قيل عن هذه المناظرة إنها مبتورة لأنها بدأت من طرف واحد وهو مفتى الديار المصرية الإمام محمد عبده وامتنع الطرف الثانى وهو تولستوى عن مواصلة المناظرة. وكان صاحب هذا القول هو أستاذى الدكتور عثمان أمين. ومن حقه أن يكون هو صاحب هذا القول، فقد كان عنوان رسالته لنيل الدكتوراه «رائد الفكر المصرى الامام محمد عبده» والتى نشرها فى عام 1945. وعندما أعاد طبعها فى عام 1965 أهدانى نسخة وجاء إهداؤه على النحو الآتى: «للصديق الكريم الفيلسوف الدكتور مراد وهبه مع خالص ودى وتقديرى». وهو إهداء يكشف عن العلاقة الحميمة بين الأستاذ والتلميذ. ومن هنا كان يكاشفنى بهمومه الإنسانية والفلسفية، ومنها ما حدث للإمام محمد عبده. والسؤال إذن:ما هذا الذى حدث ؟ فى 8 أبريل 1904 أرسل محمد عبده خطاباً إلى تولستوى بناء على نصيحة من صديق اسمه س.ك. كوكوريل كان قد ارتأى أن ثمة تماثلاً بينهما من حيث إنهما كانا موضع اضطهاد من السلطة الدينية. ففى 22 نوفمبر 1901 قرر المجمع المقدس للكنيسة الأرثوذكسية الروسية أن تولستوى عدو الكنيسة. وكان رده أن الحق عنده يتفق مع المسيحية على نحو ما يفهمها. والجدير بالتنويه أن البهائيين بعد سماعهم بقرار المجمع أخبروه بأن ثمة توافقاً بينه وبين مبادئهم. أما الشيخ محمد عبده فقد واجه اضطهادا مريرا من قبل الخديو وشيوخ الأزهر الجامدين، وهو أمر كان من شأنه الإطاحة به من منصب الإفتاء لولا تدخل العميد البريطانى اللورد كرومر على حد قول عثمان أمين نفسه. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أُضيف إليه ما أشيع عن تجاهل تولستوى فى الرد على خطاب محمد عبده. وقد نشر عثمان أمين ذلك الخطاب فى نهاية كتابه بدون تعليق، ولكنه فى جلساتى معه لم يكن يردد إلا سؤالا واحدا: لماذا لم يرد؟ وعندما ارتحلت إلى موسكو أستاذا زائرا بجامعتها فى عامى 1968 و 1969 كان يدور فى ذهنى سؤال عثمان أمين. وفى يونيو 1969 استمعت إلى محاضرة ألقاها أستاذ سوفيتى عن تولستوى ذكر فيها أن تولستوى تلقى عشرة آلاف رسالة من مناضلى الدول المقهورة، إذ كان يعتبر فى زمانه الأب الروحى لهؤلاء المناضلين فذهبت فى اليوم التالى إلى متحف تولستوى فوجدت الرسائل مصنفة ومبوبة. لهذا كان من الميسور العثور على النسخة الأصلية من رسالة محمد عبده باللغتين العربية والإنجليزية وعلى صورة من رد تولستوى باللغة الفرنسية على رسالة محمد عبده فى 12 مايو 1904، كما عثرت على رسالتين لكوكوريل يحكى فيهما عن نشأة العلاقة بين محمد عبده وتولستوى، وكذلك عثرت على الترجمة الانجليزية التى قامت بها زوجة المستشرق الإنجليزى ا.س. بلنت مؤلف كتاب «التاريخ السرى لاحتلال انجلترا مصر» أما زوجته فهى حفيدة الشاعر الإنجليزى اللورد بيرون وكانت مشتغلة بالدراسات العربية، وكانت هى وزوجها مقيمين بجوار محمد عبده فى ضاحية عين شمس. وعندما عدت إلى القاهرة أهديت عثمان أمين صورا من هذه الرسائل ومن بينها بالطبع صورة من رد تولستوى المفقود. وقد نشر كل ذلك فى مجلة «الإذاعة والتليفزيون» بتاريخ 10/7/1971. وجاء فى مقاله إنه «بعد سبع وستين سنة شاء الله ألا يضيع فى موسكو ما ضاع فى القاهرة فتهيأ لتلميذى وصديقى الدكتور مراد وهبه أن يذهب إلى العاصمة الروسية حاملاً معه صورتين فوتوغرافيتين لخطابين مهمين إحداهما أصل خطاب الشيخ محمد عبده إلى مسيو تولستوى والثانية صورة من رد تولستوى». والجدير بالتنويه هاهنا أن فى أصل خطاب محمد عبده حاشية ممهورة بإمضائه. تقول الحاشية: «إذا تفضل الحكيم بالجواب فليكن باللغة الفرنسية فإنى لا أعرف من اللغات الأوروبية سواها». والغريب فى أمر هذه الحاشية أنها محذوفة من خطاب محمد عبده المنشور فى كتاب عثمان أمين عن محمد عبده سواء فى طبعته الأولى فى عام 1955 أو فى طبعته الثانية فى عام 1965 والمنقول من كتاب رشيد رضا المعنون «تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده». ومن الشائع أن ثمة علاقة حميمة بين محمد عبده ورشيد رضا، إذ كان محمد عبده ينشر مقالاته فى مجلة «المنار» التى كان يرأس تحريرها رشيد رضا ثم تولاها بعد ذلك حسن البنا فأصبحت الناطقة بلسان الإخوان المسلمين. وهنا ثمة سؤالان تاريخيان:السؤال الأول: لماذا حُذفت الحاشية من صورة خطاب محمد عبده لتولستوى؟ وجوابى على النحو الآتى: إن التمهيد الذى قام به كوكوريل لإقامة مناظرة بين محمد عبده وتولستوى يشير إلى ضرورة رد تولستوى على محمد عبده. ولهذا فإن حذف الحاشية يستبعد هذه الضرورة، ومن ثم يصبح الرد موضع احتمال. ثم ينتقل عدم الرد من مستوى الاحتمال إلى مستوى اليقين عندما يختفى رد تولستوى ويصبح خطاب محمد عبده مجرد مؤازرة لتولستوى فى نضاله ضد السلطة الكنسية، وبالتالى ينعدم الرد. يبقى السؤال الثانى: لماذا اختفى رد تولستوى، أو بالأدق لماذا أٌحرق؟ الجواب يكمن فى السؤال الذى أنهى به تولستوى رده على محمد عبده: ما رأيك فى مذهب الباب؟ ومذهب بهاء الله وأنصاره؟ إن تولستوى يريد من هذا السؤال معرفة رأى محمد عبده فى البهائية. فإذا اتفق رأيه مع رأى تولستوى تم التواصل، وإذا لم يتفق انعدم التواصل. ومن هنا حدث توتر لدى محمد عبده بسبب توتره مع المشايخ الجامدين. وكان حرق الخطاب هو الوسيلة إلى إنهاء التوتر، وبتر المناظرة الكبرى. ومع ذلك فثمة سؤال: ما جذور هذا البتر؟ الجواب فى المناظرة الكبرى الرابعة. لمزيد من مقالات مراد وهبة