أيام قليلة تفصلنا عن شهر رمضان الكريم، لتظهر لنا مشاهد لا نراها إلا مع غروب الشمس طوال 29 يوم ، فتنتشر "موائد الرحمن" داخل القرى والمراكز المختلفة بمحافظة أسوان، والتي يتجمع حولها العشرات من الأهالي، سواء تربطهم علاقات أسرية قبلية ، أو يتجمعون من كل صوب وحدب ليجمعهم إفطار يروي ظمأهم بعد صيام تجاوز ال14 ساعة. وتتنوع الموائد مابين مجموعة من سجاد "الحصير" فُرشت على أرض رملية رشت بالمياه قبل الأذان ببضعة دقائق، أو عدد من الصواني النحاسية رصت متلاصقة على المصاطب الأسمنتية، أو أحيانا طاولات طويلة يتجمع حولها عشرات الكراسي. ولموائد الرحمن بمحافظة أسوان مذاق خاص، حيث اعتاد كبار رجال القرى وأشرافها على إعداد موائد يومية لأهالي المدينة خاصة الفقراء والمساكين الذين يجدون في مثل الموائد ملاذاً لهم ولأطفالهم بعد أن عجزوا عن توفير إفطار بشكل يومي. ويوضح لنا إسماعيل بدوي من أهالي مدينة دراو أن ساحة "الأدارسة الأشراف" تعد أشهر الأماكن التي ترعى المئات من المساكين يومياً طوال الشهر الكريم، فيتجمعون من كل صوب وحدب للإفطار سويا داخل الساحة وإقامة صلاة المغرب ثم التراويح وأخيرا الجلوس لسماع الابتهالات والأناشيد حتى يحين موعد السحور وصلاة الفجر، فتعد الساحة ملاذا مناسبا لهم طوال العام. ويضيف لنا "كل عام تفتح الساحة للأهالي الذين يجتمعون للإفطار والصلاة، ونرى يوميا إبتسامة الرضا والإمتنان من الأهالي خاصة الفقراء والمساكين والذين يجدون طعام شهى يوميا لا يتمكنون من الحصول عليه بمنازلهم، ويجلب الرجال عادة أطفاله معه للإفطار والذين يسعدون باللمة واجتماع الكثيرون على نفس الطاولات، كما يتم توزيع بقية الطعام عليهم ليستفاد بها ذويهم الذين لم يحضروا للساحة". ويقيم هذه الموائد مجموعة من أشراف مدينة دراو والذين يخصصون مجموعة من العمال يومياً لتحضير العصائر ووجبات الإفطار للأهالي. وعلى جانب آخر اعتاد كبار العائلات بمدينة ادفو إقامة موائد رحمن تجمع عددا من القبائل المختلفة حيث يتم استخدامها كوسيلة لإذابة الضغينة والخلافات بين رجالها خلال الشهر الكريم، وبهذه الموائد يجد الفقير طريقاً له للحصول على وجبات مختلفة فتمتاز هذه الموائد بتوفر كل ما لذ وطاب من لحوم وطواجن ومخبوزات لا يروها إلا بالمناسبات الكبيرة. ويشير أحمد البدوي من قرية العدوة بادفو أن هذه الموائد تكثر طوال الشهر خاصة داخل "دار الضيافة" الخاص بكل قرية أو قبيلة ، فيتم افتراش الدار من الداخل لكبار الرجال كما يتم رص الصواني المعدنية حول الدار ليجتمع بها الفقراء وأطفالهم للإفطار سويا، وعادة ما تقوم عدد من العائلات بعمل هذه المائدة يوميا بدار الضيافة خدمة للمساكين من أهالي القرية والقرى المحيطة" ويوضح لنا أن طبيعة القرى بادفو تجعل حصول الفقراء على الإفطار أسهل من المدن، حيث تعلم كل قرية ونجع عدد الأسر الفقيرة المحتاجة بها والتي عادة ما ترعاهم "جمعية تنمية المجتمع" ومن هنا يقيم الأهالي موائد رحمن مشتركة يجتمعون عليها مع هذه الأسر للإفطار يومياً" وبالرغم من انخفاض عدد موائد ارحمن بأسوان خلال السنوات الأخيرة نظراً للظروف التي تمر بها البلاد، إلا أن الأهالي بمدينة كوم امبو استبدلوا موائد الرحمن بتقديم وجبات سريعة لإفطار المارة، خاصة قرية النجاجرة حيث يجهز الأهالي علبة صغيرة تحوى على بضعة تمور وعصائر بجانب بعض قطع المخبوزات والبسكويت والتي يقومون بتوزيعها على الطرق السريعة للمارة وللباعة الجائلين بها. وعلى جانب آخر اشتهرت عدد من القرى النوبية بإعداد موائد الرحمن اليومية داخل دار المناسبات الخاص بالقرية، والتي تعد خدمة لأهالي القرية فقراؤها وأغنياؤها فيجلسون معا لتناول الإفطار. ومن قرية تنقار النوبية جنوب غرب أسوان، والتي لا تزال تحتفظ بعادة إقامة الموائد يوميا يشير حسين النيل، أن موائد الرحمن المقامة لا تتكفل بها عائلة بعينها ، بل يجهز كل منزل من منازل القرية عدد من الصواني وتختلف كمية الوجبات بحسب الحالة الاجتماعية للمنزل، أو يتجمع رجال القرية لإعداد الإفطار والعصائر معا بساحة القرية ثم يتم تجميع الصواني على الحصير المفروش بساحة القرية وينضم للإفطار كل المارة خاصة بسطاء القرية وفقراؤها. وبالرغم من أن قرى أسوان لا تشهد مظاهر الزينة الخاصة برمضان كما تشتهر محافظات الوجهة البحري، إلا أن الإفطار الجماعي وموائد الرحمن هي أهم مظهر من مظاهر بهجة رمضان بالنسبة لأهالي أسوان.