يحق القول- فى نظرى- بأن تلقى كتاب «الطاهى يقتل الكاتب ينتحر» يضع القارئ أمام حكاية طويلة. حكاية تتشكل من وحدات الناظم الرئيس فيها الذات منذ الطفولة وإلى هذه التأملات بالتحديد، مع مطلق العلم بأن الكاتب سواء أكان قاصا أو روائيا لا تغادره طفولته. إنها تظل حاضرة بامتداد حياته. على ألا يفهم من التصور، كون المؤلف عزت القمحاوى يدون سيرة ذاتية محض، وإنما هى تفاصيل تستدعى وتستحضر حسب مقام القول الأدبي. بمعنى آخر، إنها سيرة القارئ، الناقد والمتذوق. سيرة العلاقة وفعل ممارسة الحكي، بداية الحكاية الموازية لبداية تذوق الطعام. من ثم يتأتى الحديث عن ثلاث مستويات: 1- مستوى تلقى الحكي 2- مستوى التمرين على الحكى 3- ومستوى بلاغة الرواية ومتعة الطبخ. يرتبط تلقى الحكى بالأم. إنها نواة الحكاية. فمنذ الطفولة وإلى أن فرضت الذات قوة شخصيتها، تظل حياة الأم موازية لحياة الحكاية. فكلما انبثق السؤال عن حدث، واقعة، يتم اللجوء إلى منبع الحكاية. فالأم فى هذه الوضعية تعوض الدور الذى مارسته من قبل الجدة. إنها تحكى بغاية التذكير بماض انتهى إلى الغياب، وبطفولة كانت ولن تعود. وفى حال الاستعادة، تكتب الذات جزءاً من ماضيها. وكأن الأم ذاكرة الشخصية: «كبرت وكبرت أمي. ولم أزل أعتمد عليها فى كل شيء، حتى فى التذكر.» (ص/7) وبالانتقال من التلقي، الاستماع، إلى دور الراوي. الحكاء الذى يتمرس على فعل القص والحكى، الناقل لما جاء على لسان الأم، وما التقطته الأذن من حكاياتهن. فما وسم الحكاية / الحكايات من السرية والتخفي، تتكفل ذات الراوى بنقله إلى العلن، بفضحه وتعريته. وثم يكمن التمرين على فعل الحكي. التمرين المعتمد الحذف، الإضافة والترتيب الشخصى والخاص. على أن من يتلقى يرغب فى الاستزادة، وأيضا فى الإعادة بغاية التثبيت لأنه قد يحدث أن يغدو وعلى السواء راويا. وبالتالي، تتسع دوائر الكتابة وقواعد التداول : « تذكرت جلسة الجارات فى ذلك النهار وفخر تلك العشية، عندما وقفت أروى القصة لمراهقى الحارة المنصتين ببهجة شريرة. كنت كلما أنتهى من الحكاية يطلبون منى الإعادة، فأعيد مزهوا.» (ص/9) « لابد أننى كنت أبتكر فى كل مرة تنويعات فى الحكاية، لأن الذين استمعوا إلى فى المرة الأولى لم ينصرفوا، وبدأوا يتبرعون بتوضيح الكلمات الغامضة فى نطقى الطفولى للمشاهدين الجدد، وأخذ الحشد يتسع والحكاية تنتشر.»(ص/9) وتقترن الحكاية فى المستوى الثالث بالطعام، أقول فن الطبخ. فالحكاية لم تكن لتحكى وينقل معناها دون الإقدام على الأكل. ويتم من خلاله التعرف على الوصفات الخاصة بالطعام. وأيضا الأساليب التى يتم اتباعها فى حال الإنجاز. هذه «التقنيات» _ إذا حق _ تتفرد بمعجم يماثل المنجز فى حال الكتابة والإبداع. فسبيكة الطعام والطبخ تعادل ما يدعوه الجرجانى جودة السبك. وأما العجن واللت، فيطابق التحكيك والترتيب. من ثم ولدت فكرة الكتاب. فكرة الجمع بين «الطاهى القاتل» و«الكاتب المنتحر»، حيث تلعب الحواس بمطلق الحرية دورا كبيرا : « لا تقف العلاقة بين الرواية والطبخ عند حدود الاستعارات والتشبيهات التى يمكن نقلها من أحد المجالين إلى الآخر. الروائيون الأوفياء بحواسهم ينتبهون إلى أهمية الطبخ داخل نصوصهم. مستوى حضوره الأبسط يساعد على الإيهام بالتشابه بين الرواية والواقع، فطالما تتناول الرواية حياة أشخاص فمن الطبيعى أن يتناولوا الطعام أحيانا. الدور الأعمق والأهم للطبخ فى الرواية يتمثل فى طاقته السردية، عندما يكون عاملا مهما فى بناء الشخصية والحدث.» (ص/13) ويثير عزت القمحاوى بخصوص العجن واللت، خاصة «الثرثرة» فى الكتابة الروائية. ويرى إليها البعض من حيث سلبيتها، فيما يذهب القمحاوى إلى تأكيد ضرورتها، ويمثل عن ذلك بروايات من الأدب العالمى وليس العربى: «..