حبيبة جمال تخيل طفلًا يتيمًا جاء إلى الدنيا لم يجد له أبًا وتحجر قلب أمه فتركته بلا رعاية، تُرى ماذا كان يقول بعدما غاب الأمان في حياته، ألا يكفيه أنه فقد الحنان والحماية؛ كي يفقد معهما حياته أيضًا مقتولًا في لحظة غدر؟! نتخيله من قبره يعاتب أمه قائلًا، «ليه يا أمي قتلتيني، كان نفسي أعرف مين أبويا، هو فين دلوقتي، عرف اللي عملتيه فيا انتي وخالي، مش برضه بيقولوا الخال والد مش قاتل.. كان نفسي أعيش حياتي زي ابن جارنا.. كان نفسي اترمي في حضن أبويا.. أجرب الإحساس ده اللي انتو حرمتوني منه، أنا فاكر كل ما اسألك أبويا فين بتضربيني ومترديش عليا.. يارب أنا سمعت الأطفال بيقولوا أني ابن حرام، يعني ايه ابن حرام يا أمي أنا مش فاهم.. ممكن كان ده يحصل؛ أنام وأصحى ألاقي بابا جه»؟، هكذا تخيلنا الملاك الصغير وهو من قبره الضيق يحدث نفسه بهذه الكلمات الباكية، لكن لقاتليه نقول، صحيح أن الجسد مسجى في قبره لكن روحه الطاهرة خرجت إلى النور، نور يتحول في نظر هذه الأم وشقيقها إلى نار يتعذبان فيها ما بقي على قيد الحياة على ما فعلاه بطفل لم يتجاوز التاسعة من عمره، كان الأجدى بهما أن يتركاه لمصيره، أو على باب جامع أو ملجأ، أو في كنف أسرة ترعاه وتحميه من غدر الأيام، لكن ما جدوى هذه الأمنيات الآن؟! والآن إلى تفاصيل المأساة والجريمة، لننتظر العقاب الذي سوف يحل بالأم وشقيقها. -أبويا فين؟! =معرفش -ليه عملتي فيا كده ياماما؟! =سامحني يا ابني كانت هذه هي الكلمات الأخيرة التي دارت بين الصغير ووالدته، قبل أن تفر هاربة من المواجهة، تاركة صغيرها في حيرة من الأسئلة يواجه وحده الحياة بلا أب يساند أو أم تحضن وتضم، قررت الهروب لشعورها بتأنيب الضمير، لكن كانت نهاية هذا الطفل الذي كان حلمه الوحيد هو رؤية والده، أن يموت بدم بارد على يد خاله معدوم الضمير والإنسانية.. بالتأكيد التفاصيل مؤلمة لكن لابد من سردها، وليكن هدفنا في النهاية؛ أن الجريمة دائمًا وابدًا لن تفيد، والجريمة الكاملة هي وهم في نظر مرتكبيها فقط، وليكن مأواهما خلف القضبان. زواج عرفي قبل تسع سنوات من الآن، تعرفت «س» تلك الفتاة التي تعيش مع أسرتها في بيت صغير بمحافظة الإسماعيلية، على شاب يكبرها بعدة سنوات، منذ الوهلة الأولى تعلقت به، وهامت في حبه عشقًا، ظنت أن الفوز به هو حلم بعيد، صعب المنال، ولكن فوجئت به يعبر لها عن حبه، اعتقدت أن السعادة فتحت لها ذراعيها، ولكن سرعان ما دق الحزن قلبها، عندما أخبرها أنه لا يستطيع أن يتزوجها رسميًا، ولكن من الممكن أن يتوج حبهما بالزواج العرفي مؤقتا حتى تتحسن ظروفه المادية. ترددت كثيرًا ولكنها في النهاية انصاعت لأوامر قلبها وتزوجته عرفيًا، ظل الاثنان يسرقان كل ليلة ساعتين يلتقيان فيها، حتى حملت بين أحشائها جنينًا، أخبرته بأنه حان الوقت ليعلن زواجهما، لكنه تهرب منها، وفي يوم استيقظت من نومها تحاول الاتصال به، فوجدت هاتفه مغلقًا، وعندما حاولت السؤال عنه وجدته اختفى من البلدة كلها، يوم عن يوم تكبر بطن الفتاة ويكبر جنينها معها، حتى أخبرت شقيقها بما حدث معها، غلي الدم في عروقه، وكاد أن يرتكب جريمة قتل دفاعا عن شرفه، لكنه تراجع في آخر لحظة، حاولت إجهاض نفسها أكثر من مرة لكنها فشلت، إلى أن أنجبت طفلا جميلا لكن المسكين ضحية والديه جاء