نجوت بفضل دعاء الصادقين المخلصين، والمؤكد أننى عدت إلى الحياة مرة أخرى بعد فضل الله بسبب التفاف المحبين، ووقوفهم إلى جوارى، نعم؛ الصادقون فقط هم من أعادونى إلى الحياة. الثلاثاء 26 أكتوبر كنت فى هذا اليوم على موعد مع طبيبى فى عيادته الخاصة، وما أن دلفت إليه هبَّ واقفًا ليصافحنى ويذكرنى بأن هذا الموعد تأخر كثيرًا، حيث كان مخططًا له فى مارس 2019، استمع الطبيب إلى شكواى وطلب منى التوجه لسرير الكشف، وعندما انتهى لم يتحدث بأى كلمة وعاد سريعًا إلى مكتبه، وعندما وصلت إليه سلمنى روشتة وطلب إجراء رنين مغناطيسى على الكتف وآخر على الفقرات العنقية فى أسرع وقت وعندما حاولت سؤاله عن حالتى قال لى فى حدة لن أجيب قبل أن أطلع على نتائج الأشعات. هممت بالخروج وقبل أن أصل إلى الباب جاءنى صوته فلتفت إليه ووجدته على مكتبه لم يغادره وقال إن كان وقتك لا يسمح بالمجىء لعرض النتائج يمكن أن ترسلها لى على الموبايل المهم أن تنتهى منها فورًا كى أعرف النتيجة، شكرته للمرة الثانية وانصرفت، وكنت بينى وبين ربى أنوى إلا أخوض هذه التجربة مرة أخرى، فقد خضعت لعمليتين جراحيتين خلال الخمس سنوات الماضية وكانتا فى كتفى الأيسر، أيضًا نتيجة حادث سيارة تبعه سقوط من أعلى على ذراعى أيضًا، إلا أن المقادير جاءت عكس إرادتى ووجدتنى أحجز موعدًا لإجراء الأشعة. السبت 31 أكتوبر زرت مركز الأشعة فى اليوم المحدد لى وانتظرت لبرهة حتى نادت الممرضة على اسمى لأدخل معها فى غرفة صغيرة، تأمرنى أن أخلع ملابسى وأترك كل متعلقاتى واتبعها حيث غرفة الفحص، وإذا بجهاز ضخم تتوسطه محفة صغيرة الحجم ما أن ينام عليها المريض تبدأ الممرضة بوضع جهاز على المكان المراد عمل الأشعة فيه، ثم تدخل المحفة إلى نفق داخل الجهاز يشبه القبر وضمته وسرعان ما تصاب بالهلع وأنت داخل ذلك الجحر ويمكن لرئتيك أن تتوقفا عن التنفس أو أن يتوقف القلب عن النبض، ومطلوب منك أن تظل على ذلك الحال دون حركة طيلة 20 دقيقة، ولو كان حظك عثرا مثلى ومطلوب منك فحصان، فعليك الانتظار داخل القبر مدة 40 دقيقة كاملة، ليس لك من أمرك شىء إلا أن تناجى ربك أن يلهمك صبرًا وثباتًا يعيناك على تحمل ضمة هذا القبر حتى ينتهى من فحصك وعليك أيضًا أن تلتزم بموضع الثبات والسكون حتى ينتهى وأن تستمع إلى ذبذباته التى تخطف قلبك دون أن تحرك ساكنًا. وفى اليوم الثالث من نوفمبر كنت استلمت الأشعات وتوجهت بها إلى طبيبى وانتظرت حتى جاء دورى فدلفت إليه، وبادرته كنت تظن عدم مجيئى؟ لكن الألم أقوى من أى إهمال أو تأخير هذه المرة، وأخذ يتفحص النتائج ثم وضعها فى مظروفها، ونظر إلىَّ وابتسم، ثم قال تستعد متى لإجراء الجراحة؟ تعجبت وقلت له لماذا؟ قال هناك أربع مشاكل ظاهرة رأى العين فى الأشعة؛ تيبس فى المفصل واختناق كامل فى القناة العظمية وزوائد عظمية فى عظمة الترقوة مع قطع فى أوتار الكتف فى أكثر من موضع، ولا سبيل لنا إلا الجراحة وفى أسرع وقت. طلبت من طبيبى أن نؤجل تلك الخطوة قدر المستطاع لوجود ارتباطات عدة لدى، ووافقنى على مضض وبعد أن وعدته أن أنهى كل ما لدى وأتوجه فورًا إليه كى يتمم الجراحة المزعومة والتى ادعى أنها ستكون بسيطة، وبعدها سريعًا أستطيع أن أعود إلى ممارسة حياتى الطبيعية. الجمعة 11 فبراير زرت الطبيب للمرة الثالثة فى اليوم الأخير من يناير، ونفذت وعدى بالتوجّه إليه عقب إتمامى جميع الارتباطات، وحدد لى أحد مستشفيات حى المهندسين وطلب إجراء بعض التحاليل كما طلب منى انتظار اتصال منه فى القريب العاجل خلال أيام لتحديد موعد دخول المستشفى، وبالفعل عقب صلاة الجمعة يوم 11 فبراير إذا بالطبيب يطلب منى التوجه إلى المستشفى لعمل بعض الفحوصات وأشعة مقطعية على الصدر للتأكد من عدم إصابتى بفيروس كورونا، والانتظار حتى صباح السبت لإتمام الجراحة التى تأخرت نحو عامين. جهزت متاعى وتوجهت إلى المستشفى المحدد وأنهيت إجراءات الدخول سريعًا بعد إجراء الأشعة وصعدت إلى غرفتى، وأسرع التمريض بعمل الفحوصات المطلوبة من قياس درجة السكر فى الدم وضغط الدم والحرارة والنبض، وتوالى دخول الأطباء خلال الليلة لأكثر من أربع أو خمس مرات، يتلون نفس الأسئلة وأجيب بنفس الإجابات، حتى جاء منتصف الليل جاءنى طبيب، وكالمعتاد تلا نفس الأسئلة وأجبت بنفس الضيق والضجر، لكنه فى هذه المرة طلب منى الصوم مثل أيام رمضان بالضبط، ولا تقل ساعات الصوم عن ثمان ساعات متصلة على أن أبدأ فورًا لأن الطبيب سيأتى باكرًا لإتمام الجراحة، فى هذه اللحظة تغيرت ملامح وجهى بشىء من الابتسامة فى وجه المتحدث فقد أتى بجديد بعض الشىء عكس سابقيه، ورغم أنه طلب منى الإقلاع عن التدخين لعدة ساعات، كنت أعلم علم اليقين أننى لم أغف فيها إلا القليل واحتاج للتدخين بشدة خلال تلك الساعات، إلا أنه أمر وواجب التنفيذ لا نقاش فيه، ودعنى محدثى وعند الباب قال لى أراك فى الصباح كى أطمئن على صحتك قبل دخول العلميات، شكرته على الاهتمام وهرعت إلى علبة السجائر التقط ما أستطيع أن تتنفسه رئتاى فربما كانت آخر سيجارة أستطيع أن أدخنها!. صباح الأحد كانت الليلة ثقيلة لا تمر دقائقها حاولت بشتى الطرق أن أقتل الوقت لكن دون جدوى، جاهدت ألا أفكر فى الجراحة ومشهد غرفة العمليات وتصور ما سيحدث بعد ساعات ولكن الفشل كان عائقًا أمامى، حاولت أن أقرأ كتابًا كنت أحضرته معى خصيصًا لتلك الساعات، لكنى اكتشفت أن ذهنى ليس معه والسطور تهرب منى، حاولت أن أغفو قليلًا وأن أغمض عينى لكن مشهد غرفة الجراحة عاد إلى ذهنى مرة أخرى، وعند الفجر دخل التمريض لعمل فحوصات الضغط والسكر المعتادة، وسلمونى الملابس المخصصة للجراحة، على أن أكون جاهزًا فى الثامنة صباحًا. فى الثامنة صباحًا حضر طبيب المساء وسأل عن عدد ساعات الصيام وكيف كانت الليلة وأجرى بنفسه الفحوصات المعتادة وحاولت مداعبته أننى جاوزت العشر مرات التى تم قياس السكر والضغط والنبض والحرارة لى فيها، وسألته هل لا يوجد أى مريض محجوز فى ذلك المشفى غيرى؟ ابتسم الرجل وقال: نريد الاطمئنان عليك وأن جميع أمورك طيبة كأنك رجل مقبل على الزواج، ثم طلب منى أن أرتدى الملابس المخصصة للجراحة فورًا وقال لى أمامك دقائق. بعد حوالى ربع ساعة جاء طبيبى ومعه جراح آخر عرّفنى به طبيبى، وقال إنه أستاذ فى قصر العينى ومتخصص فى جراحات مفصل الكتف وإن حظى السعيد أنه متواجد حاليًا فى مصر، حيث إنه يعمل منذ سنوات فى الولاياتالمتحدةالأمريكية وأنه سوف يشرف بنفسه على إجراء الجراحة، وللحق فإن الرجل صاحب ابتسامة هادئة وبشوشة، نظر سريعًا إلى الأشعات والتحاليل وطلب منى أن أحرك ذراعى فى عدة اتجاهات لكنى فشلت فشلًا ذريعًا، نظر لى مبتسمًا وقال: ألقاك بعد دقائق كى نصلح تلك الأعطال. وما أن خرج حتى دخل الترولى الذى سيقلنى إلى حيث غرفة العمليات، صعدت إليه ودقات قلبى متسارعة، وهم مرافقى بتحريكه حتى المصعد الذى كان متواجدًا، وما أن دلفت إليه حتى أغلق أبوابه بمنتهى القوة حتى أننى سمعت صوت الغلق عاليًا، وما هى إلا لحظات حتى وجدتنى داخل ممر طويل يسير فيه المارة بمنتهى الدأب والهمة، جميعًا يرتدون نفس الملابس مع اختلاف ألوانها، ملامحهم مختفية خلف الكمامات، كلما نظر إلىَّ أحدهم قال كلمة واحدة ألف سلامة عليك. اللحظات الأخيرة وقف الترولى فى محطته الأخيرة أمام ساعة حائط كبيرة كانت عقاربها تشير إلى الثامنة و50 دقيقة ولأول مرة ألحظ أن دقات الساعة بهذا الصوت المرتفع ودقاتها منتظمة إلى هذا الحد، أسترق النظر إليها ثم أحاول أن أهرب منها فى الاتجاه الآخر لكن سرعان ما أعود إليها، حتى دخل طبيب التخدير ولاحظ متابعتى لتلك الساعة وحاول مداعبتى قائلًا هل تعجبك؟ يمكن أن أهديها إليك غداة إتمام الجراحة، لم أجبه فقط اكتفيت أن ابتسم إليه، ربما عقد لسانى، رغم أننى كنت واثقًا أننى أتحدث من داخلى وأسمع صوت حديثى فقد كنت أناجى ربى، حتى قال محدثى الآن أحقن وريدك بالبنج وسوف تذهب فى سبات عميق حتى ننتهى، وبالفعل ما هى إلا لحظات وكأننى قد ذهبت فى رحلة سريعة إلى الموت، عدت منها بعد قرابة الست ساعات ونصف الساعة، هذا الوقت فقدته من عمرى لا أعلم ماذا جرى فيها، كل ما أعلمه أن أحدهم أفاقنى وقال لى: حمدًا لله على السلامة، شكرته بلسان متثاقل وتلفت حولى فإذا بساعة الحائط أمامى تشير إلى الثالثة والنصف عصرًا وأنا ما زلت فى مكانى على ترابيزة الجراحة وهناك بعض الألم فى ذراعى إلا أننى ذهبت فى غفوة أخرى. نقلنى بعضهم إلى الترولى الذى نقلنى إلى المصعد الذى كان فى انتظارى لكن هذه المرة لم أعبأ بصوت غلق الباب، حتى وصلت لغرفتى فإذا بى أجد أصدقائى ورفقائى فى انتظارى، ومنذ هذا الوقت وحتى كتابة هذه السطور لم يهدأ هاتفى من الرنين ولم تكل المراسيل، يوميًا يزورنى الأصدقاء وأتلقى عشرات المكالمات والرسائل حتى أصبحت على يقين تام بأننى عدت من رحلة الموت فقط بفضل دعائكم الصادق، وأننى أستطعت التغلب على الآلام المبرحة فقط بعد قدرة ربى بفضل التفافكم حولى .