فبعض الثرثرات فى الرواية لا غنى عنها، من ذلك مثلا ثرثرة مارسيل بروست التى صنعت حكمة «الزمن المفقود» ومثلها ثرثرات يوكيوميشيما التى جعلت رباعيته «بحر الخصب» أفضل تعبير عن جوهر اليابان، و ثرثرات دوستيوفسكى التى كشفت جوهر الإنسان.» (ص/ 13) وتبقى الأم- كما سلف- الاستعادة العميقة لطفولة الحكاية، مثلما التجسيد للقصة الأولى. إذ وكما اختار الروائى والقاص فى فصل التمهيد الموسوم ب«مصافحة»، وهى بالمناسبة مصافحة الأم أولا، ومن سيقرأ كتاب «الطاهى يقتل الكاتب ينتحر» ثانيا، الابتداء بالحديث إلى / وعن الأم، ختم بذات التوجه والقصدية بهدف ترسيخ كيفية انبثاق فكرة تأليف الكتاب الجامع بين الرواية والطبخ : « ذات ضحى شتائى مشمس، بينما كنت أعد لها القهوة، ذكرتنى بقصتى الأولى. لم تكن إبداعا خالصا، بل محاكاة ككل البدايات لكن الأهم فى ضحى الذكريات ذاك كان اكتشافى أن الكتابة والطبخ توأم أشرق على روحى فى لحظة واحدة.» (ص/7) «سأتذكر طويلا بكل امتنان جلسة ذلك الضحى المشمس مع أمي، التى أعادت لى طفولتي، وأنضجت فى الوقت ذاته أفكارا حول علاقة الكتابة بالطبخ يمكن أن أتقاسمها مع قارئ شغوف، بعد أن عاشت فى داخلى وقتا طويلا، مشوشة كما فى حلم، وحاضرة دوما فى شكل زورق من الأحاسيس، يسبح فى نهر أيامي، يتناغى بداخله ذلك التوأم السعيد.» (ص/ 14) الطاهي/الروائي: تضاد أم تكامل ألمحنا سابقا إلى كون كتاب «الطاهى يقتل الكاتب ينتحر»، حكاية طويلة. هذه تنبنى على استدعاء شخصيتين : الطاهى ارتباطا بموضوع الطبخ، والكاتب فى صلة بالحكى والسرد، أى بالرواية. قد يبدو للقارئ أننا أمام تضاد تجسده ثنائية الطاهي/ الكاتب. والواقع أن الإيهام يسقط فى الحالة التى نقف فيها على كون الممارسة التى يأتيها الطاهى لا تباين ما يقدم عليه الكاتب مجسدا فى شخصية الروائي. ولذلك اعتبر عزت القمحاوى الشخصيتين بمثابة توأم، أو أنه «التوأم السعيد». وهو ما يدفع للقول بأن الأمر لا يتعلق بتضاد، وإنما تكامل فى الغاية والهدف. إذ اللافت أن خاصة الموت توحد الشخصيتين. وهى خاصة مجازية. فالفعل «يقتل» إحالة على ما تصنعه عين ويد الطاهى من ذوق يجذب الأكلة الذين يسقطون فى سحر وجاذبية الطعام. وأما «ينتحر» فعلامة على كون الروائى فى منجزه يختار التخفى تاركا لصنعة الخيال أن تقول المعنى المنتج، ما لم يتعلق بسيرة ذاتية محض. فالطباخ يمتلك وعيا بما يقدم عليه. أقول، ما تبدعه العين واليد. على أنه وإضافة لهذا الوعى يحدس مدى قابلية الآخر للتفاعل والخضوع لسلطة هذا الوعى بحب كبير. فالصراع ينتفى بين الوعيين، وتحل مكانه القابلية لاستقبال ذوق مغاير غير مألوف. فالطباخ أو الطاهى فى عملية قتله المجازية يبدع فى خلق حياة جديدة لمن يتردد عليه، فمن دون الآخر( بمثابة المتلقى فى الرواية) لا مكانة للطباخ: «على أن الطباخ لا يرتكب القتل إلا بسبب وجود من يقدر فعلته، يشجعه عليها، ويقبل على التهام الأشباح التى يصنعها بشهية. و لابد أن يكون المتذوق ممتنا لأن هناك من ارتكب حماقة قطف تلك الأرواح نيابة عنه,» (ص/24) بيد أنه _ وكما أشير _ فإن الكاتب (الروائى تحديدا) يصوغ منجزه الخيالى ويتخفى