لا يستسيغ الروائى اللبنانى حسن داوود الكتابة عن حدث راهن، ويرفض ذلك ويفضل الرجوع إلى ما فعلتْ فيه الذاكرة فعلها، وأيضاً، لم تعد تعنيه النقاشات التى بدأت منذ عقود وما زال ظلها قائماً، فى أكثر من بلد عربى، عن استخدام اللغة العامية أو الفصحى فى كتابة الأعمال الإبداعية، لأنه فى الرواية يكتب ما تستدعيه الرواية وما تراه مقبولاً أو مستساغاً، ويقول أن الكتابة تصبح أصعب مع تقدّم العمر، وأنه قريب من أبطاله أكثر من العادى. حسن داوود، من مواليد بيروت 1950، عمل فى الصحافة الأدبية فى عدة صحف لبنانية، وصدر له عدد من المجموعات القصصية والروايات منها: «بناية ماتيلد»، «غناء البطريق» التى حازت على جائزة المنتدى الثقافى اللبنانى فى فرنسا، «مئة وثمانون غروباً» التى حصدت جائزة المتوسط «2009»، و»لا طريق إلى الجنّة» التى نالت جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية «2015»، وقد تُرجمت رواياته إلى عدة لغات منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، ومؤخراً صدرت له فى القاهرة، عن دار الشروق، الطبعة المصرية من روايته الأحدث «فرصة لغرام أخير» والتى يجرى حولها حوارى معه.. كان وباء الكورونا مصدراً لعدة أعمال أدبية، كيف حققت خصوصية تجربتك فى «فرصة لغرام أخير» وسط ما صدر من أعمال عن الوباء؟ وأنا منكفىء فى منزلى خوفا من أن يأتينى الوباء، كنت غالبا ما أقارن بين الوباء والحرب - هما مختلفان - أول ما يخطر فى ذهنى أصوات القذائف المرعبة، فى عزلة الوباء لا صوت يُسمع ولا أى صوت حتى تلك التى تأتى من حركة الناس فى الشارع ومن تنقّل المصعد بين طوابق المبنى انطلاقاً وتوقّفاً اختفت تماما، نوع من السبات الطويل اختفى فيه الجميع ولا أحد يطل على الخارج من نافذة شقته أو يخرج للحظة إلى شرفته، كان هذا بين ما حفّزنى على كتابة روايتي، فى الثالثة فجراً انتبهت إلى ذلك كانت الشقق كلها مطفأة الكل نيام لكننى تساءلت لماذا لم أشاهد أحداً منهم على شرفته فى النهارات وطيلة مدةّ اختبائهم، هذه الفكرة المجرّدة الدالّة تماماً على فقدان الرغبة لدى الناس فى معرفة ما يجرى أو ما لا يجرى فى الخارج، هى التى دفعتنى إلى البدء بكتابة هذه الرواية. هناك من يعترضون على استخدام القضايا العامة مباشرة فى الفن، وأنه يجب أن تكون هناك مسافة كافية من هذه القضايا، حتى تتضح الصورة بشكل أفضل، ما رأيك وتفسيرك لهذا الاتجاه؟ أنا أيضا لا أستسيغ الكتابة عن حدث راهن، بل إننى فى أكثر ما كتبت كنت أرجع إلى ما فعلتْ فيه الذاكرة فعلها، وأنا لشدة رفضى لما قد يبدو مناسباتياً، بحسب التعبير الدارج فى أوساط الصحافيين، كرهت أن يُعرّف الكتاب بأنه بين أول الكتابات عن الكورونا بل وكنت حريصا أيضاً على ألا يرد ذكر الوباء فى العنوان الذى أرسى على « فرصة لغرام أخير»، لكن رغم ذلك وضعتنى الفكرة التى طرأت لى فى ذلك الليل فى ما تشعر به حين تُدفع لأن تكتب، أقصد أنها كانت فكرة أدبية أظهرت على الفور عن إمكان تعميقها واتساعها، ربما لأنها ليست طالعة من حادثة عابرة، فهى من فور انبثاقها فى رأسى حملت ذلك الاختلاف الذى أصاب الزمن بين ماضيه وحاضره، لقد تغيّر الزمن كله، وبكل ما فيه فصار البشر فى النهار على نحو ما دأبوا على أن يكونوه فى الليل، ولا