«فى عدد 7 يوليو فردت (أفردت) أخبار الأدب صفحة واحدة تضمنت شهادتين ونصا لشاعر العامية الكبير الراحل محمد خميس، وأكاد أجزم أن من وفر لخميس هذه المساحة ناضل نضالا مريرا حتى يوفره (يوفرها) له». هذه كلمات كتبها أحد مستخدمى ال «فيس بوك»، وقد آثرت ألا أكتب اسمه أو صفته لأنى لست متأكدًا من رغبته فى ذلك، غير أنى لم أستطع تجاهل الإشارة إلى منشوره فاستعنت به لتحليل وضع ما يستخدم آليات قديمة على نحو خاطئ تصيبنا جميعًا، كمشتغلين بالثقافة، بالضرر حتى وإن ظهر على السطح أن القصد من وراء استخدامها إنصاف كاتب أو مبدع، مثل المنشور الذى نحن بصدده هنا. الصورة المرسومة فى المنشور المشار إليه تصيب هدفها بلا ذرة شك من صاحبها، وكلماته تقول بأننا أمام احتمال من اثنين: إما أن الجريدة لا تهتم بشعر العامية، أو أنها تمارس التفرقة فتختار شعراء وتفضلهم على آخرين. لكن لحسن الحظ، ومما نفهم من المنشور أيضًا، أن ثمة شخصًا غامضًا فى الجريدة ينتصر لشعر العامية أو للشعراء المهضوم حقهم، لكنه وكما جرى فى حالة محمد خميس «يناضل نضالًا مريرًا» لتوفير مساحة ما لم تزد فى حالتنا هنا عن صفحة! يمضى صاحب المنشور فى التأكيد على تصوراته قائلًا: «لا أظن إطلاقا أن جريدة أخبار الأدب نشرت نصًا واحدا لخميس ليس لأنه شاعر صغير بل لأنه إنسان بسيط لم يسع لشيء سوى ما يتاح له، وأعتقد أن قيمة محمد خميس كشاعر عامية وكقضية شاعر عامية فى الأقاليم عموما سيعيش منسيا ويموت منسيا رغم قيمة ما يقدمه كان يجب أن تكون الملف الرئيسى للعدد...» يمضى صاحب المنشور بعد ذلك فى توجيه النقد إلى مقال فى العدد ذاته من دون أن نتبين على وجه التحديد الرابط المقصود بين الموضوعين سوى أنه كان على الجريدة - وبما أن المقال لم ينل إعجابه - استبعاده لتخصص مساحة أكبر لخميس. أنا لم أكن أعرف خميس شخصيًا، ولم أقرأ له بشكل معمق سوى نصوصٍ متفرقة فقط، لكن يوم أن مات وصلتنى مثل غيرى طاقة الحب التى زفته إلى السماء، فهمت كم كان مميزًا، على المستويين، الإنسانى والفني، وبدا لى مما قرأته عنه أنه كان متحققًا، لم يكن يعوزه شيء، يكتب شعرًا جميلًا ولديه عشرات الأصدقاء المخلصين، وعائلة وبيت، وما الذى يريده أى أحد إضافة إلى هذا.. لهذا أدهشنى المنشور الذى اخترته أساسًا للنقاش هنا، لأنه.. ما الدافع كى يصفه أحد أصحابه بعد موته بأنه «عاش منسيًا»، ومن كتب عنه هذا عرفه جيدًا على ما يبدو! كيف فاته أنه ليس منسيًا أبدًا من حظى بحياة كتلك التى عاشها صديقه ويصفها الناس المقربون منه؟ أم أنه يعرف وانساق وراء الرغبة (غير الواعية ربما) التى احترفناها فى بناء خطاب المظلومية، تلك التى لا بد لها من مجموعة عناصر أولها بالطبع مبدع لم (ولن) يحصل على ما يستحقه، وجهة ما تمنع هذا الحق. فى اليوم التالى لرحيل محمد خميس تحدثت مع بعض الأصدقاء من الشعراء، كان الوقت المتاح أمامنا فى الجريدة وقبل الطبع ضيقًا، والوقت المتاح للأصدقاء بالكاد يكفى للحزن، أكد لى أحدهم أنه سيكتب ولم يفعل، تحدثت مع الشاعر أشرف عويس، والشاعر حاتم مرعى، كانا