فيه. والتخفى كما يرى عزت مهارة غير متاحة للكل، وتهدف الانتقال من «مستوى الواقع» إلى «مستوى الفن». من ثم يغدو التخفى خاصة جمالية فى غيابها لا يمكن الحديث عن انتحار الكاتب الروائي. «الكاتب يختلف عن الطاهي، فهو لا يقتل، بقدر ما ينتحر.» (ص/24) «النوع الأسوأ من الكتاب هم الذين لا يعرفون كيف يموتون فى النص بسلام. وهؤلاء هم الذين لا يمتلكون مهارة التخفي، ويفتقدون مهارة رفع واقعة من مستوى الواقع إلى مستوى الفن.» (ص/25) يستدل القمحاوى عن مهارة التخفى بإيراد نموذجين لروائيين حازا جائزة نوبل فى الآداب: رائد الرواية العربية نجيب محفوظ، والبرتغالى خوسيه ساراماغو. وهنا تبرز ظلال الناقد فى ضوء كونه المتلقى النموذجى الذى خبر تفاصيل ودقائق الإبداع الروائى عالميا وعربيا. فمحفوظ لم يجنح إلى تعرية التخفى والكشف عن مصادر ومرجعيات شخصياته، بل اختار ما سأدعوه المحو الروائي، تفادياً- وأساساً- لقاعدة المطابقة بين «مستوى الواقع» و«مستوى الفن». وثم يكمن سر الكتابة الروائية. «نجيب محفوظ من هذا النوع المتكتم، لا يترك أثرا يدل عليه داخل النص أو خارجه، وتحتاج رواياته إلى تنقيب جيد والاستعانة ببوح الأصدقاء، لكى نكتشف أية أجزاء من نفسه أودعها كمال عبد الجواد فى الثلاثية، أو أية أجزاء من روحه وأفكاره وزعها على الساهرين فى عوامة «ثرثرة فوق النيل».» (ص/26) وأما ساراماغو، فإنه فى سيرته الذاتية القصيرة «الذكريات الصغيرة»، اختار منحى آخر للكشف من خلال هذه السيرة عما يعد تخفيا. لقد نقل مستوى الكتابة من الاعتراف إلى التدليل كما يرى القمحاوي. وهو انتباه جد دقيق. فالقارئ عوض البقاء تائها يتقصى ويحاول الإمساك بالغائب المنفلت بحثا عن وهم المطابقة، فالروائى يقوده كمرشد ودليل إلى ما يبحث عنه فى آثاره الروائية. وثم ترسم المسافة بين مبدع الرواية وكاتب السيرة. ويقتضى المقام إضافة مؤداها أن ميثاق التعاقد أو ما قبل القراءة، ينصص على ضرورة قراءة أى عمل أدبى بالاحتكام لما حدده مبدعه او مؤلفه : رواية أم سيرة ذاتية علما بأن المبدع لا يكتب إلا بالاغتراف من بئر الماضى، أقول بئر الذات. «خوسيه ساراماغو أخذ الطريق الأقصر للاعتراف. فى سيرته « الذكريات الصغيرة» قام بدور الدليل، أمسك بالقارئ من يده، وأخذ يحكى له موقفا من حياته، ثم يرشده إلى مكانه فى الروايات.» (ص/27) وتأسيسا من هذا المستوى، يقارن القمحاوى بين الرواية والخبز. فالخبز ضرورة يومية. وبالتالي، سلطة تفرض قوة حضورها اليومى على الجميع. وبالتحديد على نثريات الحياة التى تسهم الرواية وحدها فى ترجمة وقائعها. من ثم لازمت الرواية الإنسان تعبيرا وقراءة. بيد أن تضاد التكامل، لا يقصى أو يلغى الاختلاف بين وجهة النظر التى تصدر عن الآخر سواء بالنسبة للطباخ أو الكاتب. فالرؤية إلى الأول، تستدعى الحديث عن الخصوصية مجسدة فى الذوق الذى يتفرد به الطاهي، ويجعله متميزا داخل الوسط الاجتماعى الذى ينتمى إليه. وأما الكاتب، فإن تقصى مرجعياته الأدبية يقود إلى القول بأن ملكة الإبداع وليدة «قوى أسطورية»، تجسد العامل الرئيس الذى يقف خلف الظاهرة الإبداعية دون الغفل عن الموهبة ومداومة القراءة : «هناك اختلاف بين الطهى والكتابة يتعلق بنظرة المجتمعات لكل من النشاطين. فيما يتعلق بالطبخ، هناك اعتراف بالحدس الخاص والذوق الشخصى للطاهى بشكل واضح لا لبس فيه.» (ص/34) «فى الأدب كانت النظرة مختلفة. كل الثقافات ربطت ملكة الإبداع بقوى أسطورية.» (ص/39)