إلى الدنيا مصابًا بإعاقة في قدمه، الطفل يكبر كل يوم أمام عينيها، لكن جاحدة القلب لم تشعر بالذنب تجاههه، كل همها أنها كيف ستواجه الجيران والناس، وهي لم تستخرج له شهادة ميلاد بعد، اتخذت قرارًا قاسيًا عندما قررت حبسه داخل البيت. عاش الطفل تسع سنوات وهو لا يحمل أي أوراق رسمية تثبت وجوده على قيد الحياة ولم يغادر حتى باب الشقة التي يسكنها، كل ذنبه هو أنه ابن لأم لم تفكر سوى في نفسها وشهواتها فقط، وكانت النتيجة هي إنجاب هذا الطفل وسلبه حياته، حرمته من أن يعيش حياة سوية مثل من هم في سنه، وبدلًا من أن تبحث عن والده أو تسعى لإثبات نسبه ليتم الاعترف به وتخرج به للنور، أو حتى على الأقل أن تحتويه وتعوضه عن طفولته، قررت تركه نهائيًا والهروب لتفلت من تأنيب الضمير رغم اليقين أن ضمير هذه الأم مات وما عادت تشعر به حتى وإن رأته أمامها، تركته لشقيقها الذي نزع قلبه من بين ضلوعه ووضع مكانه قطعة من الحجارة أو أشد قسوة منها، ظل الخال يعتدي على الصغير بالضرب كل يوم، ولم يرحم توسلاته وصرخاته، ولما لا، فأمه نفسها قست عليه، فماذا كان منتظرًا من شقيقها هل يحنو عليه؟! جثة في ليلة الأحد قبل الماضي كان الضرب مبرحًا لم يتحمله جسد الصغير المعاق، حتى صمتت صرخات الصغير للأبد، فجأة سقط على الأرض بلا نفس أو حركة، نعم مات مقتولًا من شدة الضرب، جلس الخال القاتل يفكر كيف يهرب من جريمته لم تذرف عيناه دمعة واحدة حتى ولو على استحياء، حتى اقترحت عليه زوجته التخلص من الجثة، فوضعاها في بطانية وألقياها بعيدا عن منزلهما أمام بيت مهجور، وعادا لبيتهما وكأنهما لم يقترفا أي ذنب أو جرم، اعتقدا أن جريمتهما لن تنكشف، وتناسا أنه لا توجد جريمة كاملة، ومع انتشار الخطوط الأولى لأشعة الشمس، نبضت الحياة من جديد، بدأت تدب الحركة في الشوارع، فتح أصحاب المحلات متاجرهم، وبسط الباعة المتجولون سلعهم على الأرصفة، ولكن كانت الصدمة وهي وجود جثة طفل مجهول الهوية أمام أحد المباني، صراخ وعويل، والكل يضرب كفًا فوق كف لا يعرف من هذا الطفل ومن قتله، وأي ذنب ارتكبه لتكون هذه هي نهايته؟! بلاغ لم يكن أمامهم حل سوى إبلاغ مركز شرطة أبو صوير، على الفور انتقل رجال المباحث لمحل البلاغ، تم فرض كردون أمني حول مسرح الجريمة، الكل أكد أنه لا يعرف هذا الطفل، لكن المعاينة الأولية أثبتت وجود شبهة جنائية في الوفاة، وكان هذا واضحا للجميع بسبب وجود كدمات وإصابات بأنحاء جسمه، تشكل فريق بحث لكشف لغز الواقعة، وكانت كاميرات المراقبة هي الخيط الأول الذي اتجه إليه رجال المباحث، بالفعل رصدت الكاميرات وجود رجل وسيدة في وقت معاصر للواقعة، حتى تمكن رجال المباحث من تحديد هويتهما وإلقاء القبض عليهما، واعترفا بارتكاب الواقعة، وتم حبسهما على ذمة القضية وباشرت النيابة التحقيق. هذه هي حكاية الطفل الذي لم يعرف لنفسه اسما أو أبا، مهما كتبنا فلن نجد كلمات تصف المعاناة التي كان يعيشها، لكن القدر كان رحيما به ولم يتركه يعاني كثيرًا، نعم مات بطريقة بشعة ولكن الموت كان بمثابة الراحة التي أنقذته من العذاب والمصير المظلم، الخال وزوجته سيعاقبان بأشد عقوبة، بينما الأم التي هربت ظنا منها أنها لن تشعر بتأنيب الضمير طالما بعيدة عنها، ستراه دائما في أحلامها ينغص عليها حياتها ما بقيت على قيد الحياة.