«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طالب الرفاعى.. الكتابة صنو العيش
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 15 - 02 - 2024

فى كتابى الجديد "كيف تكتب قصة قصيرة أو رواية.. منهج الكتابة الإبداعية"، أوردت شهادة عن الكتابة تقول:
الكتابةُ، ليس لها دربٌ معبَّدٌ، وكل طُرقِها مسكونةٌ باستغاثات الجنِّ، وسكاكين أبناء القبيلةِ، ونميمتهم، ودسائسهم.
تتطاير فيها الحجارةُ، والأذى.
لكن، حين تصل إلى البستان، فهُناك ستعثر على فاكهة
ليست كأى فاكهة!
صور أولى
انتبهتُ لما حولى، طفل لعائلة متوسطة الحال، مكوّنة من أب وأم وابنة واحدة وثلاثة أولاد. كان ترتيبى الثانى بعد أختى. أعبئ عينى وقلبى بما يحيط بى فى بيت صغير فى أحد أحياء الكويت القديمة "شرق".
أول الصور حضوراً فى صندوق ذاكرة طفولتى، أتخيلها وشىء من ضباب يكللها، هى صور لعبى مع الأطفال أمام باب البيت، لكن الصور المرسومة بخطوط دقيقة وواضحة، هى خطوات المشى إلى المدرسة، بإلزامٍ لا يحتمل التأجيل أو التملّص عند أبى، حتى فى حالات المرض.
اقرأ أيضاً | مريم الساعدى.. مرآتى أو طريقى الطويل والمكرر إلىَّ
تخفّ خطواتى أثناء عودتى إلى البيت، وتتلاعب أطياف الفرح البرىء فى صدرى، وأنا أتخيل مواعيد اللعب الزاهية التى تنتظرنى وأقرانى للعب فى "البراحة" الترابية المزروعة بأصواتنا ومشاحناتنا، التى تنتهى بمغيب الشمس، واسمرار رقعة السماء، وارتفاع صوت المؤذن.
وركضنا أنا وأخاى: عيسى وهاشم إلى المسجد، فأبى "سيد محمود سيد عيسى الرفاعى" الرجل المتدين وإمام المسجد، ما كان يغفر لنا لحظة ينتهى من صلاة المغرب، ويتلفت فلا يجدنا ضمن المصلين. وتلبس الليلة ثوباً أسود كريهاً حين نتغيب عن الصلاة بسبب لهونا ولعبنا مع الأطفال.
يأتى أبى إلى البيت من المسجد محتقناً بغضبه، فيضربنا، ولا يتورع أن يمسّ شىء من ضربه أمى، إن هى حاولت حمايتنا. وكم دار ببالى السؤال دون أن أجرؤ على قذفه على أبى:
هل تعلّم الصلاة يأتى عبر الضرب؟
متعة مغايرة
طويلة هى أشهر الصيف فى الكويت. تبدأ مع أيام شهر أبريل، وتبلغ الحرارة قمتها مع شهرى يوليو وأغسطس، حين تتعدى درجات الحرارة ال50 درجة "سيلسيوس" فى مناطق الظل، وتهدأ قليلاً فى شهرى سبتمبر وأكتوبر. ولأن الحى الذى تربّيت فيه يقع فى منطقة "شرق" على ساحل البحر، فلقد كانت السباحة وصيد السمك هى المتعة الأجمل لنا نحن الأطفال، يليها صيد أو "حَبَلَ" الطيور فى مقبرة "هلال"، ولعبة "المقصي" و"صاده ما صاده"، و"الدوامات"، وكرة القدم.
عالم أسرتى ببيتنا الصغير، وطريقى إلى مدرستى ذهاباً وإياباً مشياً على الأقدام مع أبناء الحى، وتوزعى بين لعب الكرة فى البراحة، أو السباحة فى البحر، تلك كانت حدود عالمى المسالم، ولم يكن يدر فى خلدى أن هناك متعاً أخرى، أو عوالم أبعد مسافةً مما نحيا فيه، أنا وأهلى وأصدقائى.
أول لقاء بينى وبين القراءة الأدبية كان من خلال رواية "الأم" لمكسيم جوركى، الصادرة عن دار "التقدم" فى موسكو، ترجمة سامى الدروبى، عام 1972، وقتها كنت فى الصف الرابع المتوسط، بعمر يقارب الثانية عشرة.