تحت تأثير صدمة الرحيل، وفى حالات كتلك أشعر دومًا بأن مهنة الصحافة ثقيلة وتكاد تكون عبئًا وأن المحرك الوحيد لها الإيمان بضرورتها، بالصلة التى يتم بناؤها مع القارئ، بالثقة بين الطرفين والحوار الراغب فى الفهم لا التعالي. الأربعاء صباحًا، اليوم الذى يتم فيه الانتهاء من التجهيزات الفنية قبل الدفع بالعدد إلى المطبعة، أهاتف أشرف ثم حاتم، قسما ليلتهما بين الحزن وبين التفكير فى الكتابة التى وعدانى بها، ساعتان وينطلقان ليزورا «فوقية» أم محمد خميس، يفرغان من الكتابة قبل الانطلاق إليها مباشرة، لتأتى الكلمات محملة بروح هذا كله، وفوقها ابتسامة خميس الصافية فيما يقف مستندًا إلى جدار مكتبة داخل دار النسيم التى نشرت أعماله، وبجوارها قصيدته «طبيخ أمي» غير المنشورة من قبل. حسنًا، يبقى السؤال بعد هذا.. هل تكفى صفحة عن محمد خميس؟ هل تكفى قصيدة واحدة؟ لماذا لم يكن ملفًا؟ وغلافًا؟ لن أسعى بالطبع لتقديم إجابة، وليس تحت مبررات السياسة التحريرية الحاكمة، بل لأن أى إجابة لن تكون كافية أو مقنعة لخطاب انطلق من يقين لن يجازف بالتخلى عنه ومغادرة موقعه الآمن، هذا خطاب ينتظر المبررات ليراكم فوقها يقينًا آخر، وإلا لما أقام حجته من البداية على مضاهاة القيمة بالمساحة المفرودة! فاصل تاريخى فى التسعينيات رغبت فى نشر مجموعة قصصية غير أنه لم يكن من مجال لذلك إلا عبر مكان وحيد سلسلة «إشراقات أدبية»، والتى كانت تصدر عن الهيئة العامة للكتاب برئاسة تحرير الكاتب الراحل عبد العال الحمامصي، أذكر أنه مضى وقت قبل أن استلم ردًا بالرفض، وما فهمته بعد ذلك أنه حتى لو كنت قد تلقيت ردًا بالموافقة كان سيكون علىَّ الانتظار طويلًا لأنه كان ثمة دور ممتد لسنوات لنشر الأعمال! فى ذلك الوقت كان من الجائز بناء خطاب مظلومية ما، لم يكن فى إمكان أى شخص أن ينشر حرفًا فى مكان ما إلا بالحصول على إذن، لا أقصد الرقابة بل إن المنافذ كانت قليلة للغاية، ولكى ترى حروفك النور لا بد أن تمر بمراحل متعددة قبل طباعتها فى جريدة، أو كتاب وغير ذلك من وسائل. هكذا كان الوضع قبل أن تبدأ دور النشر الخاصة فى التواجد وفتح أبوابها للشباب لتحدث ثورة كفيلة بإضعاف أى خطاب للمظلومية، فالوصول إلى القارئ أصبح أيسر مما مضى، وبعدها يتلو ذلك اتساع رقعة النشر مع عصر الإنترنت، وصحافة المواطن، ووسائل التواصل الاجتماعي، أدوات مكنت من أراد أن يكون كاتبًا ومؤثرًا وأسقطت مفاهيم مثل المركزية، الهيمنة، الاحتكار، التوجيه المباشر للجماهير. لكن إن كان ذلك صحيحًا فلماذا يبقى لخطاب المظلومية هذا الانتشار، لماذا يجذب مثقفين ليرددوه متجاهلين الواقع حولهم، وآخرين ليصدقوه رغم أن بين أيديهم كل الأدوات التى يشتكون من أنها لا تنصفهم وتلقى بهم إلى النسيان! أظن أن الإجابة بديهية للغاية: لأن المقابل يعنى مغادرة حالة اللا فعل إلى نقيضها الذى يتطلب مجهودًا شاقًا لتكوين خطاب مخالف، خطاب إيجابى يسعى إلى البناء والتواصل والنقاش والانفتاح على الآخر وهى سمات أى ثقافة قوية ونحن نعرف أن ذلك لا يتوافر لدينا فى الوقت الحالى!