كتب: حسن حافظ يقدم الدكتور أسامة السعيد، أحد أبرز أبناء مؤسسة «أخبار اليوم»، تجربة شديدة الخصوصية والألمعية فى عالم القصة والرواية، بمداد الموهبة التى لا تنضب، فعبر مجموعته القصصية الجديدة (قهوة بطعم غيابها)، يجسد الروح الإنسانية الممزوجة بحيوية التجارب الشخصية، ليُخرج أمامنا فى النهاية نصًا يراوح بين كونه مجموعة قصصية أو متتالية قصصية، فالمبدع هنا يتركنا مع النص نتفاعل معه كل بحسب ما يراه ويتشربه من طبقات النص المتعددة وصوره المختلفة، إذ تبدأ اللعبة بعدم وجود فهرس يضم عناوين القصص، فالنص هنا يُقرأ مرة واحدة وفى نفس واحد، ليترك أثره، كفنجان من القهوة تحتسيه فى جلسة واحدة، فيصل مفعوله إلى تلافيف المخ ويضيء فيه بعض الجوانب المظلمة. ومضات من الحياة اليومية لتجارب إنسانية بلغة رشيقة تضم مجموعة (قهوة بطعم غيابها) 26 قصة متنوعة تضم قصصا قصيرة جدا مثلما هو حال قصص: (ثروة) و(سكن) و(رواية)، و(ستار)، وهى القصص التى لا تتجاوز الصفحة الواحدة من القطع الصغير، ويقدم السعيد ومضات من الحياة اليومية لتجارب إنسانية مختلفة بلغة رشيقة مكثفة، كما نجد بعض القصص القصيرة التى تستغرق عدة صفحات مثل (سوناتا الصمت) و(قهوة.. بطعم غيابها) و(بط بالبرتقال). وتبدو قصص المجموعة كلها مهمومة بالإنسان وأزماته وصراعه مع الواقع، بين شخصيات انتهى حلمها وأخرى تكافح من أجل تحقيق أحلامها، صراع مع الزمن والمجتمع، كل هذا بلغة سردية تكشف تمكن القاص الذى يفاجئك بقدرته على الفصل بين كونه باحثاً أكاديمياً وصحفياً له لغته، بسرد أدبى رفيع الطراز ممزوج بثقافة رفيعة وخبرة حياتية واسعة، ليظهر هذا المزيج عبر صفحات المجموعة القصصية. يقدم المؤلف حيلة فنية بالغة الذكاء لنص يراوغك فهو يقدم مجموع من القصص القصيرة التى تكشف عن قدرة القصة القصيرة على تكثيف اللحظة، وبين الرواية، إذ يمكن للقارئ أن يربط أكثر من قصة فى المجموعة القصصية ببعضها البعض وربطها بشخوص بعض القصص، فهنا كانت التجربة الجديدة التى تكسب النص قدرة فريدة على التأويل من القارئ بحسب تلقيه للنص، فهناك من سيتعامل مع مجموعة (قهوة.. بطعم غيابها) كمجموعة قصصية، وهناك من سيقرؤها كمتتالية قصصية، وآخر سيرى فيها رواية لكنها مقسمة ومبعثرة بفعل الكاتب وتحتاج إلى بعض مجهود من القارئ لإعادة لحمها فى جسد واحد، خاصة أن البطل فى معظم القصص يبدو حاضرا ويمكن اعتباره شخصا واحدا لكن فى ظروف ومواقف إنسانية مختلفة. تقدم المجموعة القصصية بعض جوانب شخصية أسامة السعيد الثرية والغنية، فنحن نلتقى بالصحفى والسياسى والمصلح المهموم بمشاكل بلده وأمته والرحالة بصورة ناعمة وغير محسوسة وبعيدا عن الفجاجة والمباشرة، فهو يعالج كل هذه الجوانب بنفس أديب وقاص متمكن من أدواته، فيكشف عن هذا الحس الوطنى فى قصة (ولادة)، كما يظهر الاهتمام بالهم العربى فى قصة (ذاكرة الأحزان)، هنا نلتقى بالهم العربى الأكبر؛ فلسطين فى صورة سائق فلسطينى يعيش فى دنيا الشتات، يجمع حكمة الأيام ويلخصها فى جمل له قوة الرصاص، يقول للشاب المصرى الذى يركب معه سيارة الأجرة (تاكسي): «يا بنى الأوطان لا توضع على موائد، عندما يريد الجالسون حول تلك المائدة التهامها»، وعندما يسأله الشاب المصرى لماذا لا يعود بعد غيبة استمرت لأربعين عاما، يقول بكل مرارة الدنيا: «إلى أين؟»