يقتصر ذلك على يوم واحد ما دمنا أنذاك قد أنهينا شهوراً فى انكفائنا، كما أن جغرافية المكان تبدّلت أيضاً، لم يعرف كل من الرجلين اللذين خرج كل منهما لملاقاة معشوقته كيف يسلك فى الطريق وماذا تخبىء المقاهى التى اختلف روادها، ثم أن ذاك التبدّل فى المشهد وما يستتبعه ذاك التبدّل الذى يستحضر الماضى أو يتضمّنه، شخصيات الرواية يحملون فى وجودهم وعيشهم أزمنة عيشهم السابقة، إنهم كهول دائمو التلصًّص على العالم الذى يعرفونه وقد تغيّر إلى هذا الحدّ. «الكل يتلصص على الكل، ويختفى العجائز وراء النوافذ متلصصين من خلف الستائر، وكورونا مستمر فى حصد أرواح ضحاياه» ، أنت تكتب عن شىء داخلى بالنفس البشرية والدواخل متقاربة، تكاد تتشابه، كيف درست تغييرات الخريطة النفسية للإنسان فى زمن الوباء؟ الأرجح أن الكل يتلصًص على الكل، ليس فقط الرجلان الكهلان بطلا الرواية بل المرأة فى البناية المقابلة التى كانت تتلصّص على أحدهما من ثنايا مشربيتها، أم ّ زوجها المقيمة معها كانت بدورها تتلصص عليها، خادمتها كذلك، أما الكهلان فأوسعا مجال تلصّصهما بالتخيّل كانا، يتخيّلان مثلاً كيف يراقب من فى تلك الشقة سواه وكيف هى متوزعة غرف الشقة بين ساكنيها، هذا هو عمل الرواية فى الأصل أو هذا جزء منه على الأقل، ربما زاد الوباء من شهيتهم تجاه ذلك. تستخدم اللهجة اللبنانية فى روايتك، لماذا، ألم تخشى أن يؤثر ذلك على انتشار الرواية، ألم يكن من الأفضل الكتابة باللغة الفصحى لتحقيق انتشار أكثر بين القراء فى مختلف الدول العربي؟ الحوار فقط، ظل هذا السؤال يشغلنى منذ أن بدأت بكتابة «بناية ماتيلد» روايتى الأولى، لا حوار فى تلك الرواية بين شخصياتها وكذلك كان الحال فى الروايات اللاحقة، التخاطب بين المتكلمين أجريه بلا حوار، وإن مسّت الحاجة إليه كان يٌكتنف بالرد بالكلام الذى أرويه نيابة عن تلك الشخصيات، آنذاك كنت أسأل عن خلوّ الروايات من الحوار فأجيب أننى حائر، بل مرتبك بين لغتين فكيف يمكننى أن أكتب بالفصحى ما تقوله مدام لور لنبيهة الشيباتى جارتها فى نفس الطابق عن الطبخة التى تعدّها لغداء اليوم، كما أننى كنت أرى أننى إن كتبت ذلك بالعامية أكون أنتقل، أو أقفز، أو أهبط من مجال لغوى إلى مجال لغوى آخر، ربما بالتدريج بدأت أُدخل الحوارات بالعامية لكننى مع ذلك بقيت شديد الحذر، عند كل لحظة انتقال من الكلام السردى الفصيح إلى الحوار العام، وهنا أقول أن هذا الانتقال لا بد أن يغيّر أشياء فى النصّ المكتوب، لكن ما يجب أن أقوله هو أننى لم أعد متحيّزاً لأى من اللغتين، بالمعنى العقيدى الذى استدعى سجالات بين الكتّاب والنقاد وأصحاب الدعوات السياسية، تلك النقاشات التى بدأت من عقود وما زال ظلها قائماً، هنا وهناك فى غير بلد عربى لم تعد تعنيني، فى الرواية أنا أكتب ما تستدعيه الرواية وما تراه مقبولاً أو مستساغاً، أما عن أن الكتابة بالفصحى تحقّق انتشاراً فهذا يشغلنى بالتأكيد، لكن، مع ذلك، لم يأتنِ عن ذلك شيء من قراء عرب غير لبنانيين قرأوا أيا من هذه الروايات. هنا، تبرز قضية الفصحى واللهجات العامية فى الأدب، كيف تراها؟ ربما كان ما قلته عن ذلك فى السؤال السابق كافياً، لكن أضيف هنا أننى بتّ متسامحا مع ما يقوله أو يكتبه كل شخص منطلقاً مما يرغب ويحبّ، لكن ما لن أحبه هو أن يقترن ذلك بلهجة الإكراه أو الإدانة. اعتدت على كتابة إهداء او اقتباس فى بداية اعمالك، لماذا لم تفعل ذلك مع «فرصة لغرام أخير» ؟ ربما نسيت لكن على أى حال يحفّزنى سؤالك على أن أقوم وأنظر فى ما لديّ من كتبى لأرى إن كان كل ما سبق منها مُهدى إلى شخص ما، الأرجح أن بعضها تُرك هكذا بلا إهداء ربما لأن الأصدقاء مع التقدم فى العمر باتوا قليلين، وإنى أذكر هنا أننى أهديت أحد كتبى الأخيرة «إلى أولئك الذين باتوا كثيرين»، لم أشأ أن أحدّد من هم هؤلاء الكثيرون تاركا ذلك لإحساس الأصدقاء الباقين. فى نهاية «فرصة لغرام أخير» يظهر تامر كاتباً هجر كتابته، ويقول: «توقفت عن التفكير بالعودة إلى الكتابة، ذلك السطر الوحيد الذى لم أعرف ماذا أكتب من بعده»، هل سألت نفسك يوماً، لماذا تكتب أو متى تتوقف عن الكتابة، وإذا لم تسأل نفسك، فأنا أسألك، فبماذا تجيب؟ تصبح الكتابة أصعب مع تقدّم العمر، إرنست همنغواى شكا من ذلك وهو فى عمر ما قبل الستين، ودائما أتذكّر البيتين اللذين قالهما الأخطل الصغير فى مناسبة تكريمه: «ما للقوافى إذا جاذبتها نفرت، رعت شبابى وخانتنى على كبري»، كما أذكر سجالاً بين كاتبين أميركيين قال أحدهما أن الكاتب يحتاج إلى أن يعيش ثلاثمئة عام ليكتب كل ما لديه، وهنا أجابه محاوره «لكنك لم تكتب شيئا منذ أن بلغت السبعين»، ربما فى العمل الأكاديمى يستمر المرء قادراً على الكتابة والبحث، لكن فى ما خصّ العمل الاختلاقى الأمور لا بد تختلف، أفكر أحياناً أن السبب فى بطء الكتابة وتعثّرها عند الشعراء والروائيين عائد إلى أنهم باتوا يعرفون تماماً - بل وأكثر مما يجب - ما يكتبونه، وهذا ما يعطل الاسترسال وترك المخيّلة تلهمهم، ربما كانت المعرفة تستبعد الفطرة فيما خصنى، أعرف أننى، على الأقل، بتّ أكثر تردّداً فى الإقبال على الكتابة وأنها هذه الأخيرة باتت أقل تحميسا لى لكننى مع ذلك سأظل أكتب، ولم أقل يوماً أننى أستطيع العيش من دون أن تكون الكتابة شغلى ومطمحى. أشعر فى رواياتك أنك قريب من أبطالك، تعرفهم ويعرفونك، هل تتأثر بشخصياتك وتكمل معها أم تنفصل عنها فى وقت معين وتخرج منها وتبدأ متابعة الشخصية من بعيد، وإلى أى مدى تمزج بين الواقع والخيال فى أعمالك؟ أنا قريب من أبطالى أكثر من قرب عادى، فى بداية الكتابة كان هؤلاء قريبين منى بالقرابة والعيش، ثم تحوّلتُ إلى الكتابة عن شخصيات لم تكن تربطنى بها صلة أو معرفة كافية، بطل «غناء البطريق» شخص لا أعرفه، أقصد أننى لم أتبادل معه تحية واحدة رغم أننى كنت كثير العبور من حيث كان يجلس محاطا بكتبه، فى أحيان تأبى المخيّلة أن تُساعَد بمعلومات عن الشخص ما هو، وماذا يعمل، وكيف هى علاقاته العائلية. والعاطفية، فى كتابى عن جدّى تردّدت فى زيارته وهو يحتضر ذاك لأننى كنت أكتب موته بما يتفق مع ما سبق أن صغته من سيرته، إبعادى أولئك الذين اخترعتهم معتمداً على ملمح أو أكثر فى هيئاتهم، أتذكّر هنا «إلسا» بطلة روايتى الأخيرة «فرصة لغرام أخير» لم أكن قد شاهدتها إلا من مسافة تهدينى إلى العمر الذى هى فيه أو شكلها إن كانت جميلة أو لا، لكننى جعلتها فى الرواية معشوقة من إثنين، بل وإننى فى المشاهد الحميمة كانت تؤثّر بى، أنا كاتبها، كما لو كنت أنا الرجل الذى تنكشف له، وها هى الآن تظهر على شرفتها غير القريبة، ما زلت لا أراها بوضوح كاف لكننى استبدلتها بتلك التى صارتها، هكذا أراها «إلسا» وليس هى التى لا أعرف إسمها. قلت فى إحدى مقابلاتك أنك تميل إلى التلصص ومراقبة الأشياء، مما يتيح لك رصد أدق التفاصيل، إلى أى مدى يساهم ذلك ويؤثر أيضاً فى كتابتك؟ لا أفعل ذلك عامداً، فى أحيان كثيرة تقول زوجتى إننى أبدو ساهماً فى السهرات. تمر الأشياء أمامى ولا أنتبه لها، ثم أن المرء لا يكتب ما يراه بل ما يختزنه فى ذاكرته لكن مع ذلك أجدنى ساعياً إلى تأويل كل حركة أو نظرة لظنى أن التواصل بين البشر أوالتقاطع بينهم قائم فى أكثره على هذه الإشارات، إنها الأكثر تعبيراً والأدق دلالة وفضحاً لما يخفيه البشر سواء فى حياتهم أو فى ما يعتمل بدواخلهم. فى «بناية ماتيلد» تتحدث عن المكان، وفى «فرصة لغرام أخير» أيضاً، حدثنى عن علاقتك بالأماكن والأزمنة، وإلى أى مدى تتأثر بها؟ كنت مسكونا بالأمكنة وقد كان حضورها قوياً فى أكثر رواياتى مثلما فى بناية ماتيلد، كان المكان حاضراً بقوة فى كتب مثل «غناء البطريق» أو»مئة وثمانون غروبا»، ربما يعود ذلك إلى الحنين لكل ما كان ومضى، كما يعود إلى الحرب التى غيّرت معالم الأمكنة وهجّرت الناس عن أمكنة إقاماتهم، «بناية ماتيلد» التى عشت فيها طفلاً مع عائلتى لم يتوّقف حنينى إليها حتى الآن، أى بعد انقضاء ما يزيد على الخمسين عاماً من انتقالنا منها، كما أننى أحنّ إلى أماكن لم أقم فيها أصلاً حتى أننى كنت أحنّ إليها فى لحظة ما أعبر فى أحيائها مشاهداً إياها لأول مرة، كان هذا مثل حنين بشر آخرين انتقل إليّ، هو الماضى إذن، ماضينا وماضى سوانا نشتاق إليه كما لو أننا عشنا فيه من قبل أن نولد وكنت فى أحيان كثيرة أقوم بتلك الرحلات فى الأماكن التى لا أعرفها متخيلاً حيوات كانت هنا، فى إحدى المرات قمت برفقة الروائى الراحل الحبيب غالب هلسا بنزهة على منطقة دمّرتها الحرب، ربما لكى نحاول أن نبنى عالماً قديماً من آثاره الباقية، فى نصّ كتبته عن تلك النزهة قلت أننا ذهبنا إلى هناك لنصطاد، هكذا كان غالب مثلى مفتوناً بالأمكنة، تلك التى نقل للقراء العرب كتاباً هو «جماليات المكان» دالاً إلى أثرها العميق فينا. ما النص الذى تحلم بكتابته لكنه لم يتحقق، وما الكتاب الذى قرأته لكاتب آخر وتمنيت أن تكون أنت كاتبه؟ هناك دائماً أفكار تخطر فى الراس وتظل فى الراس، أفكار تصعب كتابتها لأنها أقرب إلى تخييلات لا تحتويها لغة، أو ربما لأنها تستعصى على كل سياق روائى أحاول وضعها فيه، هذه الأفكار تتعلق غالباً بمشاعر أكثر مما تتعلق بصور، لهذا يصعب تجسيدها وإلباسها لبشر يتحركون فى أمكنة، أما موضوع هذه الأفكار أو المشاعر فواسع وكثير، وإن تعلق أكثره بتراجع الحياة والمستقبل عما كانا واعدين به، ربما بسبب الحروب المتتالية والمظهرة عن قابلية للاستمرار، وهناك كتب كثيرة قرأتها وتمنيت أن أكون كاتبها، لا مجال هنا لتعدادها وحصرها، لكن على أى حال، يخطر لى كتاب «موبى ديك» لهرمان ملفيل، وأيضاً كتاب «الصخب والعنف» لوليم فوكنر، ومن الكتب العربية رواية إبراهيم أصلان «مالك الحزين» . ما ملامح عملك المقبل؟ أحاول إنجاز رواية عن علاقة غرامية بين رجل وامرأة عاشا زمن الحرب المتطاول والمستمر.