ما كنت أظن أن لقائى بالقراءة، سيكون المنعطف الأهم فى حياتى، فكيف لوعى ولد صغير، أن يستوعب أن بمقدرة صفحات كتاب أن تحمل إنساناً وتطير به إلى سماوات لم يكن يحلم يوماً بالوصول إليها. سحرتنى رواية "الأم"، انتزعت منى نبض قلبى. لهوت بها وغبت عن أهلى ومدرستى وأصدقائى ولعبى على شاطئ البحر. احتضنتها إلى صدرى، وخلال يومين أنهيت قراءتها، ولحظتها تفتحت دنيا أخرى أمامى، لاح لى، أنا ابن الثانية عشرة، ما يشبه رسماً لعوالم ملوّنة. ولأول مرة استشعرت متعةً جديدة ومختلفة عن المتع التى أعرف، متعة تندس تحت جلدى فيقشعر لها نبض قلبى.
سرقتنى القراءة من أى لعب أو لهو، حملتنى على بساطها السحرى إلى بقاع ونواح بعيدة، وعرفتنى على حيوات وأناس كثر، لم أكن أحلم بالوصول إليهم، والاطلاع على خبايا وأسرار حيواتهم. وتالياً أدركت تجلى تجربة الشاعر العربى الأبقى، أبا الطيب المتنبى وهو يُنشد:
أعزُّ مكانٍ فى الدنى سرجُ سابحٍ وخيرُ جليسٍ فى الزمانٍ كتابُ
بفضل مجموعة أصدقاء ذوى توجه إنسانى، كانوا يؤمنون بالحرية والديمقراطية والمساواة وحرية المرأة والعدالة والسلام، ويؤمنون أيضاً بقدرة الأدب والفن والمثاقفة على تشكيل وعى الإنسان. وربما لأن أحداً منهم، توسّم فىَّ شيئاً من موهبة، رتّبوا لى قراءات روائية، بدأت بأعلام الرواية الروسية، ثم انتقلوا بى إلى دول أوروبا وتحديداً إنكلترا وفرنسا، وعبروا بى لاحقاً إلى المحيط الأطلسى وصولاً إلى كتّاب قارة أمريكا، ثم عادوا بى لأغطس فى بحر الرواية العربية.
صادقت الكتاب، وصارت قراءة الرواية الكلاسيكية والقصة القصيرة والشعر الحديث والفلسفة هى نافذتى الأوسع على العالم، ودخلت السينما إلى حياتى بوصفها سحر الظلمة الأجمل. كنت أقرأ بمعدل ثمانى ساعات فى اليوم، وفى أيام العطل، يرتفع ذاك المعدل إلى أكثر من ذلك. زرت مدينة "بطرسبورج" مع رواية "الأم"، وتعرفت على إنجلترا ب"قصة مدينتين"، وسهرت أعانى برد باريس القارس مع "الأب غوريو"، وعايشت حرب الشمال والجنوب الأمريكى مع "عناقيد الغضب"، واكتشفتُ بحراً يختلف عن شاطئ بحرنا الصافى فى رواية "الشيخ والبحر"، وبعد هذا عشت بين ناس القاهرة، واستوطنت بيوتها فى ثلاثية نجيب محفوظ، وعرفت "شرق المتوسط" مع عبدالرحمن منيف، وتعرفت على عوالم الشام بكتابات حنا مينا، ودخلت البيوت العراقية مع فؤاد التكرلى ب"الرجع البعيد"، ورواية جبرا إبراهيم جبرا "صيادون فى شارع ضيق"، ومن خلال عيون الطيب صالح عرفت "مواسم الهجرة إلى الشمال" وعايشت جنوب البصرة مع رواية إسماعيل فهد إسماعيل "كانت السماء زرقاء"، ورأيت معاناة الفلسطينى بقصص غسان كنفانى.
عام 1976/1977 حصلتُ على شهادة الدراسة الثانوية العامة، بمجموع عالٍ يتيح لى دخول أى كلية فى جامعة الكويت، يومها تهلل وجه والدتى يرحمها الله، قالت وهى تشرقُ بسرورِها، ويندّى دمعُ الفرحِ عينيها: "مبروك يا ولدى".
بينما ظل أبى، يرحمه الله، بهدوئه، سألنى: "ماذا بعد شهادتك الثانوية؟"
قلت:"سأكمل دراستى الجامعية."
لسبب ما نظر إلىَّ أبى بنظرة لم أفهمها. هزَّ رأسه ودعا لى بودٍّ ظاهر: "الله يوفقك".
وكأنه يهجس بأنه سينتقل إلى دار ربه قبل أن أتخرج من الجامعة، بينما دنت أمى منى، وكان فرحٌ أخضر، يشبه زقزقة عصافير شجرة "سدرة" بيتنا، يرسم تقاسيم وجهها المحِب، سألتنى بحنو امرأة أكل تعبُ الانتظارِ رونقَ شبابِها: "هل ستعمل معلم مدرسة؟".
"كلا يا أمى، سأدرس الهندسة، وأكون مهندساً".
