"المصريين قلقانين، ولازم تطمنهم".. هكذا بالحرف، استهل الرئيس عبدالفتاح السيسى لقاءه برئيس الوزراء الإثيوبى هايلى ماريام ديسالين. اللقاء عقد بالطابق الثانى فى مقر الاتحاد الأفريقى عصر أمس الأول، فى أعقاب الجلسة الافتتاحية للقمة الأفريقية السادسة والعشرين، التى بدأت متأخرة عن موعدها، وطالت عما كان مقدرا لها، بسبب كلمة مرتجلة مطولة ألقاها المناضل الأفريقى روبرت موجابى مختتما بها رئاسته للقمة، بددت رتابة الجلسة، وكانت حديث أروقة بيت أفريقيا. 45 دقيقة استغرقها اللقاء، وهو أمر غير معهود فى لقاءات القادة على هامش المؤتمرات الدولية والمحافل الإقليمية، خاصة إذا كان أحد طرفيها هو زعيم الدولة المضيفة. بالقطع.. كان ديسالين يتوقع أن يكون موضوع «سد النهضة» على رأس جدول أعمال مباحثاته مع الرئيس السيسي، وكان يتوقع أن يحتل صدارة الحديث وافتتاحية المباحثات، ومن دون شك، فقد شاهد أو طالع كلام الرئيس المصرى فى حفل تدشين مشروع المليون ونصف المليون فدان يوم ٣٠ ديسمبر الماضي. ولعله سعد برسالة الطمأنة التى وجهها الرئيس السيسى للشعب عندما قال: "اطمئنوا الأمور تسير بشكل جيد فى ملف سد النهضة، والشعب الإثيوبى يريد أن يعيش مثلما نحن نريد، والقيادة الإثيوبية أكدت لنا أكثر من مرة على عدم تضررنا من السد". ولعله أيضا استشعر مدى قلق الرأى العام المصري، وهو يدقق فى كلمات الرئيس: "أنا أقدر قلقكم، معكم حق، فالمياه مسألة حياة أو موت". *** من العبارة التى بادره بها الرئيس السيسى فى مباحثات أمس الأول، أدرك ديسالين أن الرئيس يود أن يقول له: "أنا مطمئن لأنى أثق فى التزامك، لكن عليك أنت أن تطمئن الشعب المصرى بالقول والفعل!" وكان رد ديسالين: "سيادة الرئيس.. أنا فى كل كلامى أطمئن الشعب المصري، بأننا لا يمكن أبدا أن نكون سببا فى أى مشكلة لمصر" ثم أضاف: "وها أنا أجددها اليوم، لن نسمح أبدا بأن تضار مصر على أى نحو، لن أسمح بأن يلحق بمصر ضرر لا فى المياه ولا فى غيرها. إننى أعلم ماذا تعنى مياه النيل للمصريين ولك، وأنت تعلم أيضا ظروفى". كان ديسالين يقصد بظروفه أمرين.. أولهما حاجة الشعب الإثيوبى للكهرباء التى سيوفرها له السد، من أجل تحسين حياة الناس، والحفاظ على معدلات تنمية غير مسبوقة، حققتها إثيوبيا فى عهده، والأمر الثانى أنه يتعرض من معارضيه ومن داخل حزبه لانتقادات بعد توقيعه اتفاق إعلان المبادئ الخاص بسد النهضة، مع الرئيسين المصرى والسودانى بالخرطوم فى مارس الماضي. فهناك من يتهمه بأنه فرط فى السيادة، عندما وقع على اتفاق يعطى مصر والسودان الحق فى الاتفاق مع إثيوبيا على قواعد الملء الأول لسد النهضة بالتوازى مع عملية البناء، وكذلك قواعد التشغيل السنوى للسد. وهناك من يرى أنه قدم لمصر وثيقة هى الأولى من نوعها بالنسبة لدول حوض النيل الشرقى. *** عقب الرئيس السيسى على كلام ديسالين قائلا: "مصر تحرص على تطوير علاقاتها بإثيوبيا، على أساس التعاون والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة للشعبين، والمهم ترجمة الروح الإيجابية والبناءة فى خطوات عملية فى كافة جوانب العلاقات والاستمرار فى التنفيذ الكامل لإعلان المبادئ وإتمام المراحل الفنية الخاصة بمشروع سد النهضة بما يضمن مصالح مصر المائية ومساعى إثيوبيا التنموية". ثم أضاف الرئيس: "إننا يجمعنا نهر واحد يمثل شريان الحياة لمصر". ورد ديسالين: «إن نهر النيل حبل سُرى يربط شعبينا فى علاقة تاريخية لا يمكن أبداً أن تنفصم". وقال: "نحن ملتزمون تماماً باتفاق إعلان المبادئ وتنفيذه بحسن نية، وأثق فى أننا سنتوصل إلى حلول تحقق مصالح الطرفين". *** من سد النهضة.. انتقل الحوار فى المباحثات إلى أفق آخر. تركز الحديث على الطبيعة الاستراتيجية للعلاقات المصرية الإثيوبية. وتم الاتفاق على تعاون أمنى واسع فى مجال مكافحة الإرهاب. أيضا اتفق السيسى وديسالين