أفرحُ بالمطر فرحة الصغار به، لا يأتى المطر فى الصعيد إلا نادرا لكن كنا نفرح بها وندعو الله السّقيا ونخرج طارقين على الصفائح فى جماعات «نَتّرى يا نترهْ» مائة عام مرَّت على مولد الراحل الكبير الدكتور الطاهر مكي- 1924- 2017- الذى شرفتُ بالتلمذة على يديه فكان عطاءً معرفيًا بأخلاق العلماء فى أبوة رحيمة وقسوة علمية مفيدة؛ وُلد بكيمان المطاعنة بمركز إسنا والتحق بمدارسها ثم بكلية دار العلوم التى خرّجت لنا علماء العربية؛ والمتأمل فى حياة الطاهر مكى يجد أنه لم يتخل عن أخلاق القرية فقد كانت شقته بالعجوزة «مندرة» للصعايدة الذين يقصدون القاهرة للاستشفاء أو قضاء مصالح إدارية بالعاصمة، وحكى لى كيف زعل منه بعض أقاربه لأنه صحا فجرا وأحضر لهم الإفطار ثم ذهب إلى الكلية لطباعة امتحانه الذى سيُمتحن فيه الطلاب فى التاسعة صباحًا فى اليوم نفسه، شكوا كيف يتركهم وهم نازلون فى ضيافته؟! أسلوب الطاهر مكى يجمع بين منهجية النقد وإبداع الناقد، فتراه ناقدا مبدعا يقرّب لك النظريات النقدية الجافة فى أسلوب بديع يبدو نصا أدبيا تنهل منه نظريات النقد دون أن ترى حدّية النص النقدى وقسوة الناقد، ومنذ كتابه الرائد «امرؤ القيس، حياته وشعره» الذى تتبع فيه حياة امرئ القيس وصراعه النفسى بين الحب والثأر وجدنا أن الإبداع رؤية نقدية وأن النقد رؤية إبداعية، حلّل لنا أستاذنا الطاهر مكى معلقة امرئ القيس وكأنه يحكى حكاية صعيدية مألوفة لنا، امتلك فصاحة الكلمات وبلاغة الجمل فجاءت كتبه وإبداعاته وتحقيقاته وترجماته نصوصا إبداعية تسمو بجمال أسلوبه ووضوح أفكاره فى منهج علمى صارم؛ لا ننسى جهوده لفتح كلية التربية بقنا فرعا من جامعة أسيوط ثم بداية لإنشاء جامعة جنوب الوادى التى غدت أُمًّا لجامعات سوهاج وأسوان والأقصر وقريبا جامعة الغردقة.. كان صوته هادرا وهو يطالب بإنشاء هذه الجامعة التى بدأت فرعا من جامعة أسيوط وانفصلت فى 1995 نشر مقالات وكتب مطالبات بخطه الأنيق وقلم حبر لا يفارقه فقد كان خطاطا أنيقا حتى تحقق حلمه وأنشئت جامعة جنوب الوادى التى يرأسها الآن الصديق الأستاذ الدكتور أحمد عكاوى وأرى فيها صحوة فى الأهداف والمخرجات التعليمية التى أرى فيها تحقيق أحلام تحققت على يديه وعلى أيدى المخلصين من علماء هذه الجامعة، كان هَمّ الطاهر مكى تعليم فتيات الصعيد اللواتى لا يُسمح لهن بالاغتراب للتعليم بجامعات القاهرة، ترى كم فتاة تعلمت فى جامعة جنوب الوادى والجامعات التى خرجت من تحت عباءتها؛ جماعات الصعيد لو لم تكن لما تعلمن؛ لقد أسهم الطاهر مكى بعلمه وكتبه ورؤيته المستقبلية للصعيد فى تطوّره وتعليم أبنائه وبناته، كان رائدا و«الرائد لا يكذِب أهله». الماء: الأنهار والبحار والأمطار أحب الأنهار والبحار؛ فى كل بلدة زرتُها أبحث عن نهرها، عن بحرها، عن مائها الذى يجرى من عيونها، عن العيون الفائضة، غدت السحب الممطرة أنهارا تعويضية، أفرحُ بالمطر فرحة الصغار به، لا يأتى المطر فى الصعيد إلا نادرا لكن كنا نفرح بها وندعو الله السّقيا ونخرج طارقين على الصفائح فى جماعات «نَتّرى يا نترهْ - أمطرى يا مطره- خلّى القمح بعشرهْ» هل كان المقصود بعشرة قروش ثمنا لإردب «إردب القمح يساوى 12 كيلة قمح» و«يزِن 150 كيلو جراما» والأعجب أن تضرعنا لله «يا رب احْنا عبيدكْ.. والأمر بإيدكْ» كان