شعرت بها، ترى أن وظيفة المعلم أهمّ من شغل المهندس. لكنها بحس الأم المرهف، وبتوقع العاشق، لا تريد أن تبدد فرحة ولدها وتكسر بخاطره، قالت: "سأكون أم المهندس".
طربت روحى لجملتها، بسمتُ لها، فشعّت عيناها بالزغاريد، قلت لها: "نعم، ستكونين أم المهندس".
وأوضح لها، وقد انتقل إلىَّ ريحٌ عطرٌ من فرحِها: "وظيفة المهندس جيدة، وراتبه الشهرى أكثر".
طوّق حنان ولين الرضا وجهها الأحب.
النشر الأول.. طُعم الغواية
بتاريخ 17 يناير عام 1978، نشرت أول قصة قصيرة فى جريدة "الوطن" الكويتية، بعنوان "إن شاء الله سليمة"، نشر تلك القصة كان بمنزلة طُعم الغواية الذى انسقت وراءه.
طُعمٌ مغرٍ يصوّر لروح كاتب شاب الحلم الأجمل بامتلاك الشهرة وإعجاب الفتيات والقدرة على تغيير العالم. بقيت منساقاً وراء ذلك الحلم الوردى حتى العام 1992، حين نشرت فى بيروت مجموعتى القصصية الأولى "أبو عجاج طال عمرك"، وما بين نشر القصة الأولى، ونشر المجموعة الأولى، بقيت مسكوناً بحلم كتابة نصٍ/ قصة قصيرة يفصح عن بعض ما فى القلب، وتكون لكلماته القدرة على مقاربة ملمس اللحظة الإنسانية الراعفة، وأن يأتى ذلك بثوب فنى، يحمل من السحر ما يجعل القارئ يتعلقه ويعلق به.
بالنظر إلى طبيعة وانفتاح المجتمع الكويتى، فلقد نشأتُ وتربيت فى بيئة اجتماعية وإنسانية متنوعة ومتسامحة يتجاور فيها الكويتى مع العربى مع الأجنبى، السنى مع الشيعى مع المسيحى. درست فى المراحل الدراسية على يد مدرسين عرب وكويتيين، وفى الجامعة قابلت وصادقت مدرسين أجانب من مختلف دول العالم، وربما اختيارى لدراسة الهندسة المدنية، ومن ثم عملى فى المواقع الإنشائية وسط جيش من العمال العرب والأجانب بألوان سحنهم ورطاناتهم، قد كرّسا قبولى ومحبتى وتشربى بحضور الآخر إلى جانبى، وارتباط مصيرى بمصيره.
واظبت على كتابة القصة، حتى نشرت فى القاهرة روايتى الأولى «ظل الشمس» عام 1998، وكانت انعطافة كبيرة على درب ولعى بالكتابة. ف"ظل الشمس" وعلى لسان راويها، تقدم تجربتى الحية والمؤلمة مع العمل والعمال فى المشاريع الإنشائية، وتعرى حياة وشقاء العمالة الوافدة، العربية والأجنبية، فى الكويت، وتكشف معاناتها ومواجعها وموتها، وفى جانب موازٍ منها، تلقى بالضوء على شخصية وسيرة طالب الرفاعى باسمه ومسلكه الصريحين، كأحد أبطالها، وفق مدرسة "التخييل الذاتى-Auto Fiction".
كتابة رواية، خلق لحياة مخبّأة
أرى فى الرواية تجربة حياة مُتخيَّلة تُضاف إلى حياة الكاتب والقارئ. حياة تتيح لكليهما خوض مغامرة دون مخاطرة. فالحياة الواقعية المحكومة بقوانينها القاسية تحتم علينا دفع مقابل لعيش لحظات تجاربها، وأحياناً بأثمان باهظة وقاصمة للظهر والقلب والفكر. ووحده الفن، يهبنا فرصةَ ولذةَ معايشة خبرات حيوات كثيرة دون ثمن، سوى سرقتنا من دوائر بيئاتنا الضيقة، والدخول بنا إلى دهاليز حيوات الآخر، أينما كان، وكيفما كانت تجربة حياته.
إن أعداد العمالة الوافدة، بمختلف مستوياتها العلمية والعملية، العربية والأجنبية فى المجتمع الكويتى، ربما تعادل عدد أفراد الشعب الكويتى، وهذه حالة لا تنطبق على المجتمع الكويتى وحده، ولكنها ظاهرة تسم المجتمعات الخليجية بميسمها، وبنسب متفاوتة. لذا فإن عدداً كبيراً من قصصى القصيرة وأعمالى الروائية كان الآخر/الوافد موضوعاً لها، وكانت هى صوتاً ووجهاً له. ويتجلى ذلك فى رواية "ظل الشمس" التى تحكى قصة مدرّس مصرى جاء إلى الكويت بحلم الغنى، وآل به الحلم إلى السجن.