على تنشيط اللجنة الثلاثية العليا المشتركة التى تجمعهما بالرئيس السودانى عمر البشير، وسرعة تحديد مكان وموعد انعقادها للنظر فى مشروعات استراتيجية للتعاون بين الدول الثلاث. ووجه الرئيس السيسى الدعوة إلى رئيس الوزراء الإثيوبى لحضور منتدى الاستثمار بأفريقيا فى شرم الشيخ يومى ٢١ و٢٢ فبراير الحالي، وقال له: إن حضورك سيكون فرصة للتواصل مع المستثمرين المصريين وعرض فرص الاستثمار فى إثيوبيا. ورحب ديسالين بالدعوة وأكد حضوره أعمال المنتدي، ليكون فرصة أيضا للقاء جديد مع الرئيس السيسى. لقاء أمس الأول، كان القمة الثامنة التى تجمع السيسى بديسالين فى غضون ١٩ شهرا فقط. ليكون رئيس الوزراء الإثيوبى أكثر زعماء الدول التقاء بالرئيس المصرى على الإطلاق. كان اللقاء الأول فى ماليبو عاصمة غينيا الاستوائية على هامش القمة الأفريقية بعد ١٨ يوما فقط من تولى الرئيس السيسى رئاسة الجمهورية فى ٨ يونيو ٢٠١٤. من بعده تعددت اللقاءات، فى نيويوركوأديس أباباوشرم الشيخ، ثم الخرطوم، فأديس أبابا، ثم نيويورك من جديد على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة فى نهاية سبتمبر الماضي. كان لقاء ماليبو هو أول خطوة نحو إغلاق صفحة الشكوك وميراث عدم الثقة فى علاقات البلدين، وكان لقاء شرم الشيخ تدشينا لمرحلة جديدة عَبّر عنها ديسالين فى خطابه أمام المؤتمر الذى قال فيه: "كان أمامنا خياران.. إما أن نغرق أو نطفو.. وقد اخترنا أن نسبح معا". وكانت نتيجتها توقيع إعلان المبادئ فى الخرطوم يوم ٢٤ مارس الماضي، ثم خطاب الرئيس السيسى أمام البرلمان الإثيوبى بعدها بيومين فى أديس أبابا. ولعل الدعوة التى وجهها السيسى إلى ديسالين لإلقاء خطاب أمام مجلس النواب المصرى بعد انتخابه، قد يحين أوانها. عندما يأتى رئيس الوزراء الإثيوبى إلى شرم الشيخ بعد ثلاثة أسابيع، سيكون الاتفاق الخاص باختيار المكتبين الاستشاريين اللذين سيتوليان الدراسات المتعلقة بالآثار المائية والبيئية لسد النهضة، قد تم توقيعه بالخرطوم. الآن يجرى تحديد موعد حفل التوقيع وربما يتم خلال الأيام القادمة قبل الموعد الذى كان محددا من قبل وهو منتصف فبراير بحضور وزراء الرى بالدول الثلاث. *** .. سألت وزير الخارجية سامح شكرى الذى وصف القمة الثامنة بين الرئيس السيسى ورئيس الوزراء الإثيوبى ديسالين بأنها إيجابية: لماذا إذن كل هذا القلق والشكوك لدى الرأى العام المصري؟! قال: القلق نحن نتفهم أسبابه لأن مياه النيل هى مصدر حياة مصر والمصريين. لكن لابد أن نتحلى بالثقة فى أنفسنا وفى شركائنا، ليس بالتقليل من أهمية الموضوع، ولا بتضخيمه واتخاذ موقف التشكك الكامل وسوء النية. يجب أن نعلم أن هذه القضية موضع دراسة ومتابعة من كل أجهزة الدولة. ونحن أمام اتفاق ملزم ودراسات فنية ملزمة. ولابد أن ننظر للعلاقة بين الأطراف الثلاثة فى موضوع سد النهضة، على أنها علاقة شراكة، تحقق مصالحهم بتكافؤ وتقوم على الاحترام المتبادل. قلت لمسئول رفيع المستوي: هل نطمئن إذن على حصتنا فى مياه النيل؟ رد بهدوء: "علينا أن ننظر أبعد من مسألة سد النهضة وحصة مصر. إننا نزداد كل عام بأعداد هائلة من البشر، وتزداد مشروعاتنا عددا واتساعا، ومن ثم تزداد احتياجاتنا من المياه. إن ما يسقط من مياه الأمطار على الهضبة الإثيوبية أضعاف أضعاف حصة مصر. إننا نفكر ولابد أن نسعى لإقامة مشروعات مشتركة مع إثيوبيا لزيادة ايراد النيل الأزرق من المياه التى تهدر هباء لأننا سنصل إلى وقت تعجز فيه حصة مصر عن الوفاء باحتياجاتها المتزايدة. وهناك أفكار كثيرة فى هذا الاتجاه، ووقتها لن توجد مشكلة فى التمويل، حيث سترحب جهات عديدة بتوفير الاستثمارات اللازمة" واختتم المسئول رفيع المستوى حديثه معى قائلا: "آفاق التعاون بين مصر والسودان وإثيوبيا بالفعل غير محدودة، والشهور المقبلة ستثبت كلامى". ...من بعد الشك قد يأتى اليقين!