عبدالله البقالى يبدو أن التشريح الذى خص به كبار صناع القرار الاقتصادى والسياسى فى العالم، المشاركون فى منتدى دافوس الاقتصادى، الذى انعقد قبل أسابيع قليلة، لم يكن دقيقًا ولا كافيا لتحديد الوصفات الكفيلة بمعالجة الكثير من الأمراض المزمنة، التى تنخر جسد النظام الاقتصادى العالمى. ونكاد نجازف بالقول إن التشريح كان مغلوطًا بصفة متعمدة، للتمويه عن الأسباب الحقيقية التى أدت إلى الاختلالات العميقة فى النظام الاقتصادى العالمى، والتستر على المسئولين الحقيقيين الذين تسببوا فيما آلت إليه الأوضاع؛ ذلك أن هذا المنتدى فى دورته الخامسة عشرة نبه إلى ما سماه ب(المخاطر التى تهدد العالم)، والتى فى حال حدوثها – يضيف التنبيه – فإن (تغييرات كثيرة ستحدث على مدى العشر سنوات المقبلة وتهم الدول كما الصناعات). وأوضحت حيثيات هذا التنبيه التى تم تضمينها، فيما سمى ب (تقرير المخاطر العالمية) أن خمسة مخاطر تعد أبرز ما يهدد العالم، وتتمثل فى ضعف الاستقرار الاقتصادى والترابط الاجتماعى، والتغير المناخى، وفقدان التنوع البيولوجي، وتحديات الولوج إلى الإنترنت، وأنظمة الرعاية الصحية، بينما حدد المخاطر الأخرى، فى المخاطر الجيوسياسية التى تؤثر على الاستقرار الاقتصادى والاجتماعى، ولأن فرص مواجهة التحديات الاقتصادية والبيئية والتكنولوجية الأكثر إلحاحًا تتلاشى مع الاضطرابات الجيوسياسية. وتوقع 78 بالمائة من صناع القرار على المستوى الدولى أن يتصاعد الاستقطاب السياسى وأن يتردى الوضع الاقتصادى العالمى خلال العام الجارى، وهو ما سيجعل الدول عاجزة عن مجابهة التحديات الخطيرة، بما فى ذلك أزمة تغير المناخ، التى قال عنها التقرير إنها تنامت مع ارتفاع درجات الحرارة والتى أدت إلى تزايد الحرائق فى الغابات وفى ذوبان الجليد فى القطب الشمالى، كما توقع التقرير فى هذا الصدد أن تغمر المياه المناطق الجغرافية المنخفضة بحلول عام 2050، بسبب ذوبان الجليد. كما أن هذه الأزمة، حسب صناع القرار العالمي، تسبب فيها تزايد الكوارث الطبيعية الخطيرة، وشهد معها العالم ظواهر مناخية غير عادية فى العام الماضى، الذى قال عنه التقرير، إنه ينذر بحالة طوارئ ستسود العالم، وستؤدى إلى اضطرابات اجتماعية وجيوسياسية واقتصادية. كما اعتبر صناع القرار العالمى المجتمعون فى دافوس أن تآكل وتراجع التنوع البيولوجى يعتبر من المخاطر المحتملة فى العقد المقبل، خصوصًا فى ظل التوسع العمرانى وتنامى الصناعة، ناهيك عن اقتلاع الأشجار وإلقاء النفايات السامة فى البحر، ومن شأن هذا أن التسبببخسائر فى الأرواح، وأن النساء والأطفال وكبار السن سيكونون أكثر عرضة للموت. وأدرج التقرير مخاطر شبكة الإنترنت ضمن المخاطر التى تهدد العالم، لأن الهجمات الإلكترونية صنفت ضمن أعلى المخاطر فى هذه السنة، مع توقع تنامى هذه الهجمات فى المرحلة المقبلة، كما أشار التقرير إلى أن الأنظمة الصحية ستصير غير صالحة مستقبلًا، مما سيضعها ضمن المخاطر