مثمرا.. يستجيب الله دعاءنا فينزل المطر، وإذا جاء يجيء هادرا وقد يتحول إلى سيول؛ فى شوارع ألمانيا كان المطر يتساقط عليَّ وأنا أمشى محتميا بمظلة «نسميها شمسية» لكن أطلقتُ عليها «مطَرية» لأن الشمس لم تكن تبدو إلا نادرا، الغيوم سيدة الموقف ولكنها ممطرة، كانت السترة الواقعية من المطر خير صاحب وبقيت فرحتى بالمطر تلازمني.. ربما لأن النيل مكوّن أساسى فى شخصية المصري، عندما كنتُ صغيرا كان احتفال عيد قنا القومى يقام بنجع البارود التابع لقريتى «العُوَيْضات» بمركز قِفط، نجع البارود يقع على نهر النيل حيث تجمع أهالى الصعيد لمقاومة الاحتلال الفرنسي.. لا يوجد مكان أجمل من النيل.. ألم يقل الشاعر: إذا كنت من مصر ولم تك ساكنا على نيلها، ما أنت من مصر ربما كان هذا سر عشق المصريين للنيل وعشقى للأنهار والبحار والأمطار. وجبات الطعام؛ متى نأكل؟ أشفقُ كثيرا على أحوال بعض شبابنا فى أوقات نومهم وأنواع أطعمتهم، فهم يسهرون طوال الليل ولا يعرفون أن «البركة فى البكور»، وإذا صحوا فلا يتناولون وجبة الإفطار وهى من أهم الوجبات الغذائية، وعندما كنت صغيرا كان أبى -«رضوان الله عليه»- يوقظنا لصلاة الفجر وبعد الصلاة يقرأ أوراده؛ الصلاة على النبى -صلى الله عليه وسلم- ومنظومة الإمام الدردير -رحمات الله عليه- فى التوسل إلى الله بأسمائه الحسنى، ثم نتناول الإفطار الذى يتكوّن من خبز بلدى وفول شهى بالسّمنة البلدى وطعمية وجبنة طازجة وعسل بطحينة ثم كوب لبن ونذهب للمدرسة، وعندما نعود نتناول الغداء وننام قليلا. فى النهايات تتجلى البدايات « قراءة فى صفحات الزمن» كتبتُ هذه القصيدة عندما كنت طالبا فى حفل تخرجنا فى كلية الآداب قبل سنوات. أكتبُ يا أحبابى شعرا والشعر وليد الإحساس والإحساس وليد الحزن، وليد الناس والحزن هنالك يسكن قلبى وفؤادى يقتلنى كمدا أتخيلكم فردا فردا متكئى الظهر، محنيى القامة، يحملكم حفدة !! يتشبث كل منكم بعصاه كل منكم - أبدا- لن أنساه وينادى كل منكم ابنه يجتمع الأحفاد كحلقةِ ذكر حول الجد يسألهم ماذا من جد هرِم تبغون نبغى الحكمة، نبغى قصصا يا جداه فينادى كل منكم ابنه أكتب يا ولدى ما أمليه عليك ببطء فالكلِم عصيٌّ فى شفتي أكتب لصديقى وزميلى ولأختي من كانوا معنا من أزمان فى الكلية من وُلدوا معنا، نرسم للماضي، للحاضر، للمستقبل، للحرية ونفتش فى كتب اللغة لنكتب بحثا لم ندر يا ولدى أن الزمن يمر أن صداقة قلبى رمز الحر .. أكتب يا ولدى ما أمليه عليك: كنا نرتع فى الجامعة ونرشف رمز الصدق كنا نكتب شعرا ننشره فى أفئدة العشاق يقرؤه الناس، تردده الأوراق لم نطمع يا ولدى إلا أن تبقى تلك الأشواق .. والزمن سريعا يتهادى، مرت أيام.. أعوام.. أعوام ما لكَ تصمت يا جدي؟! حتى أسترجع ذاكرتى صبرا يا أبتى فسُعالك قد جاءْ لا تفزعْ يا ولدى فالحبُّ شفاء أكتب يا ولدى ملحوظة: يا أختي... وصديقي: لم أنشأ بينكمُ إلا كالطائر يقطف من كل رحيق زهرة ينشد شعرا فترتّله تلك الشجرة أسألكم يا أحبابي: يا من كنا نرتع فى الجامعة ونشدو أن تبقى تلك الأشواق حتى تبتل الأحداق!! أسألكم ثانيةً .. هل تكتب يا ولدى؟! أكتب يا أبتى ما تمليه أسألكم ثانيةً أن تُوصوا كل الأحفاد أن ينمو زهر الحب بكل وداد.. وإذا كتب الواحد فينا عند الموت وصية !! فليكتبْ : مازلتم فى ذاكرتى صبح عشيه !!