، ففى بعض كلمات يعبر أسامة السعيد فى قصته عن معاناة الفلسطينيين فى الشتات، وحلم العودة الذى يسكنهم رغم قسوة الأيام. بينما نقابل لمحة من الوطنية المصرية فى حرب أكتوبر فى قصة (رحيل ميت) التى هى تحية مقدمة بذكاء لكل من ضحى بدمائه من أجل الوطن، وبعدها ينتقل لقصة (قاتل.. لوجه الله) التى يقدم فيها معنى آخر ونسبيا للحقيقة، فقد يكون القاتل فى حقيقته شريفا صاحب مبدأ تسكنه الهواجس حول الموت، فهل سيأتيه الموت فى النهاية كما توقع؟ وبعد هذه القصص القصيرة، يأخذنا السعيد فى استراحة بمجموعة من القصص القصيرة جدا، التى تشبه الومضات القصصية، حيث التركيز الشديد فى اللغة والكلمات، والقدرة على صياغة قصة لكنها قصيرة جدا ومع ذلك بدون إحداث أى خلل فى عناصر القصة الفنية، وهو ما نجح فيه السعيد بجدارة وقدم قصصه القصيرة جدا بموهبة من يدرك إيقاع العصر السريع، ثم يختم السعيد هذا الجزء بقصتى (شجرة شيكولاتة) و(بيت قديم)، وهما معا عن الطفولة التى لا تغادرنا وتترك فى الروح أثرا لا ينمحى مع الأيام. إقرأ أيضًا «قهوة ..بطعم غيابها» لأسامة السعيد.. لمسة أدبية في غاية العفوية ومعالجة للقضايا الوطنية وفى قصة (سوناتا الصمت) يحاول البطل القادم من بلاد الشرق حيث الصمت يفرض على الناس بالسوط أو بالموت، ليبحث عن صمت اختيارى فى العاصمة الألمانية برلين، لكنه يكتشف أن للصمت مخاطره وهواجسه التى تستغل الهدوء لتهاجم العقل والنفس بشراسة، وهنا على بطل القصة أن يواجه ذاته فى ملعب الصمت. لكن القصة التالية بعنوان (حادث صغير) تبدأ بداية متفجرة تبدد الصمت، إذ يبدو أن المؤلف اختار ترتيب القصتين بدقة ليحدث حالة من التضاد بين القصتين، لينتقل بعدها السعيد إلى منطقة استراحة ثانية من خلال أربع قصص قصيرة جدا، قبل الانتقال للقصص القصيرة (قهوة.. بطعم غيابها) و(بط بالبرتقال)، ففى القصة الأولى نجد الرحلة إلى الماضى حيث قصة الحب الأولى التى لا تزال تفوح برائحتها كما القهوة تماما، وفى الثانية نجد الرحلة فى المكان حيث مدينة فى قلب أوروبا، ووسط الثلج تشتعل قصة حب عابرة على شرف طبق بط بالبرتقال. وفى واحدة من أمتع قصص المجموعة يقدم أسامة السعيد فى قصة (أرزاق) أجواء تصل بين عالمى الريف والمدينة، فى صورة فلاحة تحمل خيرات الريف إلى سوق شعبى بالمدينة المكتظة بالبشر، لكنها تدخل فى مواجهة من العيار الثقيل مع قطة سرقت سمكة منها، وتدور المعركة بين «القطة الخاطفة التى لا تريد التنازل عن تلك السمكة الشهية التى ستسد جوعها وجوع صغارها، وبائعة السمك تأبى التنازل عن قوت أبنائها مهما كلفها ذلك». وفى ختام المجموعة القصصية قدم القاص قصة (روبابيكيا) كمعزوفة حزينة على حال محبى الكتب، فأستاذ الأدب الذى أنفق نور عينيه بعد ثروته على الكتب، تنتهى كتبه التى جمعها من أقطار العالم بين يدى بائع روبابيكيا، لا يفرق بين دواوين الشعر وأوانى الطهى الصدئة. ويعد الدكتور أسامة السعيد أحد أكثر مبدعى جيله نشاطا وإنتاجا فى مجالات عدة، فقد سبق أن أصدر مجموعتين قصصيتين من قبل وهما: (عورة مكشوفة) و(هيت لك)، كما فازت روايته الأولى (رواق البغدادية)، بالمركز الأول لجائزة الشارقة للإبداع العربى العام 2014، كما فازت روايته الثانية (آرنكا) بجائزة إحسان عبدالقدوس 2017، ولا يتوقف إبداع السعيد عند حد الإبداع الروائى والقصصي، إذ قدم مجموعة من الدراسات الفكرية والسياسية الرائدة منها: (ما قبل السقوط: كواليس قصر العروبة)، و(خطايا مبارك السبعة)، و(الربيع الزائف: الثورات وأزمة الإصلاح فى الوطن العربي)، و(إمبراطورية الدم: حقيقة الوجود التركى فى المنطقة العربية)، كما صدر له مؤخرًا كتاب (سقوط الأقنعة: صورة الإسلام السياسى فى زمن الثورات).