات قصيرة فى الغرب بوجه خاص. والحقيقة أن كل هذه المدن، التى توزعت بين كونها «دون إقامة» و«مدن انتقال» و«مدن رحيل».. كلها كانت «المنافى الواسعة» التى مثلت مساحة كبيرة جدًا فى شعره حيث عاش وتنقل بعيدًا عن أرضه ووطنه. وفى الختام يعلق الناقد الكبير د. حسين حمودة قائلا: فى وطنه عاش «محمود درويش» قليلا بشروط المحتل، وفى هذه المدن عاش معاناة أخرى، معها أصبحت الموانئ والمطارات والبيوت الغريبة، مهما كانت درجة ألفتها، هى مفردات لحياة مؤقتة، مستقرات أو استراحات عابرة. حضور هذه المدن فى شعر محمود درويش، منذ ديوانه «محاولة رقم 7» بشكل خاص، حضور هائل.. أصبحت هذه المدن جزءًا أساسيًا من صياغة تجربته وتجربة الفلسطينيين المأساوية، حيث يحمل ويحملون بداخلهم وطنهم البعيد فى هذه المدن الغريبة، والتى سوف تظل غريبة، مهما لاحت ألفتها الظاهرية. وربما كان الحضور الأكبر لبعض هذه المدن، مثل: «بيروت»، مرتبطًا بأشكال أخرى، من التجارب القاسية فيها.. لكن تظل هذه المدن جميعًا ،أيًا كانت درجة حضورها فى شعر درويش، تذكرة دائمة بالابتعاد عن الوطن، وتجسيدًا متصلا للحياة التى غدت محض انتظارٍ طويل.