التى تهدد العالم، خصوصًا مع ظهور أوبئة مقاومة للعقاقير، إضافة إلى ارتفاع الأسعار وضعف البنية التحتية وقلة الكفاءات. قد تكون هذه القراءة للمخاطر المحدقة بالمجتمع البشرى صحيحة، بل وهى كذلك، لكنها ليست المخاطر الوحيدة، ولا هى الوصفة الحقيقية والأمينة للاختلالات الفظيعة والعميقة، التى يتسم بها النظام الاقتصادى العالمى، وما لا يمكن أن يفصح عنه المسئولون المباشرون على صناعة القرار السياسى والاقتصادى فى العالم، هو أن المخاطر الحقيقية التى تهدد مستقبل البشرية جمعاء وبصفة مباشرة، تكمن أساسا فى مظاهر الهيمنة والاحتكار والاستعباد التى يتميز بها النظام الاقتصادى العالمى المختل، مما ترتبت عنه تفاوتات خطيرة جدا فى الدخل وفى مستويات العيش وفى التمتع بالحقوق الاجتماعية خصوصًا ما يتعلق بسهولة الولوج إلى الخدمات الاجتماعية، وهذا ما يفسر ويبرر مظاهر المجاعة والفقر والتخلف والجهل، لأن مآت الملايين من البشر فى مختلف أصقاع المعمور لا يمتلكون القدرة على ضمان إطعام أنفسهم وعيالهم، بيد أن قلة قليلة من باقى سكان العالم تستحوذ على أهم مصادر الثراء فى العالم وتعيش أعلى مستويات الرفاهية والرخاء. وهو ما كان تقرير حديث صادر قبل أسابيع قليلة عن المنظمة العالمية للأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة قد أكده، حينما (حذر من عدم قدرة البشر على إطعام أنفسهم فى المستقبل بسبب الضغط الشديد على الموارد الطبيعية وتزايد عدم المساواة)، وهكذا، فإنه قبل الحديث عن تداعيات المتغيرات المناخية، وتردى الخدمات الصحية والهجومات الإلكترونية، وغيرها من المظاهر التى لا تمتلك قوة تبرير ما هو سائد، كان الأجدر الحديث من جهة عن المخاطر الحقيقية التى تهدد مستقبل الإنسانية المتمثلة فى اختلالات نظام اقتصادى ظالم، ومن جهة ثانية الحديث عن الأسباب الاقتصادية والسياسية، التى أفضت إلى هذه الاختلالات، ومن جهة ثالثة اقتراح الوصفات العلاجية الفعالة الكفيلة بالقضاء على الأوبئة الخطيرة، التى تنخر جسد النظام الاقتصادى العالمى، ومن جهة رابعة تحديد المسئوليات المباشرة فيما حدث لحد الآن، لكن يبدو أنها كانت مهمة مستحيلة، لأن الذين تحملوا عناء إعداد وإنجاز التقرير المحدد للمخاطر، لم يكونوا غير المسئولين المباشرين عما صار عليه النظام الاقتصادى العالمى، من صانعى القرارات السياسية والاقتصادية فى العالم، والذين يملكون العصا السحرية القادرة على تغيير أوضاع المحتاجين والفقراء والمهمشين، واستبدال نظام اقتصادى عالمى مختل بنظام اقتصادى عادل، يساوى بين بنى البشرية جمعاء فى العيش الكريم، ويحقق العدل فى الاستفادة من خيرات الكون، ومن مصادر الثراء العالمى، إن هم أرادوا فعلًا التغيير وامتلكوا خصلة مشاطرة الضعفاء معاناتهم، وهذا ما لا يمكن توقع حدوثه فى المدى المنظور والبعيد، لأن منطق مراعاة المصالح الاقتصادية الربحية يتغلب على جميع الاعتبارات القيمية والإنسانية والاجتماعية.