المبدع العربى
المبدع العربى يعيش يومه مُنسحقاً راكضاً وراء لقمة عيشه وأسرته. فكيف له أن يكتب، وهو مُستنفَذ ما بين الخامسة والخامسة؟ كيف له أن يكتب، وهو مُبعثَر بين حياته فى مستواها الإنسانى، وبين رغبته الجامحة فى أن يكون كاتباً؟ كيف له أن يكتب، وفقاعة الحرية التى تحيط به، لا تكاد تحتمل نفساً؟ كيف له أن يكتب، والسجن والنفى والقتل ينتظره على بعد حرف؟ أى سؤال مربك ذاك: "متى تقرأ؟ ومتى تكتب؟ ومن أين تأتى بلحظة الخلوة؟".
أى قدرة خارقة يجب أن يتمتع بها الكاتب العربى، كى يقدم فناً إنسانياً مبدعاً، فى ظل ظروف لا إنسانية؟ أى تضحية باهظة الثمن يحتاجها كى يخطّ قصته أو روايته أو ديوان شعره؟ المبدع العربى يعيش معذباً، يحلم بنصٍ يكتبه، ويموت وهو يحلم بذاك النص الممتنع، النص الحلم.
عاشق بين حبيبتين
حين عايشت كتابة الرواية ذاقت روحى حلاوتها، لكن شيئاً ظل يلكز خاصرتى، بعشقى الأول لكتابة القصة القصيرة. وكم زاحمت قصة قصيرة طريق رواية أكتبها، وبشوق العاشق، وفى كل مرة، أترك الرواية وأسير فاتحاً ذراعى قلبى للقصة. فالقصة نفخة روح لا تحتمل التأجيل، والرواية عيش حياة تتطلب من صاحبها النظر فيما خلف الفعل الإنسانى. وكم رددت مع نفسى: ما ضرَّ أن أكون عاشق بين حبيبتين، حتى وأنا أدرك مزاجية القصة وعصبيتها وغيرتها القاتلة.
قرأت ما قرأت وكنت ولم أزل مأخوذاً بسر الدهشة. كتبت قصصى القصيرة ورواياتى مسكوناً بسحر الفن. كتبت قصصى القصيرة بمحابات أمى ودموعها، وعذاباتها، وسط وعورة دروب صبرها، وخوفها وكدرها، ولحظات فرحها القليلة. ولهذا فكل أعمالى مسكونة بحضور المرأة وعذاباتها فى مجتمع رجالى قاسٍ وغير عادل. كتبت قصصى ورواياتى بأفراحى وانكساراتى، وكنت هناك، حاضراً فى كل حرفٍ وفاصلةٍ ونقطةٍ وحلم وخيال.
كتبت قصصى ورواياتى مختلساً النظر لوجوه وهمسات وخطو من عبروا على درب عمرى. قارئاً فى حوائط وأبواب وأصوات وروائح الأماكن التى عشتها وعاشتنى. كتبت قصصى ورواياتى وفيها من الواقع بقدر ما فيها من الخيال الفنى.
ماذا أريد من الكتابة، وماذا تريد منى؟:
ماذا أريد من الكتابة؟ وماذا تريد منى؟" سألت نفسى، وها أنا بعد ما يزيد على العقود الأربعة أجيب:
أريد من الكتابة كل شىء ولا شىء".
وأسمعها تقول بصوت عالٍ: "أريدك كلك حتى آخر رمق فى عمرك".
أريد من الكتابة أن تمنحنى القدرة على تقبّل ومعايشة وتغيير الواقع الذى أحيا. وأن تخصّنى بلحظة هدوء أتمناها.
أريد من الكتابة أن تقلب هذا العالم القبيح ليصبح كما أشتهى. وأن تقتص من كل ظالم.
أريد من الكتابة أن تنقل صرختى حتى آخر الدنيا. وأن تكون شمساً أخرى ملونة بألوان الطيف، تبسم كل صباح مبشرة بالحب والخير والعدل والسلام.
أريد من الكتابة أن تنتقل بى من كائن يمشى على الأرض، إلى آخر يحلّق واثقاً فوق السحاب.
وفى كل ليلة، وقبل أن أنام أردد بينى وبين نفسى:
الكتابة حيلتى الوحيدة، كى أحيا يومى بأقل الخسائر. وربما وحدها صارت تمكننى من العيش بأمان، فى ظل عالم متوحش، أخشى من مواجهة غده إلا بالكتابة الإنسانية الخيّرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.